طفولة فلسطينية… بين ذكرى الأرض والغربة

طفولة فلسطينية… بين ذكرى الأرض والغربة

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 14 سبتمبر 20255 دقائق للقراءة

هذا الملف يتضمّن مجموعةً متنوعةً من النصوص، مرفقةً بخمس صور، من إنتاج أعضاء “ناس رصيف”.

جاءت هذه الأعمال ضمن تمرين فوتو-ستوري أشرف عليه شربل كامل في جانب الكتابة الإبداعية والتحرير، ويوسف عيتاني في جانب التصوير.


عندما كان عمري أربع سنوات، كانت والدتي تأخذني يومياً إلى المدرسة، وتسلك الطريق نفسه، وتتوقف عند الإشارة ذاتها. وفي كل مرة، كان يتواجد طفل في مثل سنّي، يرتدي الكنزة البرتقالية نفسها، يركض نحوي عند نافذتنا المغلقة في لقائنا اليومي. كان يطرق على الزجاج، وكنت أرسم له خطوطاً يتبعها بعينيه. لم نتبادل الحديث يوماً، ولم تُفتح النافذة مرةً، لكنني كنت أعرفه، وكان يعرفني.

في ذلك الوقت، كان يُقال إنّ هؤلاء "أولاد شارع"، وإنّ الطفل يجب أن يكون "ابن بيت" لا "ابن شارع". وكنت أتساءل بيني وبين نفسي: من هم أولاد الشارع؟ ولماذا لا يجب أن أكون مثلهم؟ علماً أنني كلما تصرفت بحرية -رسمت على الحائط، أو رفعت صوتي في أثناء اللعب، أو تمردت على السلطة- كان يُذكّرني أحدهم بالفرق بين "ابن البيت" و"أولاد الشارع".

اعتدت حين كنت أضجر في الصف، على الهروب إلى عالم الخيال، آخذاً معي صديقي إلى المدرسة. في مخيّلتي، كنت أقارن بين طريقينا في الحياة: هو نشأ في مكان "لا يُفترض" أن يكبر فيه، وأنا كنت أشعر بأنني لا يجب أن أكون هنا أصلاً. لو كان لي مكان حقيقي هنا، لما كانت تحركاتي محصورةً بهذا الشكل.

في بيتنا، كان لدينا صالون كبير مليء بالأرائك، لكنها كانت كلها فارغة. وفوق التلفاز، في منتصف الصالون، كانت معلّقةً صورة جدّي الأكبر بالأبيض والأسود. كأنّ الغرفة تحوي عائلةً بأكملها، بينما الأفراد غائبون. كنت أسمع عنهم وأتابع أخبارهم، وهم موزّعون بين بلدان متعددة. ومع مرور فترات طويلة على غيابهم، كان حضورهم يُظهر أنّهم لم يتركونا يوماً. بين قصص الماضي والحاضر، تتكوّن صورة متشابكة عن عائلتي وذاتي، لا تعرف كيف تحدد معنى الزمن.

"بدأت تلاحقني الأسئلة: ما الطبيعي وما غير الطبيعي؟ ما علاقة الإنسان بالمدينة، بالشوارع، بالبناية، بالبيت؟ متى أصبحت الأرض مشروعاً استثمارياً، ومتى تحولت حياتنا إلى مجزرة متكررة؟"

هم مخفيون خلف ستار الغربة، وأنا هنا، في مدينة لا أعرف إن كنت أنتمي إليها، أو إن كانت ترحّب بوجودي. بدأت أمشي، أراقب الشوارع من حولي، وأتابع كمية الباطون والزفت التي تحاصرني، وأصوات أبواق السيارات ودخانها الذي يملأ الهواء. لفت انتباهي النبات الأخضر، الذي يشقّ طريقه بين الإسمنت وإطارات السيارات العابرة. تذكرت كيف كانوا يعلّموننا في مادة العلوم أنّ النبات كائن حيّ، فبدأت أراقب من أين ينبت، وكيف تعود الأشجار لتمدّ جذوعها بعد أن تُقصّ، ويتشكل بينها نمو جديد وذبول وعطش. رأيت أشجاراً تنمو على جدران بيوت مهجورة من دون أن يسقيها أحد. كيف برغم كل ما يحاصرها وقد يقتلها، تجد طريقها لتلحق ضوء الشمس، وتتجسّد في زمكان مؤقت، وكأنني أمام برزخ مفتوح؟

بدأت تلاحقني الأسئلة في أثناء مشيي ومراجعة أفكاري عن هذا العالم الذي يتكوّن أمامي: "هل هذا الذي أمامي طبيعي؟ ما هو الطبيعي وما هو غير الطبيعي؟ وإذا كان هناك ما يُعدّ غير طبيعي، فما الذي يُميّزه؟ ما الذي يجعل ما ينبت من الأرض طبيعياً، والإنسان غريباً عن الطبيعة؟ هل تُعدّ الغابة نموذجاً متشابكاً كالمدينة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما علاقة الجسد بالطبيعة؟ وما علاقة الإنسان بالمدينة، بالشارع، بالبناية، وبالشقّة؟ متى بدأت المدينة وانتهت القرية؟ متى اختفى البيت وأصبح بنايةً؟ متى أصبحت بلادي موطني، ومتى تحولت الأرض إلى مشروع استثماري؟".

عندما بدأ العدوان الإبادي على غزة، وامتدّ إلى لبنان، ازدادت الدوّامة في رأسي مع طنين الطائرات المسيّرة فوقنا في السماء: متى أصبح الطريق شارعاً؟ ومتى تحول التراب إلى زفت؟ متى أصبحت الأرض مخيماً؟ كيف تحولت من خيمة إلى مخيم؟ متى كان البيت مأمناً ومتى يُجتاح؟ متى تكون المنطقة على طبيعتها ومتى تُقصف؟ متى يكون اليوم عادياً؟ ومتى يتحوّل إلى مجزرة؟ متى تصبح المدينة وطناً ومتى تتحوّل إلى "منطقة حرب"؟ في بلادنا، أجسادنا عالقة في ملحمة تتلاشى في العدم.

برغم أنّ محمود درويش قال إننا نحبّ الحياة، ولو لم نجد إليها سبيلاً، إلا أننا، وبرغم كل شيء، نعيش مثل الأرض. لكن، يا تُرى، لماذا يحدث لنا ذلك مراراً وتكراراً؟

"برغم كل شيء، نعيش مثل الأرض: نتحمل الخراب ونحاول البقاء، لكن النظام الذي تطوّر لم يُبنَ لأجلنا، بل لأجل كيان يمتص الروح من الأرض والجسد، ويجبرنا على التشكّل وفقه."

الآلية نفسها التي تصبّ الإسمنت على طرقاتنا وتخنق مجاري الحياة، هي التي تُهجّر الأطفال وتدفع الناس نحو الفقر والجوع. أجدادنا يتذكّرون أياماً كان فيها الرزق متناغماً مع الأرض، لا ضدّها. النظام الذي تطوّر في عالمنا لم يُبنَ لأجلنا. أجسادنا تتعذّب في تفاصيل اليوم العادي، لكننا لا نسمعها. ربما، ربما كل تحركاتنا وأفكارنا اليومية، ما بين الروتين والعمل، تخدم كياناً واحداً، سياسةً واحدةً تمتصّ الروح من الأرض والجسد. فهل نحن جزء منها؟ أو أننا مُجبرون على التشكّل وفقاً لها، برغم كونها تخنقنا؟

قال جيمس بالدوين: "لقد كان الرجل الأسود في عالم الرجل الأبيض نجماً ثابتاً، وعموداً راسخاً: وعندما يغادر مكانه، تهتزّ السماء والأرض من أساسهما".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image