هذا الملف يتضمّن مجموعةً متنوعةً من النصوص، مرفقةً بخمس صور، من إنتاج أعضاء “ناس رصيف”.
جاءت هذه الأعمال ضمن تمرين فوتو-ستوري أشرف عليه شربل كامل في جانب الكتابة الإبداعية والتحرير، ويوسف عيتاني في جانب التصوير.
منذ وطأت قدماي هذه المدينة، وأنا أحمل صفة "زوجة فلان" و"أمّ فلانة". أشعر أنه لم تُتَح لي الفرصة لأكون فقط "أنا". 7 سنواتٍ مرّت وأنا أتنقل بين جدران وطرقات مدينةٍ غريبة ومألوفة في الوقت نفسه، لا أكرهها حدّ النفور فأتركها، ولا أحبّها حدّ التعلّق فأنغمس فيها. أقف دوماً على مسافةٍ محايدة من كل شيء، من ثقافتها، ناسها، شوارعها، وطعامها، وأتحيّز دوماً لأمومتي وهويّتي.
في بدايات غربتي، كان حاجز اللغة هو العائق الأساسي. تنوعت المواقف المحرجة والمُضحكة في آن، عدد المرات التي اضطررت فيها إلى أن أسكت، أن أمضي دون جواب، أن أُجاهد لأقول فقط عُشر ما أرغب في قوله… لا تُعد ولا تُحصى. ما يطمئنني تجاه ابنتي أنها لن تُعاني معاناتي نفسها، ستنمو هنا كشجرةٍ جميلة جذورها المتينة في مكان آخر وأغصانها تُزهر دوماً في سماء هذه المدينة.

في كلٍ مناسبةٍ عائليةٍ يتجمع فيها أطفال عائلتي الكبيرة، تشاهد ابنتي الصُور وتسألني: "متى سيصبح لدينا منزل في لبنان"؟، وفي كل مرةٍ أَهمّ بالقول: "قريباً"، أتذكر أهم قاعدة من قواعد التربية الحديثة: لا تَعد طفلك بما لا تستطيع فعله، أو بما لست متأكداً من قدرتك على فعله"... وهنا أتساءل: هل اللغة وحدها هي الحاجز الأساسي لكيلا أبوح بما في داخلي؟
أقرر بعدها أن أردّ بالجواب التقليدي الذي سمعته مراراً خلال طفولتي، ومع أنه لم يُقنعني يوماً فإنني أُعيد ترديده على مسامع ابنتي: "إن شاء الله يُصبح لدينا منزل في لبنان".
"منذ وطأت قدماي هذه المدينة، وأنا أحمل صفة 'زوجة فلان' و'أمّ فلانة'. أشعر أنه لم تُتَح لي الفرصة لأكون فقط 'أنا'!"
أرجع بذاكرتي إلى آخر مرة كنا فيها في لبنان: تقف ابنتي على حافة النهر، تتأمل هذه اللوحة الطبيعية الهادئة ولعلها تنظر إلى الضفة الأخرى متساءلةً عن الطريق لعبورها. أكاد أسمع حتى اللحظة أصوات العصافير وخرير المياه الهادئة وبالطبع -كما الحال لأكثر من سنة ونصف مضت- أصوات المسيّرات الإسرائيلية التي تعكّر السماء والمزاج على حدّ سواء.

أتابع نشرات الأخبار والنقاشات المحتدمة على وسائل التواصل الاجتماعي، أجد نفسي معنيةً بهذه النقطة الجغرافية تحديداً وأتساءل: متى تحولت ذكريات طفولتي إلى عناوين للأخبار؟ وكيف أصبح النهر الذي غسل أجسادنا صغاراً إلى مادةٍ للنقاش والاختلاف؟
يبدو المشهد اعتيادياً بالنسبة لنا. ولكنه حسب خرائط الأمم المتحدة -التي تدّعي أنها تعرف عن الجنوبيين أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم وقراهم- فإنّ هذه هي نقطة حساسة للغاية: آخر نقطة في جنوب نهر الليطاني.
أتمشّى رويداً وأنا اجتاز الحديقة، حيث الهواء النقي والهدوء التام صباحاً… لحظتي المفضلة هي عندما أمرّ من تحت شجرة التوت الكبيرة وكأنها باب يصلني بالجهة الأخرى من المكان… البيوت العابقة بالحياة والضجة… أتأمل ما تحتويه الشرفات المفتوحة على مصراعيها للعالم... وكأنها تبوح بالكثير عن ساكنيها: الغسيل النظيف الذي يداعبه الهواء وأشعة الشمس الساطعة، أدوات الزراعة المتسخة بالتراب، ألعاب الأطفال المتناثرة في الزوايا...

أُكمل طريقي بعد أن تناولت جرعتي الصباحية من التأمل، لأدخل في دوامة الروتين اليومي الذي إن تغيّر من يوم إلى آخر، إلا أنه يدور حتماً حول أمومتي وغربتي.
أنظر إلى الدرج الطويل وأحاول أن أقدّر عدد درجاته، فمنذ طفولتي وأنا مهتمة جداً بعدّ الدرجات التي أصعدها أو أنزلها، ومع ذاكرة السمكة قصيرة المدى التي أمتلكها، أتفاجأ دوماً بالرقم النهائي للدرجات.

تحاول ابنتي الصغيرة اجتياز بعض الدرجات، أقف خلفها وأدعها تجرّب: درجة… اثنتان… ثلاث درجات… تتعب وتقرر بعدها أن تُكمل صعوداً على ركبتيها… لا بأس يا صغيرتي، ما زال الطريق أمامك طويلاً وما زال عودك طرياً، رويداً رويداً وستصلين إلى الأعلى، خلطة متنوعة من التجارب والعوائق والنجاحات والفشل والخيبة والانتظار سوف تُصادفك في الطريق، ولكنكِ حتماً ستصلين إلى ما تريدين.
"أنظر إلى الأعلى وأتطلع بفضول إلى النوافذ والأبواب الموصدة… ما الذي تُخبّئه خلفها من حكايات وذكريات؟ هل ترحّب بك لتكون جزءاً منها أم ترفضك لتعود غريباً من حيث أتيت؟"
أنظر إلى الأعلى وأتطلع بفضول إلى النوافذ والأبواب المُغلقة، الموصدة في وجه المتطفّلين أمثالي… ما الذي تُخبّئه خلفها من حكايات وذكريات؟ أتُراها ترحّب بك لتكون جزءاً منها أو ترفضك لتعود غريباً من حيثُ أتيت؟
أخشى من احتمال ثالث: أن تبقى معلّقاً على عتبة الباب.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.