ضجّت أمريكا قبل أيام بخبر إلغاء برنامج الكوميدي الشهير ستيفن كولبير، أحد أهم وأنجح البرامج الحوارية وبرامج "الستاند أب" التلفزيونية في البلاد. خبر قد يبدو سخيفاً أو هامشياً في ظل الأحداث التي نعيشها اليوم في منطقتنا، والمجاعة الكارثية في قطاع غزة. لكن التحرّكات التي سبقت هذه الخطوة أكثر أهميةً. سلسلة من التطورات من شأنها أن تؤدّي إلى انهيار المعايير الصحافية في مؤسسة تُقدَّر ببلايين الدولارات، وتهدّد بتحويل جزء كبير من الـ"وسط السياسي" الأمريكي إلى أقصى اليمين الداعم لإسرائيل.
هذه المؤسسة الإعلامية هي "CBS"، وقد أنتجت برامج شهيرةً على مستوى العالم مثل "60 دقيقةً"، الذي لا يزال يُعرض منذ ستينيات القرن العشرين. تعود ملكية "CBS" إلى شركة "Paramount Global"، التي تتحكّم في حصّة كبيرة في السوق الإعلامي الأمريكي. انشغلت "CBS" باستقطاب جمهور الـ"وسط السياسي" الأمريكي. وهذا الـ"وسط"، غالبية أفراده فوق سنّ الخمسين عاماً، ولا يكون في العادة لهذا الجمهور نشاط سياسي فاعل، حاله كحال زبون في محل حلوى يطلب فقط القهوة السادة.
إذا وصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة تقوم فيها واحدة من أكبر مؤسسات البث في العالم "CBS" بدفع "رشوة" لرئيس البلاد، وإلغاء البرامج التي تنتقده، فإلى أين تتجه الصحافة في أمريكا والعالم؟
في عام 2010، أصدرت المحكمة العليا في أمريكا قراراً في قضية "مواطنون متحدون ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية"، سَمح للأمريكيين فاحشي الثراء بتمويل انتخابات سياسية دون سقف، فاندفع كثيرون منهم إلى الانخراط في عالم السياسة، وزادت رغبتهم في التأثير على الرأي العام في ما يخدم مصالحهم.
وصل ذلك إلى ذروته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2024، حيث أنفق أثرياء أمريكيون 1.84 بليون دولار أمريكي بحسب منظمة "أمريكيون من أجل عدالة ضريبية"، على حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية، أي أكثر بكثير مما أنفقوا على المرشحة الديمقراطية للرئاسة، كامالا هاريس. إيلون ماسك، وحده، أنفق 277 مليون دولار أمريكي على حملة ترامب الانتخابية، ليصبح أكبر مبلغ أنفقه شخص واحد لدعم مرشح انتخابي في التاريخ الحديث.
اليمين المتطرّف وصناعة الإعلام
برز أيضاً اتجاه آخر في اهتمامات هذه الطبقة الثرية: السيطرة الإعلامية. هنا يظهر اسم قد نسمعه كثيراً في الشهور القادمة، وهو لاري إليسون، أحد مؤسّسي شركة أوراكل العالمية للتقنية وأنظمة البيانات، والتي تأسّست في سبعينيات القرن العشرين بهدف إنشاء قاعدة بيانات وكالة الاستخبارات الأمريكية "CIA".
نشأ لاري في حاضنة يهودية في نيويورك. وبرغم إلحاده، إلا أنه كان منذ البداية "مؤمناً بإسرائيل". يكفي أن نقول إنه صديق مقرّب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، وإنه قام بدعم مشروع للتنقيب عن الآثار تحت حي سلوان في القدس الشرقية المحتلة، وهو المشروع الذي يهدف إلى تهويد المدينة وتشويه تاريخها، كما أنه سافر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لحضور حفل افتتاح يتعلّق بهذه التنقيبات. لاري هو أيضاً أحد الذين يؤمنون بأنّ الانتخابات الرئاسية لعام 2020، تم تزويرها لصالح الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، وقد دعم ترامب في المرات الثلاث التي ترشّح فيها للرئاسة.
وبرغم أنه يأتي رابعاً ضمن قائمة أغنى أغنياء العالم حالياً التي يتصدّرها إيلون ماسك -بحسب مجلة "فوربس" الأمريكية- إلا أننا لا نسمع عنه مثل بقية أصحاب المليارات. لا ينشر لاري آراءه على منصات التواصل الاجتماعي. وجدت على حسابه الموثّق على إكس (تويتر سابقاً)، تغريدتَين فقط وتعليقاً واحداً. كما أنه لا يوافق على إجراء مقابلات إلا نادراً، ولا يقوم اليوم بإدارة شركة "أوراكل" التي ساهم في تأسيسها. لكننا لا نحتاج إلى كلماته، فاستثماراته تقول كلمتها.
دَعَم لاري نجله ديفيد إليسون، بمبلغ يقارب 350 مليون دولار أمريكي لإنشاء شركة "سكاي دانس ميديا" عام 2009. تخصّصت الشركة، مذ أصبحت واقعاً في 2010، في إنتاج أفلام الآكشن الـ"Blockbusters" التي تركّز في أغلبها على تحقيق الإيرادات أكثر من تركيزها على المضمون مثل "Mission Impossible" و"Jack Reacher" و"World War Z". للتذكير، فيلم "World War Z" تحديداً عمد إلى تصوير إسرائيل على أنها معقل أخير يتصدّى لجماعات "زومبي" تأتي من الأراضي الفلسطينية، بينما يحميها الجدار العازل والجيش الإسرائيلي ممن حولها من "الهمج".
وكما يقول المثل العربي: "فرخ/ ابن البط عوّام"، فديفيد أيضاً مناصر لإسرائيل كوالده، وقد دعمها مالياً بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
بعد بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، حصل انقلاب في المجتمع اليهودي في أمريكا. لاحظت هذا الاختلاف في محيطي الشخصي ممن هم حولي من اليهود الأمريكيين. اتجه بعض هؤلاء، خصوصاً الشباب دون الثلاثين عاماً، نحو رفض الاحتلال والسياسات الإسرائيلية. لكن الأغلبية، وإن كانوا ملحدين أو لادينيين، وينتقدون إسرائيل أينما ذهبوا، تبدّلت أهواؤهم بسرعة. تحوّل هؤلاء إلى مناصرين عُتاة لإسرائيل، وتبّنوا آراء يمينيةً لطالما أنكروها في الماضي. يبدو أنهم أحسّوا بأن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان بمثابة تهديد صريح لوجودهم، وإن لم تربطهم أي علاقة بإسرائيل، وإن لم يزوروها ولو لمرة واحدة. لقد تفاجأت بردة فعل مواطنين أمريكيين يعيشون في الولايات المتحدة حياةً آمنةً، بينما يتحوّلون إلى مناصرين لإسرائيل لمجرّد أنهم يؤمنون بارتباط "عرقي" لمكان بالكاد يعرفونه على الجانب الآخر من العالم.
الأمريكيون المنتمون إلى الـ"وسط السياسي" لن يدركوا وهم يشربون قهوتهم السادة، أنهم كالسمكة التي تسبح في قدر يَسخُن تدريجياً فوق النار. قنواتهم الإخبارية، التي استبعدت الفلسطينيين كضيوف منذ تأسيسها، ستضاعف يوماً بعد يوم بث الأكاذيب على أنها "حقائق"
انقلاب مشابه شهدته محطة "CBS". عائلة ريدستون اليهودية والمناصرة لإسرائيل تتحكّم في القرارات في "Paramount Global" و"CBS". لكنها وعلى مرّ السنوات، حاولت إلى حدّ ما فصل آرائها وتوجهاتها السياسية عن السياسة التحريرية للشبكة. لا أشك أنه كان هناك تمييز في التعيينات لصالح صحافيين، ومحررين، ومنتجين موالين، أو على الأقل غير معادين لإسرائيل. لكن هذا التمييز كان "تحت الطاولة".
تقلّبات في المشهد الإعلامي الأمريكي
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تغيّر الوضع، وبدأت عائلة ريدستون تتدخّل في السياسة التحريرية علناً، وتشجب أيّ تقرير ينتقد إسرائيل. أدّى هذا إلى تغيير رئيس تحرير برنامج "60 دقيقة"، بعد أن عمل في الشبكة في مناصب مختلفة لسبعة وثلاثين عاماً، والسبب كان تقريراً انتقد السياسات الإسرائيلية.
لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما أعلنت "Paramount Global"، و"سكاي دانس ميديا"، عن رغبتهما في الاندماج لتصبحا شركةً واحدةً تحت قيادة الشاب ديفيد إليسون -ابن الملياردير لاري إليسون- في تموز/ يوليو 2024. وقد أعقبت هذا الإعلان سلسلة من التطورات غير المتوقعة، كان أبرزها موافقة "Paramount Global" على دفع 16 مليون دولار كتسوية لقضية خاسرة رفعها دونالد ترامب بسبب طريقة تعامل برنامج "60 دقيقةً" مع مقابلة للمرشحة الديمقراطية في أثناء الانتخابات. القضية التي رفعها ترامب، بشهادة جميع القانونيين الأمريكيين الذين قمت باستشارتهم، كانت قضيةً خاسرةً في أي ظرف آخر، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها، لكن المهم هو أنّ "Paramount Global" قبلت أن تدفع هذه التسوية لترامب برغم أنها ستكسب القضية إذا ما كانت استمرت في المحاكم.
والسبب المعقول هو أنّ هذه التسوية أقرب إلى "رشوة" قبلت أن تدفعها الشركة كي لا تقف الجهة الرقابية المسؤولة عن اندماج مؤسسات البث، عقبةً في طريق هذا المشروع. وكما هو معروف، ترامب لا يغفر لأعدائه، ويتعامل بطريقة "العين بالعين". لذلك فإنّ تقديم هذا "العربون" -أو القربان- لترامب كان هدفه أن يبارك الرئيس الأمريكي خطوة الاندماج. وبالفعل فقد وافقت الحكومة الأمريكية على دمج الشركتَين في 25 تموز/ يوليو الجاري.
انتبه الأمريكيون إلى تداعيات هذا القرار عندما أعلنت "Paramount Global"، قبل حصولها على الموافقة الحكومية، إلغاء البرنامج الكوميدي الذي أشرت إليه في بداية هذا التقرير، لأنه من أكثر البرامج التي انتقدت ترامب علانيةً على الشبكة. ويمكن أن نستنتج أن إلغاء البرنامج الكوميدي كان شرطاً من شروط الموافقة الحكومية. في المقابل، تدّعي "Paramount Global" أنّ سبب الإلغاء مالي بحت، وهو سبب يبدو غريباً بالنظر إلى نجاح البرنامج جماهيرياً واستمراره لعشرة أعوام.
لكن لم يلفت انتباه الإعلام الأمريكي بالدرجة نفسها، خبر متزامن، على الرغم من أنه يفسّر المسار الجديد الذي ستسلكه "CBS" تحت قيادة الشاب ديفيد إليسون. بدأ ديفيد في تموز/ يوليو 2025 مفاوضات مع منصة "The Free Press" أو "الصحافة الحرة" من أجل شراء المنصّة وضمّها إلى إمبراطوريته الإعلامية بمبلغ 250 مليون دولار أمريكي.
ولمن لا يعرف "The Free Press"، فهي منصة آراء يمينية وأخبار مضلّلة تدّعي أنها "صحافة". مؤسِّسة هذه المنصّة، باري وايس، ليست من أولئك الذين تذكروا فجأةً أنهم يحتاجون إلى إسرائيل بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بل لديها تاريخ "صهيوني" قديم، وقد نشطت في مهاجمة أي رأي ينتقد إسرائيل مذ كانت طالبةً في الجامعة.
عملت وايس كمحررة مع "نيويورك تايمز" لثلاثة أعوام، وتعيينها في حد ذاته كان يطرح الكثير من الإشكاليات بسبب نشاطاتها السياسية الواضحة منذ أيام الجامعة. استقالت وايس من عملها في الصحيفة المرموقة، ولكنها لم تخرج بهدوء. كتبت خطاب استقالة شديد اللهجة وقامت بتحميله على الإنترنت على موقعها الشخصي. زعمت في هذا الخطاب تعرّضها للتنمر بسبب آرائها الصهيونية، واستهجانها من أنّ "نيويورك تايمز" طلبت منها ذكر الفلسطينيين وتاريخهم في كتاباتها لعرض وجهات نظر مختلفة، وهو أمر وجدته وايس غير مقبول.
قامت وايس بعد استقالتها بإنشاء "The Free Press"، التي سوّقت للكثير من الأكاذيب التي انتشرت أخيراً حول حرق إسرائيليين أحياء في أثناء هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وإنكار المجاعة في غزة. تقوم المنصة بنشر هذه الادعاءات والآراء تحت مسمى "تحقيقات" يقوم بها "صحافيون مختصّون" في "الاستقصاء"، وليس حتّى مقالات رأي.
لم تقتصر أكاذيب "The Free Press" على غزة. عام 2022، ادّعت وايس أنّ مبالغات حصلت في إحصاء المقابر الجماعية بحق السكان الأصليين في كندا، لتخرج بعدها جامعة كندية وتطالب السلطات بوقف هذه الأكاذيب المضللة التي تنشرها "The Free Press".
ولاحقاً، نشرت "تحقيقاً نارياً"، زعمت فيه أنّ "معاداة السامية" قد تضاعفت بنسبة 670% في كندا، قبل أن يتضح أن جميع الإحصاءات المستخدمة في "التحقيق" لا أساس لها من الصحة. وواصلت المنصّة تصوير عالم موازٍ يسير بقواعد وإحصاءات مزيفة.
بماذا يُنبئ ذلك؟
"مالنا ومال الكاذبين؟"؛ قد يسأل القارئ. المشكلة هي أنهم يزعمون كشف الحقيقة ويستخدمون في سبيل ذلك سيلاً من المعلومات المضلّلة كي يصدِّق العالم روايتهم. بدلاً من استثمار وقتها بشكل إيجابي، تضطر المؤسسات الأكاديمية إلى هدر الوقت والمال لتصحيح أكاذيبهم، وينشغل من تسعدهم هذه الأكاذيب في استخدامها لتبرير عنصريتهم.
أمريكا تتجه إلى تعزيز قطبَي الاختلاف إذ تنجرف مؤسسات الإعلام التقليدية إلى أقصى اليمين، بينما يتجه الشباب الذين لا يشاهدون البثّ التلفزيوني إلى منصّاتهم اليسارية عبر تيك توك ويوتيوب وغيرهما. وفي خضم كل ذلك، يستمر الأثرياء الأمريكيون في تقديم الرواية الصهيونية باعتبارها "الواقع الوحيد الممكن"
معظم متابعي باري وايس، من الأثرياء البيض الذين يريدون أن يتبرّأوا من ذنب "العرق الأبيض"، ويؤمنون بأحقية هذا العرق وتميّزه عن غيره، فيميلون إلى تصديق أي أكاذيب تعكس معتقداتهم. وايس تعرف هذا جيداً وتعرف أنّ الكثير من متابعيها من القوميين والعنصريين البيض لن يتفقوا معها تماماً في ما يتعلّق بإسرائيل. لذا، هي تخاطبهم على قاعدة المصلحة المتبادلة، وتجد من خلال ذلك فرصاً تتوافق فيها المصالح الإسرائيلية مع نظرة جمهورها إلى العالم. وقد اكتشفنا اليوم أنّ واحداً من متابعي هذه المنصة هو الملياردير ديفيد إليسون، والذي يريد أن تصبح أفكار "The Free Press" جزءاً من الأخبار التي يتداولها الأمريكيون في المستقبل على أنها "حقائق".
وفي النهاية، إذا وصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة تقوم فيها واحدة من أكبر مؤسسات البث في العالم "CBS"، بدفع "رشوة" لرئيس الولايات المتحدة، وإلغاء البرامج التي تنتقده، فإلى أين تتجه الصحافة في أمريكا والعالم؟ الأمريكيون المنتمون إلى الـ"وسط السياسي" لن يدركوا وهم يشربون قهوتهم السادة، أنهم كالسمكة التي تسبح في قدر يَسخُن تدريجياً فوق النار. قنواتهم الإخبارية، التي استبعدت الفلسطينيين كضيوف منذ تأسيسها، ستضاعف يوماً بعد يوم بث الأكاذيب على أنها "حقائق". أمريكا تتجه إلى تعزيز قطبَي الاختلاف إذ تنجرف مؤسسات الإعلام التقليدية إلى أقصى اليمين، بينما يتجه الشباب الذين لا يشاهدون البث التلفزيوني إلى منصّاتهم اليسارية عبر تيك توك ويوتيوب وغيرهما. وفي خضم ذلك كله، يستمر الأثرياء الأمريكيون في تقديم الرواية الصهيونية باعتبارها "الواقع الوحيد الممكن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.