منذ أن بدأت الأخبار المترافقة مع تصريحات السفير الأمريكي لدى إسرائيل مايك هاكابي، حول نيّة الدولتين الحليفتين إدخال الغذاء إلى غزة عبر مبادرة تقودها الولايات المتحدة، ارتفعت الأصوات المعارضة لما سيصبح لاحقاً "مؤسسة غزّة الإنسانية".
كان هذا في شباط/ فبراير الماضي، لكن الرفض الأممي للفكرة لم يمنع من تحوّلها إلى حقيقة، وفعلياً احتكرت المؤسسة التي يقع مقرّها في ولاية "ديلاوير"، كل جهود الإغاثة داخل القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة إسرائيلية منذ قرابة العامين.
تحذيرات أممية ذهبت أدراج الرياح… أو الرصاص
تقارير المنظمات الإغاثية الدولية أشارت حينها إلى أنّ هذا الأسلوب إن تم تطبيقه على الأرض سيؤدي فعلياً إلى تجاوز نظام المساعدات الإنسانية الدولي القائم، كون هذه المراكز الجديدة ستُدار من قبل شركات أمنية عسكرية خاصة أو منظمات غير ربحية مختارة.
وأعلنت الأمم المتحدة حينها أنها لن تشارك في مثل هذه العملية المدعومة أمريكياً، ووصفت الخطة بأنها تفتقر إلى الحياد والاستقلالية وعدم الانحياز، وأن تسليم المساعدات لشركات أمنية خاصة سيشكل خطراً على العاملين في المجال الإنساني في أي مكان. كما أنّ تكاليف الأمن والخدمات اللوجستية لهذا النهج الجديد وغير الضروري ستتجاوز بكثير قيمة المساعدات نفسها.
وبحسب تحليل تحذيري نشره معهد "شاتهام هاوي"، في أيار/ مايو 2025، فإنّ "تسليم مسؤولية تقديم المساعدات لشركات أمنية عسكرية خاصة سيخلق سابقةً عالميةً خطيرةً، حيث سيطمس الحدود بين الإغاثة الإنسانية والقوة العسكرية".
منذ اللحظة الأولى لطرح فكرة "مؤسسة غزة الإنسانية" واجهت الخطة سيلاً من الرفض. الأمم المتحدة حذّرت من أن تسليم المساعدات لشركات أمنية خاصة سيقوّض النظام الإغاثي الدولي القائم. بينما أشار "تشاتهام هاوس" إلى أن هذه الخطوة ستخلق سابقة عالمية خطيرة، إذ ستطمس الحدود بين الإغاثة الإنسانية والقوة العسكرية
وأشار التحليل إلى أنه "بدلاً من المضي نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي للفلسطينيين كما تم تصوّره منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، يبدو أنّ هذه الحكومة الإسرائيلية تريد إعادة غزة عقوداً إلى الوراء، إلى ما بعد عام 1967 عندما كان الاحتلال العسكري الإسرائيلي يدير كل تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين. ومن المرجح أنّ هدف إسرائيل في السيطرة على القطاع ليس تقديم الخدمات، بل تقييدها".
بين موتين
تحققت المخاوف جميعها التي تم التحذير منها، وأكثر. ومنذ الأيام الأولى للمؤسسة، تبيّن أنّ ثمن الطعام هو المخاطرة بالحياة، وأنّ الغزّي مخيّر بين موتين: إما الموت البطيء بالجوع، أو الموت السريع برصاص القناصة على أسوار مؤسسة غزة الإنسانية.
في صباح ثقيل وسط ركام رفح، كان الطفل أمير، يخطو حافي القدمين نحو مركز توزيع تابع لمؤسسة غزة الإنسانية، قاطعاً مسافة 12 كيلومتراً سيراً على الأقدام، بحثاً عن لقمة تسدّ رمقه أو كيس صغير يعود به فخوراً إلى أمّه وإخوته. وحصل أمير بالفعل على كيس صغير يحوي بقايا طعام، وهو ما لا يمكن أن يتسبب في السعادة لأيّ طفل في العالم، لكن بالنسبة له وهو يتخيل وجه أمّه السعيدة بالكيس، كان كافياً كبيت من الحلوى.
التفت أمير إلى أحد الموظفين الأجانب، صافحه وهو يهمس "شكراً". دقائق لاحقة، وبينما كان يغادر المكان، دوّى الرصاص. أُصيب الطفل وسقط أرضاً، بحسب ما روى تفاصيل القصة الموظف السابق في المؤسسة، أنتوني أغيلار.
هذه القصة التي يمكن أن تتكاثر إلى ما لا نهاية من أفواه سكان القطاع، ليست إلا واحدة من آلاف، لكن الحظ -السيئ أو الجيد لا يهمّ- صنع لها شاهداً من خارج غزة، لذا تم توثيقها، وهذا هو الفارق الوحيد.
ومع فيضان الصور والأخبار والمظاهرات والتقارير الصحافية والحقوقية، كان لا بدّ للبيت الأبيض من درء شبهة المشاركة في الإبادة، ولا سيّما مع تمكّن أوروبا من إحراز نقطة أخلاقية على الولايات المتحدة بإعلانات الدول المتتالية نيّتها الاعتراف بدولة فلسطين، فأعلن البيت الأبيض أنّ المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي، ستيف ويتكوف، سيتوجه إلى غزة لتفقّد عملية تسليم المساعدات الغذائية ووضع خطة نهائية لتسريع دخول الإمدادات إلى القطاع.
المساعدات الجوية ليست أكثر من "مصائد موت" جديدة، تسقط في مناطق يصعب الوصول إليها أو فوق الخيام أو تستحوذ عليها جماعات مسلحة، لتتحول إلى أداة إذلال وتجويع جديدة.
وصرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولاين ليفيت، موضحةً: "سيقدّم المبعوث الخاص والسفير إفادةً للرئيس فور عودتهما من أجل الموافقة على خطة نهائية لتوزيع الغذاء والمساعدات في المنطقة".
هذه التصريحات "الإنسانية" من البيت الأبيض، استدعت ردّاً فورياً من "هيومان رايتس ووتش"، التي نشرت بياناً في يوم زيارة ويتكوف نفسه، في الأول من آب/ أغسطس 2025، قالت فيه: "عمليات قتل القوات الإسرائيلية للفلسطينيين الباحثين عن الطعام تُعدّ جرائم حرب، واستمرار حرمان القطاع من المساعدات بمثابة جريمة ضد الإنسانية أو إبادة جماعية"، وطالبت المنظمة المجتمع الدولي والولايات المتحدة بوقف ما وصفته بنظام توزيع المساعدات "المُعيب"، والضغط على إسرائيل لرفع القيود غير القانونية على دخول الدعم إلى غزة.
كما وثّقت المنظمة سقوط ما لا يقلّ عن 859 فلسطينياً، قُتلوا في أثناء محاولتهم الحصول على الطعام قرب مراكز توزيع تديرها مؤسسة غزة الإنسانية، بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو الماضيين، معظمهم برصاص الجيش الإسرائيلي حسب الأمم المتحدة.
ماذا عن الشاحنات؟
هذا في ما يخص مؤسسة غزة الإنسانية، لكن ماذا عن الشاحنات والإنزالات الجوية للطرود وإعلانات إدخالها إلى القطاع؟ وإذا كانت المساعدات تدخل، لماذا لا تصل إلى المحتاجين؟ وأين تتسرب؟
هنا تأتي شهادة دعاء شاهين، وهي صحافية رصيف22 من شمال القطاع ووسطه. تقول: "المساعدات لم تصل إلى مستحقّيها، ولم تغطِّ شيئاً من احتياجات الناس. كل ما يحدث بروباغندا أو فزاعة إسرائيلية إعلامية لتحسين صورتها أمام الرأي العالمي الذي أحدث ضجةً تجاه تجويع أهالي غزة والمساومة حتى على طعام الأطفال".
وتضيف: "الحقيقة هذا الأمر عشوائي وفوضوي. تقوم بعض مؤسسات مثل مؤسسة إنقاذ المستقبل الشبابي بإعلان أنها وزعت أكياس طحين بالتعاون مع الأمن الغذائي العالي، ومؤسسة الفارس الشهم، لكن لا أحد يعلم ما هي المعايير التي تم توزيع خلالها المساعدات على فئات محددة جداً. مثلاً، الفارس الشهم معروفة أنها تتبع للتيار أي جماعة محمد دحلان. ومن ينتمي لهذه الجماعة استلم أما غيره فلم يحصل".
وبحسب مشاهداتها، فالمساعدات تتعرض للنهب والسرقة من قبل قطاع طرق، من قبل عوائل مسلحة في غزة تسيطر على المساعدات، ثم تقوم ببيعها للناس. والأكثر مرارة أن من بين تلك المساعدات التي انتشرت في الأسواق حليب الأطفال الرضع والحفاضات، وهي منتجات يتم بيعها بأسعار مهولة جداً، حيث تصل علبة الحليب الواحدة إلى 100 دولار، أما حفاضات الأطفال ثمنها 300 إلى 350 دولار.
الناس ينتظرون وصول المساعدات للأسواق
أما محمد تيسير، صحافي رصيف22 في مخيم النصيرات، فيشير إلى أنه في الأسابيع القليلة السابقة لاحظ السكان في جنوب غزة وشمالها بعض الانتظام النسبي في دخول بعض شاحنات المساعدات بشكل متفرق وغير نظامي، ومن معابر حدودية مختلفة ومتغيّرة سواءً في الجنوب أو الشمال.
وبحسبه فهذه الشاحنات تدخل تحت بند (الاستفادة الذاتية) بمعنى أن الشاحنات لا تبتعد كثيراً داخل غزة، بل تتوقف بالقرب من المحاور الجديدة التي شقها الجيش الإسرائيلي؛ ثم يهرع السكان إليها بأنفسهم لتفريغ حمولتها. أي أن المساعدات لا تصل إلى المستودعات، بالتالي تكون من نصيب الأكثر قدرة على المخاطرة، والاقتراب من مناطق تواجد الجيش الإسرائيلي، وغالباً ما يكون أول الواصلين من فئة تجار المساعدات، واللصوص، أما المواطن العادي فيضطر إلى انتظار ظهور تلك المساعدات في الأسواق".
المساعدات التي تدخل القطاع لا تصل إلى مستحقّيها، بل تتعرض للنهب والاحتكار، وتتحول إلى سلعة تباع بأسعار فلكية. في غزة، من يمتلك القوة يحصل على الطعام، ومن يمتلك المال يشتريه، أما من يفتقر للقوة والمال، فيموت من الجوع
ويضيف: "يمكن القول تجاوزاً إن الجهة الوحيدة التي توزع المساعدات في غزة في الوقت الحالي هي (مؤسسة غزة الإنسانية GHF) والتي هي الأخرى تتطلب مواجهة احتمالات الموت أو الإصابة برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء محاولة التقدم في سباق الوصول إلى ساحة توزيع المساعدات. وعليه فالأكثر قدرة على الوصول هم نفس الفئات التي تستطيع الوصول إلى شاحنات المساعدات التي تعبر إلى المناطق الحدودية، ويظل الناس في انتظار وصول المساعدات إلى بسطات الأسواق ليتمكنوا من شرائها بأسعار جنونية".
مصائد موت… في السماء وعلى الأرض
ما دام الإنسان الغزي غير المدعوم من فصيل او عائلة كبيرة غير قادر على تطبيق مبدأ التوزيع الذاتي بنفسه، فربما تشكل المساعدات الجوية بديلاً ممكناً للناس، أو على الأقل هذا ما يبدو عليه الحال نظرياً، دعاء شاهين تجيب على هذه النظرية، تقول: "كلاهما أسلوب ممنهج لزيادة التجويع والإذلال بشكل واضح. المساعدات الجوية غالباً ما تسقط في مناطق غير مأهولة أو لا يتم الوصول إليها بسبب سيطرة الاحتلال أو بعدها عن مراكز النزوح. وأحياناً تُتنازع عليها مجموعات أو أفراد، ما يؤدي لفوضى أو استحواذ طرف واحد عليها".
بينما يرى محمد تيسير أن "ربما الفارق الوحيد هنا أن المساعدات الجوية نظراً لعدم إمكانية تحديد توقيت إسقاطها، ومكان سقوطها بدقة، فمن الصعب تتبعها ورصدها والهجوم عليها، وعليه فهي تكون من نصيب أولئك الذين كانوا بالقرب من مكان سقوطها أو الذين وصلوا أولًا بعد تتبع طائرات المساعدات. رغم ذلك فإن حالة الفوضى والاقتتال على المساعدات الجوية لا تقل حدة وعنف عن فوضى المساعدات البرية. وبالطبع هي شحيحة للغاية وتقدر حمولتها بأقل من شاحنة واحدة".
سار أمير، وهو طفل من رفح، حافياً لـ 12 كيلومترًا نحو مركز توزيع "مؤسسة غزة الإنسانية". وحصل على كيس بقايا طعام، وقبل أن يصل لأمه أُصيب برصاص قناص إسرائيلي. وقصته هي واحدة من آلاف القصص.
وتضيف مريم صادق، وهو اسم مستعار لصحافية رصيف22 من شمال القطاع وصفاً أكثر حدة، تقول: "المساعدات الجوية تشبه كما لو أن قام أحدهم بحبس أكثر من 50 شخصاً في غرفة ضيقة، ثم دس لهم طبقاً واحداً من الحساء. الكل يصارع من أجل الحصول على ملعقة واحدة لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنه صراع البقاء. الأمر جداً مأساوي وحزين… ومُهين. لا أحد في غزة يشعر أن هناك تحسناً أو انفراجة. الناس ما زالت تأكل الخبز اليابس إن وُجد، الأطفال ينامون على بطون فارغة، المرضى يموتون وهم ينتظرون علبة دواء، بعض العائلات تُقسّم كيس المعونة مع ثلاث أو أربع عائلات أخرى".
تختصر مريم صادق الصورة بالقول: "لا، لم تصل المساعدات إلى الناس بشكل فعلي وواسع. أنا كمواطنة لم أتلقَّ أي مساعدة حتى اليوم، رغم الوعود والإعلانات المتكررة حول دخول شحنات الإغاثة. ما يحدث على الأرض مختلف تماماً عمّا يُعرض في التصريحات الرسمية أو البيانات الدولية".
وتضيف: "المشهد الحقيقي هو فوضى، قتل، وإهانة مستمرة للناس. المساعدات؟ لا تصل، وإن وصلت فهي تُسرق أو تُباع أو تُحتكر. أصحاب المؤسسات ومندوبي المناطق. المساعدات لا توزع إلا على (الموالين) أو عبر وسطاء تابعين لجهة محددة. تُستخدم المساعدات كأداة سيطرة، مش كحق إنساني. وإذا كنت لا تتبع لأي جهة، أو ما عندك واسطة؟ ما بيوصلك شيء. بعض منظمات الإغاثة المحلية والدولية عندها محسوبية وفساد، موظفين يوزعون على عائلاتهم أو معارفهم أولًا، وبعض الجمعيات تخزّن المواد في مخازنها رغم أن الناس تموت من الجوع".
خلاصة الحديث أن من يمتلك القوة يأكل في غزة، ومن لا يمتلكها يضطر لشراء الطعام بأسعار فلكية، أما من لا يمتلك المال ولا القوة، فيموت من الجوع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.