شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
السيرك المصري وضحاياه… لحم الإنسان مسكِر كلحم الحمير

السيرك المصري وضحاياه… لحم الإنسان مسكِر كلحم الحمير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 9 أبريل 202511:30 ص

في الثاني من نيسان/ أبريل الجاري، وقفَ الأب المصري إبراهيم عبد الفتاح، بجلباب مُهترئ، أمام ممثل جهات التحقيق في قسم شرطة أول طنطا في محافظة الغربية، ومدّ يده اليسرى، ربما دلالةً على الضعف، ليستلم تصريحاً بدفن الجزء المبتور من ذراع ابنه "محمد"، الشاب الذي التهم ذراعه النمر "بوكا" في حادث السيرك في طنطا، والذي شغل السوشال ميديا والمواقع الإخبارية في الأيام الأخيرة.

أخذ الأب الجزء المبتور، وسار نحو قريته لإنجاز مهمة الدفن، في مراسم لم يحضرها سوى شابين سارا خلفه ناحية القبر، وانتهى الأمر. مُجرد ذراع تم دفنها!

في تلك الأثناء، كان الابن في المستشفى الحكومي في طنطا ينتظر من يُربّت على الجزء الباقي من ذراعه، أو حتى يعِدُه بالتعويض، أو على الأقل يسمع كلمةً حانيةً من عائلة "كوتّة"، القائمة على العرض الخطير الذي كان يعمل فيه. لكنّ العائلة كانت منشغلةً في أمورٍ أخرى. صاحبة العرض "أنوسة كوتة"، تتابع التحقيقات والبحث عن مخرج لتبرئة نفسها، والأب "مدحت كوتة"، يبثّ تصريحات تحوي اتهامات وسخريةً صريحةً ومبطنةً تجاه المجني عليه!

في الثاني من أبريل، وقفَ الأب المصري إبراهيم عبد الفتاح، بجلباب مُهترئ، أمام ممثل جهات التحقيق في قسم الشرطة، ومدّ يده اليسرى، ربما دلالةً على الضعف، ليستلم تصريحاً بدفن الجزء المبتور من ذراع ابنه الشاب الذي التهم ذراعه النمر "بوكا" في حادث السيرك

ما أسعد الحيوان… ما أتعس الإنسان!

هل أزعجتك تصريحات مدحت كوتة؟ هل شعرت فيها بدونية الفقراء؟ دعني أزيد من آلامك لتعرف أن الدنيا ما هي سوى سيرك كبير، الشرس من الحيوان يروّضه الأقوى من الإنسان، وكلاهما ينهشان لحم الأضعف من البشر، وقصة نهش لحم العاملِين في سيرك آل كوتة، ليست الأولى، فالماضي فيه ما لا يقلّ فداحةً!

لنعُد إلى الوراء، إلى ما يزيد على ربع قرن، وتحديداً صيف عام 1996. في ذلك الزمان، كان هناك صبي مصري يُدعى أحمد محمد سليمان، يعيش مع أشقائه، وزوجة أبيه المتوفى في الإسكندرية. لم يتلقَّ أحمد، أيّ قسطٍ من التعليم، ولم يمارس أي مهنة غير عمله كحارس عقار.

في ذلك العام، دخل حياته شيء جديد، حين رأى سيرك الحلو، لمالكته محاسن الحلو، والدة مدحت كوتة، في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي، في كفر الشيخ، وانبهر به أيّما انبهار. وكي يشاهد عالمهم الساحر كثيراً، عثر عندهم على مهنة "عامل بوفيه" لمدة أسبوعين، ثم انفضّ المولد، وحلّ السيرك خيمته.

باتت وظيفة أحمد، معهم، هي والعدم سواء. ولأنه باحث عن لقمة عيش، طلب منهم إيجاد أيّ مهنة أخرى له، وفجأةً وجد نفسه سائساً للأسود، يُنظّف أقفاصها ويطعمها ويحرسها، وينام نهاية اليوم بجوار القفص، حتى جاء اليوم الذي أعطى فيه ظهره للوحوش مطمئناً، فهاجمه أحدها، وقطّعه إرباً حتى قضى الصبي نحبه.

في الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1997، أعدّت مجلة "المصوّر"، تحقيقاً عن الواقعة، أدلى فيه مدحت كوتة، بتصريحات لا تقلّ صلابةً عمّا أدلى به هذه الأيام، حيث قال: "إنّ السيرك يدفع أربعة آلاف جنيه شهرياً لتغذية الوحوش"، و"لحم البني آدم مسكر، وإذا ذاقه الأسد لا يمكن أن يعمل مرة أخرى".

العجيب أنّ معلومة "كوتة" دقيقة، لكنها تُدينه أكثر مما تُبرّئه؛ لأنّ الحيوانات المفترسة في السيرك الذي يقوده، تعتمد كلياً على لحم الحمير كونه أرخص من غيره، ولحم الحمير فيه مواصفات لحم الإنسان نفسها، أو كما تقول الدكتورة شيرين علي زكي، الطبيبة البيطرية في مديرية الجيزة ورئيسة لجنة سلامة الغذاء في نقابة البيطريين، إنّ لحم الحمير "طعمه مسكر، لأنّ لحوم الحمير تحتوي على نسبة عالية من مادة الجليكوجين، وهي مادة نشوية وكربوهيدراتية".

وهذا يعني أنّ الأسود والنمور في السيرك تعتاد اللحم "المسكر"، ولن يفرق معها إذا كان هذا اللحم لإنسان أو لحمار.

هذا يعني أنّ الأسود والنمور في السيرك تعتاد اللحم "المسكر"، ولن يفرق معها إذا كان هذا اللحم لإنسان أو لحمار


كلاكيت للمرة الثانية... أين ساق "عم سليمان"؟!

عام 2002، كان هناك عامل بسيط في السيرك القومي بمنطقة العجوزة بالقاهرة، يُدعى سليمان عاشور سليمان، إجمالي ما يحصل عليه مئة جنيه، ظل يعمل في مهنته كحارس للأسود مدة تزيد على العشرين عاماً، وفي ليلة الرابع من يناير للعام نفسه، انتهى العرض الباهر، فقام سليمان برفقة زملائه بقيادة الحيوانات المفترسة إلى أقفاصها؛ لكن سليمان اضطر لسبب أو لآخر إلى العودة مرة أخرى لأحد هذه الأقفاص، والتي كان بداخلها نمر اسمه "محسن".

اختلفت الروايات بشأن ما حدث على وجه التحديد، فقيل إن إحدى رجليه قد انزلقت من بين قضبان الحديد فأصبحت في متناول يدي النمر محسن فقبض عليها والتهمها، وقيل أيضاً إن النمر مدّ أظافره من بين القضبان وأمسك بحذاء سليمان الحارس، ولم يتركه يفلت منه حتى جرَّ الساق إلى داخل الفقص والتهمها.

بعدها، نُقِلَ سليمان إلى مستشفى العجوزة "فرقدَ" على سرير وبجواره الساق بعد بترها، في مشهد التقطته مجلة "المصوّر"، وأفردت له مساحةً على صفحاتها، سائلةً سليمان عمّا جرى له، فجاءت ردوده جميعها راضيةً بالقضاء والقدر، بعدما بيّن طبيعة عمله، قائلاً إنه يستلم من المتعهد من 40 إلى 50 حماراً أسبوعياً، ويتولى تنظيفها وذبحها، ويقدّم منها ستة حمير يومياً للأسود والنمور، إذ إنّ نصيب الواحد منها 25 كيلوغراماً يومياً.

اختلفت الروايات بشأن ما حدث عام 2002 على وجه التحديد، فقيل إن إحدى رجليه قد انزلقت من بين قضبان الحديد فأصبحت في متناول يدي النمر فقبض عليها والتهمها، وقيل أيضاً إن النمر مدّ أظافره من بين القضبان وأمسك بحذاء سليمان الحارس، ولم يتركه يفلت منه حتى جرَّ الساق إلى داخل الفقص والتهمها


تلك الحادثة استفزّت الكاتب والمفكر الراحل الدكتور جلال أمين، وكتب عنها في جريدة "العربي"، مقالاً بديعاً حلّل فيه الأمر اقتصادياً واجتماعياً، وكأنّه يصف حالنا اليوم، وكل ما جرى هو أنّ الأسماء تبدّلت، فالنمر محسن صار بوكا، والعامل سليمان بات محمد إبراهيم!

يقول جلال أمين، إنّ السيرك القومي "انقسم إلى أمَّتين. في قمته بالطبع أسرة الحلو، مؤسس السيرك التي يُقال إنها تستأجر السيرك من الحكومة عن طريق شركة قطاع خاص تحت أسماء مختلفة، فهي تُسمى أحياناً شركة السيرك المصري الأوروبي، وأحيانا باسم شركة الألعاب الترفيهية، ولكن كثيرين يؤكدون أنّ صاحب الشركة الحقيقي هو إبراهيم الحلو، مدير السيرك، أما في قاع السيرك فيقبع العامل البسيط سليمان عاشور سليمان".

يُكمِل جلال أمين تحليله القاسي، بقوله: "سليمان وغيره لا يُمكن أن تتجاوز آمالهم اليوم الذي يعيشون فيه، فقد علّمتهم الحياة خطورة التفكير في اليوم الذي يليه، حيث لا معاش ولا تأمين صحي، ولا حتى ثقة باستمرارهم في وظائفهم، فالحكمة تقتضي إذن الاقتصار على التفكير في هذا اليوم دون غيره، فإذا حدث في هذا اليوم شيء غير مُتوقّع كقيام نمرٍ بالتهام ساق سايس، فالأمل معقود على أن يرسل الله فاعل خير يتوسط لهذا السايس بأن يستمرّ في نفس العمل ولو بساقٍ واحدة"!

الجميع يبحث عن فاعل خير

يقول جلال أمين، إنه بعد أيام من واقعة التهام النمر لساق السايس سليمان عاشور سليمان، غمره المصريون بعطفهم، وزاره في المستشفى عدد كبير من الناس، من الكبار والصغار، وفنانون مشهورون، وجميعهم تركوا له مبالغ من المال في ظرف، وانصرفوا دون أن يُفصحوا عن أسمائهم.

حديث جلال أمين، يتفق مع ما رصدته جريدة "أخبار اليوم"، بعد ستة أشهر من الحادث، تحديداً يوم الثاني من آب/ أغسطس عام 2002، حين كتبت: "في زيارتنا الأولى لسليمان في المستشفى، بعد يوم واحد من الحادث، طلب شقةً ليستقرّ بها بعد أن أصبح عاجزاً عن العمل في السيرك مرةً أخرى، وهو الذي كان بيته الوحيد، فلم يكن له مكان آخر يأويه".

ما أشبه الليلة بالبارحة، ففاعل الخير ظهر أيضاً في قصة محمد إبراهيم الأخيرة، حينَ أعلن الإعلامي عمرو أديب، توفير مبلغ 100 ألف جنيه للمصاب، كدعم من أحد رجال الأعمال، وذلك بالتزامن مع توفير وزير العمل المصري محمد جبران، فرصة عمل لمحمد إبراهيم، في إحدى شركات الأدوية


وتضيف الجريدة، أنّ "صندوق أخبار اليوم لمواجهة الكوارث" بعد رحلة بحث "وجد غرفةً بملحقاتها بمنطقة إمبابة، ودفع الصندوق ألف وخمسمائة جنيه كمقدم إيجار لها، لتكون بيت سليمان الجديد، كما جهزناها بكل ما يحتاج إليه من أثاث بسيط لم يتكلف سوى ألف وأربعمائة جنيه أخرى، وكان المتبقي من المبلغ الذي خصصه الصندوق لمواجهة مأساة سليمان هو خمسة آلاف جنيه، حوالي 2،100 جنيه قدّمناها لسليمان ليضعها في دفتر توفير ليواجه بها احتياجات الحياة".

وما أشبه الليلة بالبارحة، ففاعل الخير ظهر أيضاً في قصة محمد إبراهيم الأخيرة، حينَ أعلن الإعلامي عمرو أديب، توفير مبلغ 100 ألف جنيه للمصاب، كدعم من أحد رجال الأعمال، وذلك بالتزامن مع توفير وزير العمل المصري محمد جبران، فرصة عمل لمحمد إبراهيم، في إحدى شركات الأدوية.

في النهاية، وفاة الصبي أحمد في نهاية التسعينيات، وبتر ساق سليمان عاشور في بداية الألفية الجديدة، والتهام ذراع محمد إبراهيم قبل أيام، جميعها حوادث تدور حول شيء واحد حدّده جلال أمين بالجوع، أو كما قال: "نصف الشعب قد تحوّل إلى أمة من الجوعى"!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

الإعلام بوق السلطة

تهدف وسائل الإعلام المُحتَكرة من قبل الأحزاب السّياسيّة والميليشيات إلى مصادرة الإرادة الشعبيّة، والتعتيم على الحقوق، والاعتداء على الحريات، ونشر الفتنة وبثّ خطاب الكراهيّة.

حتى لا يكون اللاجئون/ ات، وأصحاب الهمم، والأقليات الدينية، ومجتمع الميم-عين وغيرهم/ نّ من مهمّشي المجتمع كبش فداء، ساهم/ ي معنا في إنتاج صحافةٍ أكثر استقلاليةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image