شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أكل الفرحة في مصر (4)...  العربان والنوبيون:  طبخ الأساطير مع اللحم

أكل الفرحة في مصر (4)... العربان والنوبيون: طبخ الأساطير مع اللحم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والتنوّع

الثلاثاء 28 نوفمبر 202311:01 ص

تنطلق الميثولوجيا من أسس حقيقية حتى لو كانت شحيحة، الأسطورة هي نتاج بشري واسع وغير مقيّد بحسبة المنطق، لأن المنطق هو محصلة للزمان والمكان وقدرة الإنسان فيما بينهما، وهذه القدرة متغيرة وما يبدو منطقيا في عصرنا، بالتأكيد لم يكن منطقياً في عصور سابقة سحيقة، والعكس صحيح.

الطعام يشتبك كلياً مع الأساطير، تنطلق منه التعاويذ عن الصحة البدنية والجنسية والعقلية للأفراد، يقدم الطعام قرابين للآلهة في كل الديانات تقريباً، وتستخدمه النساء لتطويع القلب وترويض الرجال، كما يستخدمه الرجال للتباهي بقدرتهم على مجابهة النساء في الطبخ، وكأنه عقر دارهم الوحيد. أغلب الطباخين المشهورين من الرجال، قدراتهم وحدها لم تؤهلهم لذلك، لكن الامتيازات التي حصلوا عليها تجعلهم يتحكّمون في مسار الطبخ بعد أن صار مهنة، والمهن بشكل عام يتقدمها الذكور بشكل اعتيادي، بينما لا يزال طبخ المنازل يذهب للنساء بدافع المسؤولية الاجتماعية والأسرية بالطبع.

ارتبط طبخ اللحوم في صحارى مصر بظهور الرجال، يتقدّمون المشهد لاعتبارات ثقافية ودينية، خاصة فيما يتعلق بطعام الفرح أو المناسبات الدينية أو الاجتماعية، الولائم الكبيرة التي يعدها الرجال للرجال، وغالباً ما تكون خارج المنازل، تختفي النساء، لا ينكشفن على الأغراب والضيوف، يقبعون في عزلتهم مع الأولاد ورعاية البيت، لذلك تتجه النساء في صحارى مصر إلى نسج الخيال عبر الحرف اليدوية المتنوعة، فالنساء في صحراء سيناء يعملون في صناعة الحلي، وفي صحراء الشلاتين جنوب البحر الأحمر، يعملون في تشكيل وإعادة استخدام جلود الماعز، وهي عملية شديدة التعقيد وتستمر لأيام فيما يعرف بـ "جلد الشلاتين" لاستخدامه في الملابس والأحذية، والنساء في واحة سيوة غرب البلاد، مشهورات بالتطريز الدقيق على الملابس السيوية التراثية، يقدّمن عصارة خبراتهم الشاقة في حرف تقليدية تتعلق بهوية البلاد البصرية، لزيادة دخل الأسرة، وإعالتها كلياً في بعض الأحيان.

الطعام يشتبك كلياً مع الأساطير، تنطلق منه التعاويذ عن الصحة البدنية والجنسية والعقلية للأفراد، تستخدمه النساء لتطويع القلب وترويض الرجال، كما يستخدمه الرجال للتباهي بقدرتهم على مجابهة النساء في الطبخ، وكأنه عقر دارهم الوحيد

ولحوم الصحارى تتماشى مع احتياجات سكانها تماماً، وتنطلق أيضاً من عدة روافد دينية وميثولوجية، فلحم الضأن هو اللحم المعترف به في الطعام البدوي، ودون ذلك يعتبر رتبة أقل، وهذا ما ينبّهنا إلى علاقة سكان الوادي مع الطيور، وعلاقة سكان جنوب البلاد مع لحم البقر والعجول، فلكل مجموعة بشرية لحم يترجم ثقافته وعلاقته بالمكان.

ونرى أن المصري القديم وضع الكباش في منزله خاصة. كان الإله "خنوم" التي صارت "غنوم" ووصلت إلى كلمة " غنم"، هو إنسان برأس كبش، يأتي بفيضان النيل ويجلب الطمي اللازم للزراعة والخير، وكان يعبد في أسوان وممفيس وأسنا، و تأسّس لأجله طريق الكباش ليصل بين معبدي الكرنك والأقصر.

ينطلق سكان الصحارى من فرضية أن أجدادهم الأوائل كانوا رعاة أغنام، وبعضهم توارث هذه المهنة، وهي مهنة الرسل والأنبياء أيضاً، وكان من اليسير أن يتحرك الإعرابي بقطيع من الأغنام والماعز بين الوديان والصحارى المختلفة لأيام وشهور، على عكس الثيران والبقر والعجول الذين يتحركون في مساحات محدودة ما بين الغيطان والزرائب، ولا يقدرون على مناخ الصحراء.

كما فرضت لحوم الأغنام والماعز طرقاً محدّدة لطبخها والتعامل معها في ظروف الصحراء القاسية، و وفقاً لأنواع  الخضروات والبهارات المتاحة.

وصفات اللحم البدوي

الضأن أبو مردم

هي طريقة لطهي لحوم الضأن بالأساس في مناطق صحراء غرب مصر، بداية من مطروح وواحة سيوة حتى حدود ليبيا،  ثم تحولت مؤخراً إلى طريقة لطهي اللحوم كافة والطيور أيضاً، بعدما وصلت السياحة للصحاري البعيدة و حدثت طفرات في طهي اللحوم المتنوعة للأغراب، لكن السكان المحليين لا يعترفون إلا بردم الضأن.

في الأعراس الكبرى والولائم الموسمية المرتبطة ببعض الأعياد الدينية، يخرج مجموعة من الرجال إلى بقعة صحراوية محددة سلفاً، تكون جاهزة لطبخ الأغنام، بمعني أنها تضم حفراً عميقة في الأرض، وهذه الحفر مبطنة بالطوب الحراري من الجوانب، وفي القاع توضع فروع شجر، يفضل أن تكون زيتوناً، لأنه الخشب المناسب لطهي الطعام.

يشعلون النار قبلها بساعات حتى تهدأ، تسلخ الشاة وتنظف بعناية، ثم تتبل من جميع جوانبها بالبهارات الأساسية، مثل الفلفل الأسود والحبهان و ورق الغار وحشيشة الليمون، ثم يدخل الحفرة ويتموضع براحة فوق شبكة تفصل بينه وبين النار المباشرة، ثم تغلق فوهة الحفرة جيداً ويتم ردمها بالتراب الساخن، يترك لساعات طويلة حتى لحظة تقديمه للضيوف ساخناً.

وفي نفس الحفرة، بعد عدة ساعات من وجود الشاة في النار، يمكن تسوية الأرز بالكركم والخضروات، عن طريقه وضع شبكة جديدة تضم حلة الأرز فوق شبكة الضأن، بحيث يتم تسويتهما مع بعضهما، ليحملا نفس الروائح المبخرة بالبهار. 

تعتبر طريقة رد الضأن، المستخدمة منذ قرون في صحارى مصر عبر تسويته بالبخار، هي طريقة شائعة في طعام الصحراويين عامة، ففي سيناء وفي منطقة اليمن والحجاز، يسمّى هذا الطبق "المدفون" أو "المكمور"، نرى هنا شعوباً عديدة فكرت في استخدام مواردها المحدودة في طهي الطعام، مثل الرمال الساخنة، دون أواني خاصة أو بناء أفران كما في الأرياف، ويتقاطع هذا الجزء من مصر مع ثقافات الصحارى المجاورة بكل أريحية.

ينطلق سكان الصحارى من فرضية أن أجدادهم الأوائل كانوا رعاة أغنام، وبعضهم توارث هذه المهنة، وهي مهنة الرسل والأنبياء أيضاً، وكان من اليسير أن يتحرك الإعرابي بقطيع من الأغنام والماعز لأيام وشهور، على عكس الثيران والبقر والعجول

المنسف

وهى طبخة تحمل اسم حالها إذا طبخت، حيث تنسف من الصينية الكبيرة التي تقدم عليها بعد الإقبال الواسع عليها، وهى أكلة متعدّدة الثقافات، معروفة في الأردن على وجه الخصوص وتعتبر طبقاً وطنياً أيضاً، ولكنها تطبخ في شمال سيناء منذ عهود، ويعتبرونها من أطباقهم المحلية المفضلة في التجمعات والأفراح وولائم الفرحة، في تقاطع واضح مع دول الجوار، فالشعب السيناوي يملك قائمة طعام مشتبكة تماماً مع طبخات أردنية وفلسطينية وشامية، ولم يكن المنسف الطبخة الوحيدة التي تمتد أوصالها خارج حدود سيناء، لذا يمكن أن نعتبر الطبخ في سيناء سلة كبيرة متنوعة لطبخات مصر مع بلاد الهلال الخصيب.

تسلق اللحوم على الفحم أو الأخشاب في أوانٍ كبيرة، ويخبز عيش الرقاق السيناوي خصيصاً للمنسف، يقطع صغيراً في صينية واسعة مسطحة، ثم يرش فوقه لبن الجميد، وهو لبن حليب الماعز المجفّف أو اللبن الرائب الطازج، وهو لبن يعد خصيصاً لأكلة المنسف، وفي الأردن وفلسطين يتم إعداده منزلياً بكميات كبيرة وتخزينه أو في أسوأ الظروف، يشترونه مجفّفاً، ثم يضاف الأرز الأصفر المطهو بالكركم، ثم المرق والسمن البلدي والكثير من المكسرات المحمّصة، مثل اللوز والجوز وفول السوداني في أقل التقديرات، يعتلي كل هذه المكونات لحم الشاة المسلوقة، ومن عادات الأكل البدوي، أنه لا يقدم ساخناً، ولا بارداً بالطبع، حتى يستطيع الجميع إدخال أيديهم لصينية المنسف التي تؤكل بشكل جماعي بالأيدي.

اللحم الأسواني

سألتني صديقة أسوانية باستنكار: لماذا يأكل أهل العاصمة كل شيء بالطماطم، وهل هذا يعني فقراً في المطبخ المصري؟ لكنها فوجئت حين قلت لها إن الطماطم نبات حديث العهد على أكل المصريين عامة، وظهرت في طعامهم ما بين القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي، قبل ذلك كان المطبخ المصري يقدم كل المأكولات بدونه.

كان مطبخاً غنياً ومتنوعاً، ولكن الفقر المشار إليه في كلامها، يشير إلى فقر هذه المرحلة وحياة العاصمة، وهذا حقيقي.

إذا ابتعدنا قليلاً عن العاصمة والريف وقلب الصعيد، سنجد أن سكان الجنوب في أسوان والنوبة وقبائل جنوب البحر الأحمر لا يعتمدون في طعامهم على الطماطم من الأساس، لأنها لا تناسب ظروفهم المناخية، سواء في زراعتها أو طبخها، وبالتالي تم اجتنابها تماماً إلا في أضيق الحدود.

نجد أن غالبية الطبيخ في أسوان والنوبة، يعتمد على الخضروات الخضراء، مثل الملوخية الناشفة والبامية الناشفة والكزبرة والشبت والسبانخ إن وجدت، لأنها نبات شتوي ويصعب تجفيفه مثل الملوخية والبامية، ونجد أن فلسفة الطبخ تعتمد على التجفيف وطرق الاحتفاظ بمكونات الطبخ لأطول فترة ممكنة، خاصة في فصل الصيف الطويل نسبياً عن باقي الفصول في جنوب البلاد، ويتم طبخ الخضروات المجفّفة مع مرقة اللحم والثوم والبصل، وهذا يتشابه كثيراً مع أصل الطبخ في الحضارة المصرية القديمة قبل ظهور الطماطم بآلاف السنين، فوجبات مثل "الجاكود" و" الويكة" و"الإتر" لا تزال تعيش في بيوت أهل أسوان، سواء من قبائل النوبة أو القبائل العربية النازحة من الصحراء المجاورة، تظهر بقوة في الأعراس والمناسبات الدينية والولائم بعد العودة من الحج.

وهنا يتقاطع طعام الصحراء مع طعام جنوب وادي النيل، عند أسوان ومثلث حلايب والحدود السودانية.

كما أن طهي اللحوم في المناطق الجنوبية من مصر لا يعتمد على البهارات الكثيفة، فقط بعض البهارات الأساسية، مثل الفلفل الأسود والكزبرة والكمون، وأحياناً يتم طهي اللحوم بدونها أيضاً للاحتفاظ بطعم اللحوم الطبيعية دون إضافة ما يعطل الوصول للنكهة البرية للطعام.

يفضل الجنوبيون لحم الشاة، خاصة في الأعياد والاحتفالات، ولكن في الايام العادية، يتوجهون للأسواق الأسبوعية للحصول على قطعة اللحم المطلوبة، ومن أشهر أسواق اللحوم التاريخية  في أسوان، سوق الجمال في مدينة "دارو"، وهي المدينة التي كانت تنتقل إليها قوافل الجمال القادمة من السودان عبر القرون الماضية، وتعتبر بورصة بيع الجمال ولحومها في جنوب مصر، ولحم الجمال يفضله أهل أسوان لقلّة دهونه، كما تباع كبدة الجمل كمنتج نادر، ينتهي بيعه عقب ذبح الجمل مباشرة.

إذا ابتعدنا قليلاً عن العاصمة والريف وقلب الصعيد، سنجد أن سكان الجنوب في أسوان والنوبة وقبائل جنوب البحر الأحمر، لا يعتمدون في طعامهم على الطماطم من الأساس، لأنها لا تناسب ظروفهم المناخية، سواء في زراعتها أو طبخها، وبالتالي تم اجتنابها تماماً إلا في أضيق الحدود

لحم السلات

هي طريقة لطهي اللحوم منتشرة في مناطق شرق السودان ولدى قبائل البشارية والعبابدة في أسوان جنوب مصر، في كل الحفلات والولائم الواسعة، لطهي اللحوم على الحجر الأسود الساخن مباشرة، ويسمي سلات لأن الدهن ينسلت منفرداً أو يجفّ ويركز في قطع اللحم مباشرة.

يجلس الرجال على الأرض، بجوارهم دائرة من الرمل المخلوط بقطع الملح الكبيرة، ثم يرص الفحم الساخن بشكل مستدير، وفوق الفحم توضع الحجارة  السوداء، يحضرون معظمه من شواطئ البحر الأحمر أو بعض الجرانيت الموجود في أسوان، تسخن الحجارة جيداً، و لابد من مسحها بالدهن للتأكد من استعدادها لتسوية اللحوم.

تقطع الشاة و يحصلون على الجزء العلوي منها، يقطعونها قطعاً صغيرة كي تناسب حجم الأحجار، ويفرشونها لساعة أو اثنتين مع تقليبها فوق الحجر حتى تمام النضج، الوصفة التقليدية للسلات، تطهي دون أي نوع من البهارات، ولكن مؤخراً أصبح يُضاف إليها البعض بعد عملية التسوية.

الكاشيد

يبدأ الفرح النوبي قبل يوم الفرح نفسه. تعتبر الحنة، وهي اليوم السابق للعرس، يوماً احتفالياً أيضاً، يُطهى فيه نوع مخصص من الطعام، تذبح فيه الماشية منذ الصباح الباكر، ويأكل جميع أفراد الأسرة طبخة الكاشيد، بشكل جماعي.

والكاشيد هي أول قطعة لحمة ساخنة تخرج من الذبيحة، تقطع قطعاً صغيرة مع الكبدة والأمعاء، ويضاف إليها الثوم والبهارات وتطهى على نار هادئة لفترة من الوقت، يُضاف الملح في نهاية العملية.

يأكل أهل العروسين الكاشيد سوية، يغمسونها بعيش الدوكة النوبي المخبوز خصيصاً لهذه الاحتفالات.

ومن الملاحظ أن طبخة الكاشيد تتشابه مع أكلة الكمونية المنتشرة في الصعيد خلال الأعراس أيضاً، الفروق طفيفة وتتعلّق بطريقة الطهي ووضع المكونات والوقت الذي تأكل فيه الوجبة، ما يعني أن الطبخات تتحرّك مع الناس، يطوعونها وفقاً لتقاليدهم الخاصة ومواقيت الاحتفالات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image