من

من "قبلة الساحل" إلى حبس فتيات تيك توك… نقابة الموسيقيّين ذراع للأخلاق في مصر 

رأي

الأربعاء 23 يوليو 20259 دقائق للقراءة

في 21 تموز/ يوليو 2025، وبينما كان المطرب اللبناني راغب علامة، يشدو لجمهور الساحل الشمالي، التقطت كاميرا هاتف لقطةً خاطفةً لمعجبة تصعد على المسرح وتطبع قبلةً سريعة على خدّه ومن ثم فمه. خلال ساعات قليلة، كان ذلك المشهد -الذي انتشر كالنار في الهشيم على منصّات فيسبوك وإنستغرام وتيك توك- قد وضع نقابة الموسيقيّين المصريّة في قفص الاتهام الأخلاقي. فمع حلول ظهر اليوم التالي، أصدر النقيب مصطفى كامل، قراراً عاجلاً بمنع راغب علامة من الغناء في مصر واستدعائه للتحقيق بسبب ما عُدّ "سلوكاً مشيناً" على المسرح. اشتعلت المنصّات بالتعليقات الساخرة و"الكوميكس" عن "حفلة الساحل الشمالي"، وبدا أنّ التراند تحوّل إلى محكمة شعبية تُملِي على النقابة ما ينبغي فعله. وكأنّ التراند يشكل آلية ضبطٍ تسبق القانون بخطوة، وهو ما يفسّر استجابة النقابة السريعة لكل مشهد يشتعل على المنصّات.

من هاني شاكر إلى مصطفى كامل

قرار مصطفى كامل السريع تجاه "قبلة الساحل" لم يكن طفرةً منعزلةً، بل حلقة جديدة في مسلسل بدأ قبل ذلك بسنوات. فقد حوَّل النقيب الأسبق هاني شاكر، منصب نقيب الموسيقيين إلى منصّة لضبط ما أسماه "الذوق العام". ففي شباط/ فبراير 2020، أصدر شاكر قراراً شهيراً بمنع ما يُعرف بمطربي المهرجانات من العمل نهائياً. برّر شاكر خطوته يومها بأنّ "أغاني المهرجانات" تحوي إيقاعات وكلمات ترسّخ عادات غير أخلاقية "وتفرز جمهوراً من مستمعي الغريزة"، وذهب إلى وصف مؤدّي المهرجان بأنّه "الأب الشرعي لهذا الانحدار الفنّي والأخلاقي". لم يكتفِ شاكر بمنع لونٍ غنائي كامل؛ بل أكد أنّ عضوية النقابة أو تصاريح الغناء مشروطة بالالتزام بالقيم العليا للمجتمع والعرف الأخلاقي، بجانب جودة الصوت. 

في 21 تموز/ يوليو 2025، وبينما كان المطرب اللبناني راغب علامة، يشدو لجمهور الساحل الشمالي، التقطت كاميرا هاتف لقطةً خاطفةً لمعجبة تصعد على المسرح وتطبع قبلةً سريعة على خدّه ومن ثم فمه. خلال ساعات قليلة، كان ذلك المشهد قد وضع نقابة الموسيقيّين المصريّة في قفص الاتهام الأخلاقي.

هكذا دشّن شاكر خطاب "حماية الذوق العام"، وهو النهج الذي ورثه مصطفى كامل عام 2022. وبرغم إبداء كامل بعض المرونة في بداية عهده مع مغنّي المهرجانات، إلا أنه سرعان ما وسّع مظلّة المنع لتشمل موجة مغنّي الراب الجدد. وفي صيف 2025، استغلّ كامل موسم الحفلات الصاخب ليشنّ حملة تطهير في الساحل الشمالي: ففي بيان مفاجئ، أعلن شطب عضوية 3 مطربين بشكل نهائي بدعوى ارتكابهم مخالفات في حفلات خاصة، بعد أن رصدت لجان النقابة سرّاً فيديوهات لتجاوزاتهم الأخلاقية على المسرح. تعمّد كامل حجب أسماء المُلغاة عضويتهم تفادياً لمنحهم شهرةً لا يستحقونها، وأكّد في البيان نفسه أنّ النقابة لن تنسى من احترم المهنة، "ولن تتساهل مع العابثين بكل القيم والمبادئ والأعراف". انتقال راية "حماية الذوق" من شاكر إلى كامل، كرّس موقع النقابة كرأس حربة في معركة أوسع لضبط الأخلاق الفنّية في مصر.

الأخلاق تتجاوز الموسيقى

لم تكن نقابة الموسيقيين وحدها على خط المواجهة. قراراتها تزامنت وتقاطعت مع حملة أوسع شنّتها أجهزة النيابة والقضاء ضد ما عدّته انفلاتاً أخلاقياً على الإنترنت. ففي منتصف 2020، وتحت وطأة بلاغات وتحريض من رواد التواصل الاجتماعي، بدأت السلطات المصريّة باعتقال عدد من الفتيات المؤثرات على تطبيق تيك توك، أبرزهنّ حنين حسام، ومودة الأدهم. وُجّهت إليهنّ تُهم فضفاضة مثل "خدش الحياء العام" و"الاعتداء على قيم ومبادئ الأسرة المصرية"، بموجب قانون الجرائم الإلكترونية الجديد.

وبحلول منتصف 2021، كانت محكمة القاهرة الاقتصادية قد أصدرت حكماً بحبس عدد منهنّ سنتين وتغريمهنّ 300 ألف جنيه بالتهمة ذاتها: انتهاك قيم الأسرة المصرية. وفي قضيّة لاحقة، شدّدت محكمة الجنايات العقوبة إلى 10 سنوات سجن بحقّ حنين حسام (خفِّضت إلى 3 سنوات في الاستئناف)، بتهمة إضافية هي الإتجار بالبشر. لغة الأحكام القضائية هي صدى بيان النقابة: فالحديث يدور في الحالتين عن القيم والأعراف والأخلاق. تزامن هذه الحملات يشي بمشروع منسّق؛ فالسلطة القانونيّة في مصر باتت تتأثر بالاتجاهات السائدة على مواقع التواصل وترصدها ثم تتصرّف على أساسها بوصفها سلطةً أخلاقيةً محافظة. هكذا تكاملت أدوار النقابة وجهات التحقيق في رسم حدود غير رسمية للأخلاق العامّة. ويبقى السؤال: إذا كانت نقابة فنّية تتحوّل إلى "شرطة قيم"، فمن يراقب هذا التكامل غير المسبوق بين السلطة الثقافيّة والسلطة القضائية في فرض الفضيلة؟

يبقى السؤال: إذا كانت نقابة فنّية تتحوّل إلى "شرطة قيم"، فمن يراقب هذا التكامل غير المسبوق بين السلطة الثقافيّة والسلطة القضائية في فرض الفضيلة؟

منطق الوصاية الوطنية

تستمدّ نقابة الموسيقيين شرعيّة حملاتها الأخلاقية من خطاب وطني/ اجتماعي يتجاوز منطق التديّن الفردي. فعند كل قرار منع أو إلغاء، يؤكد النقيب ومجلسه أنهم يتحرّكون دفاعاً عن سمعة مصر وهويّة شعبها. على سبيل المثال، حين تصاعد الجدل صيف 2023، حول حفل مغنّي الراب الأمريكي ترافيس سكوت، قرب الأهرامات، سارع مصطفى كامل إلى التبرؤ من الحفل خشية "طقوس غريبة" منسوبة إلى الفنّان. صرّح كامل في مداخلة تلفزيونية: "لا يمكن أن أكون ضد بلدي… أنا بحبّ مصر وبخاف عليها… لكن لا يمكنني أن أكون صاحب القرار الوحيد في تنظيم الحفل". وأوضح أنه جمّد تصريح حفل سكوت، مؤقتاً في انتظار موافقة الجهات الأمنية، مؤكداً أنّ احترام الرأي العام واجب ما دام الحديث موثقاً ودقيقاً.

يستخدم كامل هنا مفردات الوصاية الوطنية: فهو يخشى على صورة البلاد أمام العالم (خاصةً أن حفل سكوت عالمي الموقع)، ويربط قراره بـ"احترام الرأي العام" الذي يتماهى ضمنياً مع قيم المجتمع وتقاليده. حتى في بيان إيقاف راغب علامة، حرص النقيب على التذكير بأنّ مصر أم كلثوم وعبد الوهاب وحليم لن تُدنّسها قُبلات على المسرح. هذا التأطير يضفي بُعداً وطنياً على قرارات المنع؛ فكأنّ النقابة تدافع عن تراث مصر الثقافي وسمعتها السياحية أكثر من مجرد فرض فضيلة دينية. إنها أخلاق مكسوّة برداء علماني/ وطني، حيث يُستدعى شرف الوطن واسم أم كلثوم قبل أي اعتبار آخر. لكن هذا الخطاب، وإن منح النقابة غطاءً شعبوياً، يطرح تساؤلاً خطيراً: هل تصبح الوطنية ذريعةً لتقييد الحريّات الإبداعية تحت شعار حماية الصورة العامة؟

تستمدّ نقابة الموسيقيين شرعيّة حملاتها الأخلاقية من خطاب وطني/ اجتماعي يتجاوز منطق التديّن الفردي. فعند كل قرار منع أو إلغاء، يؤكد النقيب ومجلسه أنهم يتحرّكون دفاعاً عن سمعة مصر وهويّة شعبها.

اقتصاد المنع وتضخيم التراند

وراء شعارات الأخلاق والوطنية، يكمن أيضاً اقتصاد خفيّ للمنع بدأت معالمه تتضح. قرارات الإيقاف والمنع لا تقتصر آثارها على التهذيب الأخلاقي؛ بل باتت تمتد إلى حسابات الربح والخسارة لجميع الأطراف. أولاً، نقابة الموسيقيين نفسها تستفيد مادياً من سلطتها الرقابية؛ فهي الجهة المخوّلة إصدار تصاريح الحفلات مقابل رسوم، وتملك حق تغريم المخالفين سواء كانوا أعضاء نقابيين أو فنانين من خارج النقابة. 

وقد كشف مصطفى كامل، في بيان رسمي، أنّ النقابة تعمّدت أحياناً فرض إيقافات مؤقتة دون غرامات مالية لتثبت أنّ هدفها صون الذوق العام... وليست بحاجة مادية إلى فرض الغرامات، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ النقابة تمرّ بأزهى عصورها مالياً. 

هل تصبح الوطنية ذريعةً لتقييد الحريّات الإبداعية تحت شعار حماية الصورة العامة؟

هذا التصريح بحدّ ذاته يوحي بأنّ غرامات المخالفات وتصاريح الحفلات تحوّلت إلى مورد يدعم خزانة النقابة. ثانياً، بالنسبة إلى الفنانين أنفسهم، فقد لوحظ أنّ الضجة الأخلاقية كثيراً ما تتحوّل إلى دعاية مجانية ترفع معدلات الاستماع والمشاهدة، أي أنّ الاهتمام الزائد من الجمهور -سواء بدافع الفضول أو التضامن- ضخّ ملايين جديدةً في رصيد شعبيته الرقمية. 

أخيراً، لا يمكن إغفال أنّ وسائل الإعلام ومنصات التواصل نفسها تجني مكاسب من إطالة أمد الجدل. فكلما احتدمت قضية المنع والمنع المضاد، ارتفعت نسب المشاهدة والتفاعل، وهو ما يترجَم إلى أرباح إعلانية ومكاسب للجميع ما عدا ربما الجمهور الباحث عن مضمون فنّي سلس. هكذا يصبح التراند مربحاً على نحو يتجاوز قصد النيّة الأخلاقية الأصلية. لقد خلق منطق المنع حلقةً مفرغةً: المنع يؤدي إلى ضجة، والضجة تعزز شعبية الممنوع، والشعبية تستدعي مزيداً من المنع، وفي كل دورة هناك مستفيدون.

إلى أين؟

بعد "قبلة الساحل" وما تلاها من عاصفة، يقف المشهد الفني المصري أمام مفترق طرق محفوف بالأسئلة. يمكن تخيّل ثلاثة سيناريوهات لمستقبل علاقة النقابة بالأخلاق الرقمية:

أولا المضيّ في تكريس النقابة كـشرطة قيم رسمية، بحيث تُمنح صلاحيات أوسع لمراقبة المحتوى الفني على المنصّات وتقرير ما يُعرض وما يُحظر، وربما نرى بروتوكولات تعاون معلنة بين النقابة والجهات الأمنية لضبط الإيقاع الأخلاقي العام، أو على النقيض، قد يُطرح تشريع أو لائحة تفصل بين الدور النقابي المهني والوصاية الأخلاقية، فلا تصبح مهمة النقابة فرض الفضيلة بل تنظيم المهنة فنياً وإدارياً فحسب؛ وهذا السيناريو يتطلب ضغطاً حقوقياً وبرلمانياً لمنع تدخّل الدولة في الأخلاق الشخصية. 

ربما كانت قبلة المعجبة على مسرح الساحل هي القبلة الأولى في معركة مفتوحة حول من يرسم حدود الفنون في مصر الرقمية، وما زالت فصولها القادمة مفتوحةً على كل الاحتمالات.

أما السيناريو الثالث، فهو ظهور تنظيم ذاتي داخل الوسط الفني، يقوده الفنانون أنفسهم لوضع ميثاق شرف أخلاقي يوازن بين حرية الإبداع واحترام الجمهور، بما ينزع من أيدي النقابة ذرائع التدخل ويترك للجمهور حق تقييم الفن. 

في كل الأحوال، يبقى السؤال الأكبر معلّقاً: من يراقب المراقِب في عصرٍ باتت فيه الهواتف الذكية ساحات قضاء، والتراندات قوانين غير مكتوبة؟ ربما كانت قبلة المعجبة على مسرح الساحل هي القبلة الأولى في معركة مفتوحة حول من يرسم حدود الفنون في مصر الرقمية، وما زالت فصولها القادمة مفتوحةً على كل الاحتمالات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image