"لا أريد أن أصلّي إلا ما أفهمه، دعوني أصرخ فوق الجبال الصخرية، في الوديان الساكتة، فتصرخ معي أين أنت؟ دعوني أخبر الشجر قصة صديقي... هذه هي صلاتي"، في كتابه الذي سُجِّلَ بين عامي 1967 و1968 يروي الطفل زياد الرحباني ابن الـ12 سنة قصة صديقه. "الله" هو الصديق الذي عنون به كتابه (صديقي الله). في تعابيرٍ خجولة ومصطلحات تختلف نوعاً ما عن زياد الذي عرفه العالم، عبّر زياد عن خريطةٍ فكريّة بدأ يرسمها حينئذٍ. تطوّرت، وشكّلت "الرحباني" الذي نعرفه في يومنا هذا. أراد في "الله" صديقاً يسهر معه و"مع السكارى ليحكوا له حقائقهم وحالتهم"، ويخبره أحاديث مع فنجان قهوة تحضره والدته.
وُلِد الرحباني في 1 كانون الثاني/ يناير 1956، في بيتٍ لا يخلو من العمل، والصرامة، وفي وطنٍ التعدّد الهالك. منذ أن استفاق على الحياة باكياً ليجد أمّه فيروز، وأباه عاصي، لم يجد شيئاً بعيداً عن جدران هذا المنزل. أراد أن "يغوص" في كل شيء، تدخّل في ألحان والده ولعب على السلّم الموسيقي كما شاء، "تعال، أريدك أن تسمع هذه الأغنية" كان يقول عاصي لابنه. أحبّ لعبة السياسة يوماً، وتأرجح في آرائه، حتى بات للناس ما يُعرف بـ"حزب زياد" وحده، ولو كان مصبّغاً باللون الأحمر. "سألوني الناس" هو أوّل ما لحّنه زياد في العام 1973 لوالدته فيروز.
أراد في "الله" صديقاً يسهر معه و"مع السكارى ليحكوا له حقائقهم وحالتهم"، ويخبره أحاديثاً مع فنجان قهوة تحضره والدته السيدة فيروز... زياد الرحباني الذي ضحك في أغانيه، واستهزأ، وأيّد، وعارض كما يشاء
تقول الروايات حينها إنّها أعقبت دخول عاصي الرحباني إلى المستشفى. واستكمل ألحانه في مسرحية "ميس الريم" للرحابنة، التي استطاع في مقدّمتها أن ينجز موسيقى حديثة عن أبيه وعمّه منصور، تمهّد للحوارات الملحّنة في المسرحية. يمكن القول إنّ ظهور زياد جاء موروثاً، فهو ابن فيروز والرحابنة، وبدأ بتمثيل أدوار ثانوية مثل دور "الشرطي" في "المحطة" و"ميس الريم". إلّا أنّ انطلاقته الفنيّة كانت مخزوناً عقلياً كوّنه في خريطته الذهنية.
بوسطة عين الرمّانة ويساريّة زياد
بوسطة عين الرمّانة واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، شكّلا نزيفاً لدى اللبنانيين، وشحّبت وجوههم. هو تكلّم بلسان "المعتّر" اللبناني، لا بل العربي، الذي ينقم على المشهد السياسي الفوضوي تارةً، ويدافع عن قضايا يؤمن بها تارةً أخرى. تستوقف كثيرين "نبوءةُ" زياد، على اعتقاد أنّه يتوقّع كل شيء منذ زمنٍ بعيد قبل حصوله. المفارقة أنّ البلد نفسه يعيش سيناريوهات متكرّرة لغاية اليوم، وهذا لا يلغي "عبقرة" زياد بالطّبع. في مسرحيّته "نزل السرور" صوّر زياد مجموعة من "المعتّرين" الذين يقطنون في فندق. إذ يقتحم "عباس" و"فريد" الفندق ويخيّران الجميع إمّا بالتحضير للثورة أو الموت. ويتحتّم عليهم أن ينجزوا أغنية للثورة، فخرج زياد(زكريّا في المسرحية) بأغنية "جايي مع الشعب المسكين". لزياد أفكار متعدّدة واتّجاهات ينتقدها البعض، إلّا أنّه يعبّر عن نفسه قائلاً: "اشتراكي علماني ولست شيوعياً لأنّ الشيوعية مثل الدين".
انطلاقاً من هنا، يمكننا القول إنّ زياد يُعتَبَر عنصراً أساسياً في تكوين الأغنية اليسارية في لبنان. ولكي لا نذهب معمّقاً في هذا التعريف، فإنّ هذا الطرف يعبّر عن نفسه أنّه يقف إلى جانب القضية الفلسطينية والفقراء وحق الشعوب. "خلّصوا الأغاني هنّي ويغنّوا عالجنوب، خلّصوا القصايد هنّي ويعدّوا عالجنوب، اللي عم يحكوا اليوم... هو غير اللي ماتوا، المعتّر بكل الأرض دايماً هو ذاتو"، أطلق زياد الرحباني هذه الأغنية تحت مسمّى "المقاومة الوطنية اللبنانية" من البوم "أنا مش كافر" العام 1985.
لزياد أفكار متعدّدة واتّجاهات ينتقدها البعض، إلّا أنّه يعبّر عن نفسه قائلاً: "اشتراكي علماني ولست شيوعياً لأنّ الشيوعية مثل الدين"
وصوّرت حينها حال الجنوب اللبناني بعد الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، والتي كانت "المقاومة الوطنية اللبنانية" مشاركة في محاربته. لطالما عبّر زياد عن نقدٍ لاذع بكلماته المسرحية والأغاني تجاه السلطة السياسية اللبنانية خصوصاً، والسلطة الدينية. فهو راد ألّا يكفّر أحد الشعوب في حال الجوع والفقر والمرض الّتي سادت في فترة الحرب اللبنانية، وتتكرّر أشكالها في المشهد الحالي مع تفاقم الأزمة. "أنا مش كافر بس الجوع كافر، بس المرض كافر، بس الفقر كافر، بس الذّل كافر".
رفيق درب زياد و"حنجرة" أعماله هو جوزيف صقر. فكان من ضمن اللون اليساري الذي خرج في لبنان، والذي لا يقرّ بضرورة أن يكون الصّوت الغنائي "مذهلاً". استمع اللبناني "العاديّ" للأغاني الأقرب إلى قلبه، وكان شارع الحمرا، شارع السّهر والحياة، المحطّة الأولى لهؤلاء. الرحباني وصقر شكّلا مزيجاً غنائياً قليل الحيل وبسيط السّمع، حتّى الضّحكات والحوارات السّاخرة كانت تظهر في أغانيهم. "سهريّة" و"بالنسبة لبكرا شو"، و"فيلم أميركي طويل"، من أبرز المسرحيات التي حملت الرسائل التي أراد زياد إيصالها إلى جانب صقر. إذ استطاع زياد، بحنكته الفنيّة، أن يوظّف في أغانيه جزءاً عاطفياً عاشه.
"مغبى الدلال"
"ممنونو أنا لابوكي ممنونو عالاستقبال، قللي بتعرف بنتي طلبها المحامي واللي بيجوا لعنّا من أحسن عيال"، كتب زياد هذه الكلمات بعد أن انفصل عن زوجته السابقة دلال كرم التي التقاها بـ"ميس الريم" حيث كانت جزءاً من فريق الدبكة. غنّاها صقر بصوتٍ ساخر، بينما كان زياد يضحك طوال الأغنية ويحادث مرتجلاً، ليغنّي في آخرها: "مغبى الدّلال ربّوكي" بعد أن كانت "مربى الدلال" في بدايتها.
"خلّصوا الأغاني هنّي ويغنّوا عالجنوب، خلّصوا القصايد هنّي ويعدّوا عالجنوب، اللي عم يحكوا اليوم... هَوْ غير اللي ماتوا، المعتّر بكل الأرض دايماً هوِّ ذاتو"
وظهرت الأغنية بعدما خرجت تصريحات صحافية تتهم زياد بخيانته لزوجته واتجاهه إلى الإدمان، فكانت بمثابة ردّ عليها. وبعد كل هذه "المعمعة" العاطفية انتقل لعلاقة مساكنة مع الممثّلة اللبنانية كارمن لبّس لحوالى 15 عاماً. يُحكى أنّ زياد كان يضع "لقمة السّودة" في فمه والملح في فم لبّس، أو العكس، وهو واقع يحاكي العلاقة التي كانت قائمة بينهما. انتهت العلاقة بعدما غنّى لها زياد بلسان فيروز "عندي ثقة فيك". إذ اكتشفت كارمن أنّ زياد "غير قادر على الاستقرار الذي ترغب فيه". لكنّه كان الشخص الوحيد الذي أحبّته، بحسب تصريحها في إحدى المقابلات. عانى من الجانب العاطفي بالتحديد، وأطلق أغنية "ولّعت كتير" التي تحدّث فيها عن إمرأة عاشت معه لفترة طويلة، أي كارمن لبّس. "قللي كيف ممكن انو تسكن بنت عند انت، قللي شو بتعملها، روح يا!".
فيروز زياد: متمرّدة شبابيّة
بعد وفاة الأخوين الرحباني، تصاعدت منافسة زياد لهما. إلى جانب المسرحيّاتٍ التي تحاكي الواقع اللبناني بعباراتٍ واقعية تُسمع بين أروقة بيروت، كان له فنّ إقناع فيروز في أغانيه. من كان يظنّ أنّ فيروز التي غنّت لفخر الدّين وبيروت بعبارات كلاسيكية معمّقة رحبانياً، ستغنّي "حاج تنفّخ دخنة بوجّي ولو بتدخّن لايت" بأغنية "لا والله"؟
تخوّف كثيرون من أن تتحوّل فيروز إلى مطربة ذات قيمة مختلفة عمّا كانت عليه سابقاً. "ضاق خلقي يا صبي من هالجوّ العصبي"، ساهم زياد بـ"نهضة فيروز"، خصوصاً أنّه حوّلها في بعض أغانيه إلى امرأة ذات عنفوان بعدما كانت تطلب الاهتمام والحب في أغاني الأخوين
- فيروز: "هيدي شو بدنا نعمل فيها؟
- زياد: "بدنا نغنيها"
- فيروز: "هيك بهالكلام؟"
شكّلت أغنية "كيفك إنت" مفارقة لدى فيروز التي شعرت في البداية أنّ كلمات الأغاني هابطة وقالت لزياد "ملّا إنت رح تعمل مشكلة". وظلّت تفكر بالأغنية لأربع سنوات، ومن ثمّ كانت أكثر الأغاني مبيعاً في السنة التي أُطلقت فيها، بحسب ما قال زياد في إحدى مقابلاته. تخوّف كثيرون من أن تتحوّل فيروز إلى مطربة ذات قيمة مختلفة عمّا كانت عليه سابقاً. "ضاق خلقي يا صبي من هالجوّ العصبي"، ساهم زياد بـ"نهضة فيروز"، خصوصاً أنّه حوّلها في بعض أغانيه إلى امرأة ذات عنفوان بعدما كانت تطلب الاهتمام والحب في أغاني الأخوين. "تنذكر ما تنعاد، ونشوفك بالأعياد، تعمّر وتجيب اولاد بس تنساني... شو هالحب اللي طالعلي فيه، شو هالقلب اللي بس نسمع فيه، بتبلّش حب وما بتكفّيه"، هي من تلك الاغاني التي حاول زياد فيها تبسيط "هالة" فيروز نحو الأجواء التي يعيشها الشباب في علاقاتهم ببساطة. ونقل بعض أغانيه التي قدّمها جوزيف صقر في مسرحيّاته إلى فيروز، مثل أغنية "ع هدير البوسطة" التي باعها لوالده بـ"500 ليرة" في حينها، و"تلفن عيّاش".
كسر زياد الرّحباني قدسيّة الكلمات لدى والدته فيروز، وضحك في أغانيه، واستهزأ، وأيّد، وعارض كما يشاء، من دون قيود. كما اعتاد عليه الجميع، صريح ومرنٌ في أفكاره. يعود إلى شبكة العواطف التي ربطها بخريطة أفكاره، فيرفض أن يكون "ماريونيت" أو تحت أي نظام أبوي أو ديني أو سلطوي. ولو كان هناك اختلاف، ولو قليلاً، على الصبغة اليسارية، وتوجّهاته السياسية، إلّا أنّ إنصافه لـ"المعتّر" يبقى متصدّراً كل أعماله وأقواله. علماً أن غيابه في الفترة الأخيرة يُزعج كثيرين ممّن ظلوا في لبنان أو الوطن العربي ويعيشون في خضم أزماته الحالكة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع