أودت أحداث مسلسل "صلة رحم" بطبيب عمليات الإجهاض خالد إلى النيابة تمهيداً للسجن، بينما ادخرت مصيراً أقسى بكثير لزميله الدكتور حسام، الذي طارد حلم الأبوة إلى درجة استئجار رحم شابة فقيرة ومطاردة.
لكن لا سجن خالد ولا المصير القاسي لحسام سيضعفان من الحجج الأخلاقية التي نسجها المسلسل على مهل طوال حلقاته الخمس عشرة، أمام النيابة يعلن طبيب الإجهاض (محمد جمعة في أداء كبير استعاد الممثل الموهوب من كليشيه "عم ضياء" في مسلسل الوصية) أنه "غير نادم"، فقد "أنقذ أكثر من مئة روح"، في إشارة إلى الفتيات اللواتي أجرى لهن عمليات الإجهاض، لقد أنقذهن "من الفضيحة، وربما القتل"، يكرر الطبيب أمام النيابة الحجج التي جادل بها زميله حسام - الذي جسد دوره إياد نصار - في الحلقة الثالثة، في إشارة إلى أن قناعاته لم تهتز رغم القبض عليه، ومنها أنه "منع ولادة 'أطفال فضيحة' لم يكن أحد ليريدهم".
حجج الطبيب خالد حول الإجهاض، تكاد تكون الرسالة الأقوى، أو الأكثر عمومية من بين رسائل زخر بها العمل الذي يعد الإخراج الثاني لتامر نادي، لأن الإجهاض بطبعه قضية أكثر انتشاراً بكثير من المحاولات النادرة لاستئجار رحم، "واحدة من كل 4 حالات حمل تتعرض للإجهاض على أية حال"، يواصل خالد "مرافعته" أمام النيابة.
الانحياز لقضايا النساء في "صلة رحم"، والعرض القوي لحجج الطبيبين خالد وحسام، نجا بالعمل من فخ "النهايات الوعظية" التي طالما سقطت فيها أعمال أخرى في السينما والدراما المصرية، كثلاثية علي عبد الخالق ("العار"، و"الكيف"، و"جري الوحوش")، التي كتبها محمود أبوزيد. اللافت أن نجل أبو زيد، أحمد، هو صاحب فكرة "صلة رحم"
في المقابل، لم يبخل العمل في سرد الحجج القانونية والشرعية المضادة، لكنها ظلت باهتة لأن السيناريو كان منحازاً (بأدوات الدراما) لحالات الظلم التي تعرضت لها نساء المسلسل، والتي تعكس حكاياتهن المسألة الأساسية في الإجهاض، أي حق التصرف في الجسد، سواء كان ذلك الجسد بويضات الدكتورة ليلى - الشخصية النسائية في العمل وتؤدي دورها يسرا اللوزي - التي يزرعها زوجها دون علمها في رحم امرأة أخرى، أو جسد حنان - تلعب دورها أسماء أبو اليزيد - الذي يعتبره زوجها السابق فرج "محمد السويسي" من ضمن أملاكه ويرفض أن يتركها لحياة جديدة، أو جسد نورا - تؤديها نورا عبد الرحمن - الذي تخلّى عنه حبيبها شاكر - يقوم بالدور محمد دسوقي - بعد علاقة جنسية ليتركها في مواجهة مصير قادها إلى عملية إجهاض كادت تفقدها حياتها.
هذا الانحياز لقضايا نساء المسلسل، والعرض القوي لحجج الطبيبين خالد وحسام، نجا بالعمل من فخ "النهايات الوعظية" التي طالما سقطت فيها أعمال أخرى في السينما والدراما المصرية، كثلاثية علي عبد الخالق ("العار"، و"الكيف"، و"جري الوحوش")، التي كتبها محمود أبوزيد. المفارقة أن نجل أبو زيد، أحمد، هو صاحب فكرة "صلة رحم"، بينما كتب محمد هشام عبية - الذي تحوّل في سنوات قليلة إلى مؤلف مخضرم - السيناريو والحوار، البارع والمشدود والمحمل بالرسائل، والأهم، أنه بالذكاء الذي وضع النهايات المؤلمة الحتمية - لأن الرقابة لن تسمح بأن "ينجو" طبيب الإجهاض ومستأجر الرحم – في سياق درامي سليم ومؤثر، تم البناء له على مهل، كي لا يبدو منفصلاً عن المسار الأساسي، وهو ما يصعب قوله عن نهاية "مؤلمة" أخرى، لعمل جريء بدوره، هو "أعلى نسبة مشاهدة" من إخراج ياسمين أحمد كامل وتأليف سمر طاهر.
تمثلت "جرأة" "أعلى نسبة مشاهدة" في أنه منح البطولة، ومن ثم التعاطف الدرامي إلى البسطاء الذين وجدوا في تطبيق "تيك توك" طوق نجاة محتمل من الفقر ومن دوامة حياة ليس فيها سوى الإفلاس والإيجار المتأخر والملابس الرخيصة، والاستغلال في العمل غير اللائق بعد المعاش – إن توفرت الوظيفة – أو تقبل الإهانات أثناء الخدمة في المنازل، هكذا يمنح تطبيق إلكتروني على هاتف رخيص أملاً لهؤلاء في التحرر من الإذلال اليومي، والارتقاء إلى طبقات وحياة "أرقى".
لكن التطبيق الذي يبعث تلك الأحلام يزداد تطلباً يوماً بعد يوم بحثاً عن "اللايكات" و"الكبسات"، إنه جائع إلى تحويل الإنسان إلى فقرة ترفيهية على الشاشة، فقرة تبتلع حياته وأدق خصوصياته، ولكن كل ما سبق ليس حيّز الجرأة المقصودة، بل كونه استوحى قضايا شغلت الرأي العام قبل سنوات، وأدان فيها المجتمع والقانون معا فتيات اتهمن بـ"هدم قيم الأسرة المصرية"، ووصفن عموماً بأنهن "يتراقصن على تيك توك".
على عكس ما جرى في "صلة رحم"، بدا موقف "أعلى نسبة مشاهدة" مرتبكاً من بطلتيه، شيماء وشقيقتها نسمة الكاريزما. التعاطف الدرامي كان حاضراً ولكنه أقرب إلى التعاطف مع فتيات "أخطأن"، أكثر من كونه تعاطفاً مع شخصيات مارست – في نهاية الأمر - حريتها الشخصية… من هنا بدت نهاية العمل، المحاكمة والسجن، أقرب إلى "تطهير" الشخصيات، حتى أن "شيماء" تبتسم لضوء الشمس في ساحة السجن، وكأنها قد وجدت هناك راحتها أخيراً!
يقتبس المسلسل قصص هؤلاء الفتيات، ممثلاً في حكاية شيماء - تقوم بالدور سلمى أبو ضيف - وشقيقتها الصغرى "نسمة الكاريزما" - تجسدها ليلى زاهر - وبدا جهد الإخراج واضحاً في رسم تفاصيل اجتهدت الممثلتان في تقديمها إلى حد شديد التوفيق، واستطاع السيناريو تصوير حالة الاستدراج السريع التي يصنعها استيلاء "الترند" على الإنسان، ولكن، على عكس ما جرى في "صلة رحم"، فقد بدا موقف المسلسل مرتبكاً من بطلتيه، إن التعاطف الدرامي كان حاضراً ولكنه أقرب إلى التعاطف مع فتيات "أخطأن"، أكثر من كونه تعاطفاً مع شخصيات مارست – في نهاية الأمر - حريتها الشخصية، لقد تكررت عبارة "اتفضحنا" وقد التبس فيها أمر "الفضيحة"؛ هل هي فضيحة نسبية (لأنهن من حي شعبي) أم هي فضيحة في المطلق، أي جريمة؟ من هنا بدت نهاية العمل، التي شملت المحاكمة والسجن، أقرب إلى "تطهير" الشخصيات، حتى أن "شيماء" تبتسم لضوء الشمس في ساحة السجن، وكأنها قد وجدت هناك راحتها أخيراً!
فهل هو ارتباك أصليّ من صناع "أعلى نسبة مشاهدة"، أم أنها محض مهارة أقل - من مهارة صناع "صلة رحم" - في صياغة نهاية مرضية للرقابة دون أن يتداخل فيها الألم والوعظ؟ يُحسب للعملين، على كل حال، أن قضاياهما ورسائلهما، لم تخلّ بشروط تقديم مادة فنية دسمة، وشخصيات حية سوف تعيش طويلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...