هل تضمن محادثات باريس حكماً ذاتياً لدروز سوريا؟ وما علاقة تركيا والسعودية؟

هل تضمن محادثات باريس حكماً ذاتياً لدروز سوريا؟ وما علاقة تركيا والسعودية؟

سياسة نحن والتنوّع

الأربعاء 30 يوليو 202511 دقيقة للقراءة

يتقاطع حرص نظام الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع على تثبيت أركانه، مع تطلعات محلية وإقليمية ودولية ترنو في معظمها إلى انفتاح على سوريا الجديدة، لإحراز أهداف ربما كان منالها صعباً في الماضي غير البعيد. وعلى أنقاض سيولة الواقع الأمني، وسباق تموضع القوى العرقية والسياسية في سوريا، لم يخطئ انتهاز الفرصة شهيَّة جهات خارجية، انبرت لاستغلال الواقع الدراماتيكي، وابتلع بنك أهدافها تسويات جيوسياسيةً قد تفرضها حتمية تماهي سوريا الجديدة مع دوائر إقليمية، للحفاظ على تناغم التوازن بين الداخل والخارج.

تغريدة نشرها سفير واشنطن لدى أنقرة، مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا توماس باراك، وضعت يد المراقبين على ما يجري خلف كواليس المشهد السوري وروافده الإقليمية. في التغريدة، أعلن باراك أنه "اجتمع مساء الخميس (24 تموز/ يوليو الجاري) مع مسؤولين سوريين وإسرائيليين في باريس"، وعزا الخطوة إلى ما أسماه "امتصاص الاحتقان وخفض التصعيد الحاصل بين الطرفين". 

وحديث الدبلوماسي الأمريكي حول الاجتماع وإطاره لم يكن كافياً، فأهمية اللقاء رسخها اجتماع آخر (صباح الجمعة 25 تموز/ يوليو 2025)، بحضور وزير الخارجية الفرنسي الجديد جان إيف لودريان، فضلاً عن تعهدات باستئناف المحادثات ذاتها في اجتماع مرتقب في العاصمة الأذرية باكو، بحسب تقرير نشره موقع "نتسيف" الإسرائيلي.

"اجتماع العاصمة باريس كان بمثابة خطوة أولى"، حيث تمّ التأكيد على "ضرورة اتخاذ تدابير لبناء الثقة من الجانبين من أجل المضي قدماً والتبكير بانضمام سوريا الشرع إلى قطار التطبيع"، هكذا نُقل عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين

240 دقيقةً جمعت صديق نتنياهو والشيباني في باريس

ومع ندرة معلوماتية عن الاجتماعات "شبه السرّية"، التي جرت برعاية أمريكية في باريس، انفتحت دوائر المتابعة والرصد على التقاط جديد، لتفكيك قطع البازل، والوصول إلى ماهية التسويات ذات الصلة برأس النظام في دمشق، والمؤسسات الموازية في تل أبيب. وأفادت التسريبات باستغراق جلسة المحادثات السورية الإسرائيلية الأولى (يوم الخميس) 240 دقيقةً، وعدّها الطرفان أول لقاء بينهما منذ اندلاع أزمة مدينة السويداء في جنوب سوريا الأسبوع الماضي. مثَّل تل أبيب في الجلسة، وزير الشؤون الإستراتيجية المقرّب من نتنياهو، رون ديرمر، ومن الجانب السوري وزير الخارجية أسعد الشيباني. 

وبينما يجري التسويق لامتلاك الدبلوماسي الأمريكي توماس باراك وبلاده زمام مبادرة الجمع بين الممثلين السوريين والإسرائيليين في باريس، تشي روافد معلوماتية موازية بوقوف أنقرة خلف التنسيقات الجارية، وتؤكد أن "رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالين، اقترح على مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هانغبي، دعوة مسؤولين سوريين للانضمام إلى اجتماعات من هذا النوع بعد انهيار نظام بشار الأسد". وتزامناً مع اشتعال الخط الساخن بين تل أبيب وأنقرة لمنع اشتباكات جوية بينهما تحت السماء السورية، التقى هانغبي مرات عدة مع الشيباني في العاصمة الأذرية باكو.

وحسب تسريبات نشرها الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد في موقع "أكسيوس"، فإنه خلال الأسابيع الأخيرة، ومع تزايد انخراط مبعوث ترامب في جهود التوصل إلى اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، يمكن البناء عليه كخطوة أولى نحو التطبيع بين البلدين، انضم وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر إلى المحادثات، خاصةً أنه المسؤول عن تواصل حكومة بنيامين نتنياهو مع البيت الأبيض. وكان الاستنتاج في إسرائيل: "لكي يتقدم السوريون نحو التطبيع، لا بدّ من طرح حوافز أمريكية، وتم تكليف ديرمر بتطويرها".

استكشاف سبل استقرار الوضع في جنوب سوريا

بعد الأزمة التي شهدتها السويداء، أيقن باراك أنّ الوقت قد حان لعقد اجتماع ثلاثي مع ديرمر والشيباني. في هذا الخصوص، نقل باراك رافيد عن مسؤولين في تل أبيب وواشنطن، أنّ "اجتماع العاصمة باريس كان بمثابة خطوة أولى"، حيث تمّ التأكيد على "ضرورة اتخاذ تدابير لبناء الثقة من الجانبين من أجل المضي قدماً والتبكير بانضمام سوريا الشرع إلى قطار التطبيع".

عن بُعد، وفي محاولة لدعم موقف الوفد السوري في محادثات باريس، نقل موقع "تركيا اليوم" المحسوب على نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن "الوفد السوري حمّل إسرائيل مسؤولية التصعيد، وندد بحملتها الجوية في سوريا"، عادّاً أنّ "هذا السلوك العدائي يشكّل تهديداً مباشراً للاستقرار الإقليمي. وأكدت دمشق أنها لن تقبل أي محاولة "لفرض واقع جديد على الأرض". لكن ذلك لم يمنع إشارة التقرير إلى أنه "برغم عدم التوصل إلى اتفاق نهائي في محادثات باريس، اتفق الطرفان على مواصلة المناقشات واستكشاف سبل استقرار الوضع في جنوب سوريا".

في حين لم تسفر جلسات باريس عن مخرجات معلنة يمكن التعويل عليها عند استشراف مستقبل منظور، لم تترك دوائر إسرائيلية مجالاً للضبابية، وحصرت ما وصفته بـ"بنود محادثات باريس" في تأمين الجنوب السوري مع خط التماس الإسرائيلي. فما هي؟

وفي حين لم تسفر جلسات باريس عن مخرجات معلنة يمكن التعويل عليها عند استشراف مستقبل منظور، لم تترك دوائر إسرائيلية مجالاً للضبابية، وحصرت ما وصفته بـ"بنود محادثات باريس" في تأمين الجنوب السوري مع خط التماس الإسرائيلي، ولخّصتها وفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في 6 بنود:

  1. انسحاب القوى القبلية (البدوية) وقوات الأمن العام السورية كافة إلى ما وراء القرى الدرزية. 
  2. قيام الفصائل الدرزية بتمشيط القرى كلها للتأكد من غياب القوات العشائرية والحكومية.
  3. تشكيل مجالس محلية من أبناء السويداء للإشراف على تقديم الخدمات للمواطنين.
  4. تشكيل لجنة لتوثيق الانتهاكات ورفع تقاريرها للجانب الأمريكي.
  5. نزع السلاح من أبناء محافظتَي القنيطرة ودرعا القريبتين من الحدود الإسرائيلية، وتشكيل لجان أمنية محلية من تلك المناطق بشرط عدم امتلاكها أسلحةً ثقيلة.
  6. عدم السماح لأي هيئة تابعة للحكومة السورية بدخول السويداء، ويقتصر السماح بدخول المدينة على وكالات الأمم المتحدة فقط.

اتفاق سرّي برعاية واشنطن وباريس ودعم تركي؟

برغم البنود المسرَّبة من محادثات باريس، لكنها ربما تغاير تماماً واقعاً غير معلن بين الطرفين، حسب الدكتور إبراهيم شتلو، أستاذ العلوم السياسية السوري المقيم في ألمانيا. يقول شلتو لرصيف22: "أقرّت ثلاثية حكومة الشرع والولايات المتحدة وفرنسا حتمية التحفظ على نشر بنود 'الاتفاقية السرّية'، التي جرى التوصل إليها بالفعل مع إسرائيل برعاية أمريكية، وذلك خشية أن تعيد هذه البنود ترتيب الطاولة في مفاوضات باريس، ولكن في هذه المرة بين 'قسد' (قوات سوريا الديمقراطية) وحكومة الشرع، وتحسّباً لفتح الباب أمام مطالبة الأكراد بفيدرالية مماثلة لما أحرزته مفاوضات باريس". 

ولا يستبعد "إبرام وفدَي إسرائيل وسوريا في باريس اتفاقاً سرّياً برعاية أمريكية–فرنسية، يحصل الدروز بموجبه على إدارة ذاتية جنوبي سوريا، فضلاً عن مطالب إسرائيلية أخرى تتعلق بهضبة الجولان والسويداء".

ويرى شتلو ضلوعاً مباشراً لتركيا أردوغان في تجاوب حكومة الجولاني مع مطالب إسرائيل، ويضيف: "نظام الشرع يخضع تماماً لحكومة أنقرة، خاصةً في ما يتعلق بالقضايا الأمنية والعسكرية. وزير الخارجية الشيباني نفسه خرّيج مدرسة الاستخبارات التركية ويدين لها بالولاء، ما يعني أنّ اجتماعاته في باريس لا تخرج عن إطار التوجيهات التركية، لأنّ تركيا وفي سياقات صراعها على توسيع مناطق النفوذ في سوريا بحاجة إلى التهدئة مع إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى ترغب في ترسيخ مخططاتها الإستراتيجية وتوسعها في سوريا دون صدام مباشر مع إسرائيل. لذلك تبدي تركيا، خلافاً للحقيقة، أنها اللاعب المحوري في سوريا، وتروِّج زيفاً لوقوفها أمام مخططات وأطماع إسرائيل التوسعية".

البنود التي جرى إدراجها على طاولة مباحثات سوريا وإسرائيل في باريس، لا تخرج عن اتفاق واشنطن وتل أبيب على توسيع دائرة ما يسمّى بـ"التطبيع الإبراهيمي"، حسب رئيس تحرير مجلة "الديمقراطية"، والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بشير عبد الفتاح. يقول عبد الفتاح لرصيف22: "الاتصالات التي جرت بين سوريا وإسرائيل في باريس ليست الأولى من نوعها، وإنما سبقتها اتصالات مباشرة في أذربيجان بين وزيرَي خارجية الجانبين على هامش زيارة أحمد الشرع للعاصمة باكو من أجل إبرام اتفاقات تتعلق بالطاقة".

"في حقيقة الأمر، سوريا موضوعة على القائمة الأمريكية الإسرائيلية في هذا الخصوص، لكن هناك إشكاليةً تتمثّل في أنّ النظام السوري الحالي يتحدث عن انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية المحتلة، فيما تتحدث إسرائيل عن الانسحاب من أراضٍ محتلة حديثاً بعد سقوط نظام بشار الأسد وليس الجولان. وفيما لا تزال المفاوضات أو بالأحرى المحادثات بين إسرائيل وسوريا معقدةً، تحاول إدارة ترامب طرح تعاون بين الطرفين في مجال الطاقة والمياه ومجالات اقتصادية متعددة بحيث يبدي نظام الشرع نوعاً من المرونة. لكن الهدف من هذه المحادثات هو أنها حلقة في سياق عدد من الجولات لتطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل طبقاً لشروط الأخيرة، وهي: نزع سلاح سوريا، وعدم الانسحاب من الجولان على الأقل، وإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية في مقابل اعتراف تل أبيب بالنظام الحالي في سوريا، بالإضافة إلى مشاريع تعاون اقتصادي وأمني برعاية أمريكية"، يضيف عبد الفتاح.

في ملف إسرائيل وسوريا على وجه الخصوص، لا تخرج تركيا نهائياً في سياستها الخارجية من تحت مظلّة دول حلف ناتو؛ فإلى جانب عضويتها في الحلف، لا تحيد تركيا قدر أنملة عن سياساته في إفريقيا أو الشرق الأوسط

السعودية أضعف من ثلاثية التحكم في قواعد اللعبة

وبخصوص الدور التركي غير المعلن في محادثات باريس، يتفق عبد الفتاح مع شتلو، في مدى تأثير حكومة أنقرة، وإن كان رأي الأول أكثر مرونةً من الثاني، إذ يشير إلى "احتفاظ تركيا بعلاقات مع الطرفين السوري والإسرائيلي، وهي أكثر دول الإقليم نفوذاً داخل سوريا، فضلاً عن علاقاتها الوطيدة بنظام الشرع. وإلى جانب الولايات المتحدة، ترعى حكومة أنقرة الاتصالات السورية الإسرائيلية سواء في باريس أو غيرها، لكنها حريصة في المقابل على مصالحها داخل سوريا، وعلى عدم تمكين إسرائيل من فرض هيمنتها المطلقة في سوريا. الأمر يتطلب بالأساس تفاهمات تركية–إسرائيلية أولاً، قبل محاولة فرض أي نمط من العلاقات على سوريا".

في ملف إسرائيل وسوريا على وجه الخصوص، لا تخرج تركيا نهائياً في سياستها الخارجية من تحت مظلّة دول حلف ناتو؛ فإلى جانب عضويتها في الحلف، لا تحيد تركيا قدر أنملة عن سياساته في إفريقيا أو الشرق الأوسط. وفيما تحرص حكومة أنقرة على مصالحها في سوريا، تدرك جيداً أنّ مصالحها لا يمكن أن تتعارض بحال من الأحوال مع مصالح دول حلف شمال الأطلسي، يقول عبد الفتاح.

وعند الحديث عن فرضية إشراك السعودية في ضمانة تكريس اتفاق مستقبلي بين سوريا وإسرائيل، لا يعوِّل الباحثان كثيراً على تلك الفرضية. يرى شتلو أنّ "السعودية لا تستطيع لعب هذا الدور، لأنّ اللاعبين الآخرين أقوى من الرياض، فحين تسير الأمور في منحى جاد، يقتصر دور المملكة على تمويل مشروعات التعاون المقرر إدراجها في إطار اتفاق أو آخر، لكن لا مانع لدى الولايات المتحدة وربما إسرائيل من تعظيم أدوار هامشية للمملكة في محاولة لتشجيع تدفق أموالها على سوريا". 

في هذا السياق، يعتمد عبد الفتاح الرؤية ذاتها ولكن بأسلوب مختلف، مشيراً إلى "انحسار الدور السعودي وحتى الخليجي في الملفات الاقتصادية الداعمة للمسارات السياسية، وعند الحديث عن ضمانات تفعيل اتفاق أو آخر، يكفي في هذا السياق التنسيق بين الثلاثية التركية الأمريكية الإسرائيلية، فضلاً عن أن سوريا لم تبدي اعتراضاً على أي اتفاق يفضي إلى انضمامها لما يُعرف باتفاقات أبراهام".

"لكن المشكلة تكمن في الكيفية، ولا سيما أنّ الشروط التي يضعها نظام الشرع ليست في ظاهرها بالهيّنة، وإسرائيل كالعادة تريد فرض شروطها على سوريا، على اعتبار أنّ الأخيرة دولة ضعيفة ومنزوعة السلاح، وتالياً تستطيع إسرائيل فرض شروط: التطبيع المجاني مع البقاء داخل سوريا ونزع سلاحها. لكن نظام الشرع يعلم جيداً مدى صعوبة فرض هذا الواقع، ويحاول تمريره عبر قربان يمكن تقديمه للشعب السوري"، يختم عبد الفتاح.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image