خرج رئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة السورية، أكبر تشكيلات المعارضة السورية السياسية، عديمة النفع، سالم المسلط، بخطاب قبل أيام تحدث من خلاله إلى "السوريين"، بعد تعرضه لهجوم في مدينة إعزاز، في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، من قبل محتجين غاضبين من عجز الائتلاف، وتوأمة مواقفه مع مواقف تركيا الأخيرة حول التقارب مع نظام الأسد والإعلان عن لقاءات رفيعة المستوى بين الطرفين.
دافع المسلط، في خطابه، عن المحتجين، عادّاً أنه تواجد في إعزاز للوقوف إلى جانبهم لا أكثر، وطبعاً لم يخلُ الخطاب من تهم التخوين والعمالة المباشرة أو المبطنة، كما هي حال الزعماء العرب عموماً، إلى درجة تساءلت معها وأنا أستمع إليه، عمّا إذا استعان بكاتب خطابات قيس سعيّد. في خطابه، اتهم وهاجم وخوّن وغضب بصمت الحكيم، وهدوء الحليم، وكأنه رئيس منتخب، يدافع عن شرعيته في بلد جذوره الديمقراطية تعانق عبق التاريخ من أيام الدولة الأموية وحتى اليوم.
لست هنا لمهاجمة الائتلاف ولا رئيسه، بحكم أن "الضرب بالميّت حرام"، فالائتلاف وقبله المجلس الوطني (نعم هو ذاته الذي امتلك فيه الإخوان المسلمون الثلث المعطل طبقاً لدستور حكومة جمهورية الموز المنتخبة شرعياً)، لم يقدّما شيئاً لا للسوريين ولا لثورتهم، وربما ينطبق الأمر نفسه على عشرات الأحزاب السياسية والتيارات في عموم العالم العربي الذي تعاني دوله من أزمات تهدد وجودها حرفياً، هذا من جهة.
من جهة أخرى، تعمل الديكتاتوريات عموماً على مبدأ فرّق تسد. حتى رؤساء الأفرع الأمنية في سوريا أم في غيرها، عُرف عنهم تجسسهم على بعضهم البعض والاحتفاظ بملفات تدين الجميع تحضيراً ليوم مواجهة خلف الستار لا يعلم عنها الشعب شيئاً، وأجزم أن كلّاً من الأسد أو صدام حسين أو معمّر القذافي أو غيرهم من رعيل الديكتاتوريات السابق والحالي، يشعر بسعادة بالغة وهو يرى أعمدة حكمه تتصارع ويتحكم بها كما الماريونيت، وأعتقد أن هذا الكلام ينطبق، ولو بشكل مختلف قليلاً، على المعارضة السورية؛ سياسيةً كانت أم عسكريةً.
دفعتني حادثة رفض السوريين لوجود المسلط بين صفوفهم في مظاهراتهم، ورفض شريحة مجتمعية واسعة لأي صلح مع الأسد، إلى التفكير في إمكانية نشوء وعي جمعي سوري جديد، فهل هذا ممكن؟
دفعتني الحادثة ورفض السوريين لوجود المسلط بين صفوفهم في مظاهراتهم، وإصرار شريحة مجتمعية واسعة لا يستهان بها تتواجد في شمال سوريا (مناطق خارجة عن سيطرة النظام السوري)، وفي أوروبا والدول المحيطة في سوريا، ورفضها المتكرر لأي صلح مع الأسد، إلى التفكير في إمكانية نشوء وعي جمعي سوري جديد تحتاج إليه البلاد والعباد على حد سواء، في زمن وظروف إن استمرت فإن أفضل مستقبل لسوريا سيكون كما لبنان اليوم... دولة فاشلة.
قبل أيام، تساءل الكاتب السوري راتب شعبو، في مقال نشره في صحيفة العربي الجديد، حول إمكانية تحوّل الفشل السوري إلى نجاح في ظلّ غرق روسيا في معركتها في أوكرانيا، والظروف المعقدة التي تعيشها إيران، وأنا أودّ أن أسأل السؤال نفسه من زاوية أخرى، تتعلق بسنوات الخيبة الطويلة التي عاشها السوريون في مختلف مناطق البلاد، وبغض النظر تحت أي راية أو سلطة أمر واقع تسيطر على مناطقهم، فهل مشكلتنا الوحيدة كسوريين اليوم، هي في السلطات الحاكمة وداعميها؟
سلطات الأمر الواقع هذه وداعموها من أجهزة الاستخبارات ومناطق النفوذ الخمسة (من إسرائيل في الجنوب إلى تركيا في الشمال)، بالتأكيد يُعدّون جزءاً من المشكلة الأساسية، وكذلك وجود الأسد وأشباهه في جميع المناطق السورية، لكن في المقابل، لدينا اليوم وبعد أكثر من عشر سنوات من المأساة، مشكلات أخرى هي نتيجة لبقاء الأسد في السلطة، والأسوأ أن بقاءه ليس المشكلة الوحيدة، ورحيله لن يحل وحده كُل ما نعانيه كشعب، وتعانيه البلاد.
يدرك الكثير من السوريين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والإنسانية والأيديولوجية، وجود شرخ مجتمعي، طائفي ومناطقي، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى طبيعة الصراع وأسبابه وخمسين عاماً من حكم ديكتاتوري دموي، ومن المفهوم تقوقع الأفراد ضمن دوائر أمانها الديني والمجتمعي في أوقات الأزمات، لكن هذا كله لا ينفي فكرة وجود الشرخ، إذ لا يمكن بناء سوريا جديدة من دون عملية بناء مجتمع جديد مختلف، وهي ليست عمليةً سهلةً بالطبع.
مثلاً، إذا أخذنا الواقع اليوم، فما الذي يمنع القاطن تحت سيطرة "أبو محمد الجولاني" مرغماً، أو تحت سيطرة الجيش الوطني أو قوات سوريا الديمقراطية أو نظام الأسد، من التعاطف مع بعضهم في وقت وقوع الكوارث على الأقل؟ وهل يمنح الوقوف مع الثورة الحق والصكّ بالغفران وتالياً يمكن ألا يُعدّ الجولاني أو غيره مشابهين للأسد؟
في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر حول الانتهاكات في سوريا لعام 2022، وأنا هنا أقتبس حرفياً من التقرير: "بلغت حصيلة حالات الاعتقال/ الاحتجاز التَّعسفي في عام 2022، قرابة 2،221 حالةً، بينها 148 طفلاً و457 سيدةً (أنثى بالغة)، و1،017 حالةً بينها 38 طفلاً، و416 سيدةً على يد قوات النظام السوري، و202 على يد هيئة تحرير الشام بينهم 13 طفلاً و3 سيدات، و369 بينهم 4 أطفال، و28 سيدةً على يد جميع فصائل المعارضة المسلحة/ الجيش الوطني، و633 بينهم 93 طفلاً، و10 سيدات على يد قوات سوريا الديمقراطية".
وبالمناسبة، تُعدّ الشبكة، إحدى أبرز المؤسسات التي توثّق الانتهاكات وتحظى بثقة من مختلف الجهات الدولية وكذلك الصحف ووسائل الإعلام العربية والعالمية، ونتحدث هنا فقط عن الاعتقال التعسفي عدا عن باقي الانتهاكات بما فيها الموت تحت التعذيب وغيره.
ما الذي يمنع القاطن تحت سيطرة "أبو محمد الجولاني" مرغماً، أو تحت سيطرة الجيش الوطني أو قوات سوريا الديمقراطية أو نظام الأسد، من التعاطف مع بعضهم في وقت وقوع الكوارث على الأقل؟
وبناءً على ما سبق، وبما أن التشابه يصل إلى حد التطابق (مع اختلاف الطوائف والعرقيات الحاكمة)، يبرز السؤال حول إمكانية أن نشهد وعياً جمعياً سورياً يتعلق بالبناء والمستقبل وفهم طبيعة التحالفات والوقوف ضد من باع واشترى في السوريين على مدى عقد كامل؟
أحد أهم الأسباب التي تقود إلى مُجرد التفكير في ظهور وعي جمعي هي الخيبة بمعناها الحرفي، والشعور بالخذلان الناتج عن إدراك السوريين الغائبين عن ممارسة السياسة، أن الأخيرة هي لعبة مصالح وأن الدول التي شعر السوريون بأنها خذلتهم لا تنتظر سوى مصالحها والسعي إلى أمنها القومي، وهذا ما يعني أن النظر إلى سوريا ذاتها ونظرة السوريين إلى أنفسهم قد تختلف، والظروف القاتلة التي يعيشها السوريون وتحديداً من هم في داخل سوريا، ربما تدفع إلى هذا الاتجاه.
يدرك من يعيش في خيام اللجوء المنتشرة في القرى شماليّ البلاد، أن سلطة الأمر الواقع لا تهتم سوى بالحفاظ على مصالحها الشخصية والاقتصادية وتنفيذ أوامر أجهزة الاستخبارات الراعية لها، كما يدرك من يعيش في مناطق النظام أن الأسد وشبكة الكبتاغون التي يديرها ويدمّر من خلالها العالم، لا يهمها سوى كرسيّ العرش أيضاً، ومن البديهي أن عملية البناء الجديد لا تأتي بالكلام والرضا بالأمر الواقع، وأن الديمقراطية لا تتجزأ، وتالياً لا يمكن القبول بسلطات الأمر الواقع الحالية في مختلف المناطق السورية ضمن أي عملية بناء لسوريا جديدة ملوّنة لا أحادية اللون كما كانت على مدى خمسين عاماً، لذا فإنني أتساءل إن كان يُمكن أن تكون سوريا للجميع فعلاً؟ أم أننا لا نزال ضمن دوائر الاستقطاب والتخوين التي اعتدنا عليها على مرّ السنوات الماضية؟
ثم يأتي السؤال الثاني: هل لدينا القدرة فعلاً على قبول هذه الاختلافات كلها، وعدّ التعليقات الكثيرة جداً على وسائل التواصل الاجتماعي والسباب والشتائم بين "بني علمان" كما يحلو للإسلاميين مناداتهم، والليبراليين أنفسهم، وأتباع الإسلام السياسي، مجرد لجان إلكترونية لا أكثر؟
نحن اليوم نستطيع كسوريين، داخل البلاد وخارجها، الاستفادة من مئات العوامل الإيجابية لإعادة إعمار سوريا على كل المستويات من خلال الاعتماد على أنفسنا والخبرات التي حصل عليها السوريون خلال السنوات العشر الماضية، بالرغم من كل ما حصل ضمن وعي جمعي يضع مصلحتنا كسوريين أولاً.
قد يبدو الكلام سهلاً وبسيطاً ولا يحتاج سوى إلى عصا سحرية تعيدنا إلى ما نظنه عصر الديمقراطية الذهبي في الخمسينيات (وهي معلومة غير صحيحة بشكل مطلق بالمناسبة)، لكننا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نتصرف كسوريين بما يناسب مصالحنا كشعب متنوع الخلفيات الثقافية والسياسية والعرقية والدينية، ونقبل بأننا جميعاً يمكننا العيش معاً تحت مظلة العدالة والقانون والمساواة، وإدراك أن طريق التحرير طويل، وإما فما تعيشه سوريا اليوم قد لا يكون سوى قطرة من سيل كوارث، لم تأتِ بعد.
هذه ليست دعوة إلى التسامح مع القتلة، فسوريا ليست بخير والعصافير لا تزقزق، هي فقط دعوة لإعادة التفكير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...