"أبناء الجبال" يرمون السلاح... هل أنهى حزب العمال الكردستاني حرب الأربعين سنةً؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية نحن والحرية

الجمعة 11 يوليو 202511 دقيقة للقراءة

من داخل كهف "جاسنة"، برمزيته القومية الكردية، في منطقة "سورداش" شمال غربي السليمانية، ووسط إجراءات أمنية مشددة، بدأت اليوم الجمعة 11 تموز/ يوليو 2025، مراسم رمزية لتسليم حزب العمال الكردستاني سلاحه، عملاً بالاتفاق التاريخي الذي أنهى النزاع بينه وبين الدولة التركية، وتلبيةً لنداء زعيمه أوجلان من سجنه. 

وبحسب الأخبار، قام نحو 30 مسلّحاً من مسلّحي الحزب بـ"إحراق أسلحتهم" في خطوة تمثّل بداية عهد جديد، لا يكون السلاح فيه أداة الحوار بين الأكراد والترك، بل التمثيل السياسي العلني، والقدرة على المشاركة الحزبية وتداول السلطة تحت مبدأ المواطنة والمساواة. 

الكهف هنا أيضاً جزء من الرمزية التاريخية التي ربطت "أبناء الجبال" كما يلقَّبون، بالكهوف التي لطالما حمتهم من الجيش التركي وطيرانه، خلال سنوات تمرّدهم الطويلة على الدولة، ومطالبتهم بحقوقهم. هذا الكهف تحديداً، له قصة متداولة، مفادها أنّ الزعيم الكردي محمود الحفيد البرزنجي، لجأ إليه في أثناء القصف البريطاني للسليمانية في عشرينيات القرن الماضي، ومعه مطبعته التي نُقلت على ظهور البغال، وهناك أصدر العدد الأول من صحيفة "صوت الحق"، بالكردية "بانگی حەق"، عام 1923. 

لكن التاريخ قادر دائماً على كتابة سطور مفاجئة في سردية الشعوب، وهذا ما حصل مع الأكراد، ربما نتيجة تغيّر سياسات الحلفاء، وربما نتيجة إدراك ذاتي لعدم جدوى السلاح بعد عقود من الاقتتال. فبين الضغوط الأمنية المتزايدة، والتحولات الإقليمية، شهدت القضية الكردية خلال عام 2025، نقطة تحوّل غير مسبوقة، بإعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه رسمياً، وتزامن ذلك مع اتفاق تاريخي آخر يقضي بدمج السلاح بين "قسد" والإدارة السورية الجديدة تحت قيادة أحمد الشرع. 

هدوء "المنتقم"… من إيمرالي إلى السليمانية 

في 9 تموز/ يوليو 2025، نُشر فيديو مصوّر للزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المعتقل لدى الحكومة التركية منذ عام 1999 في سجن جزيرة إيمرالي، دعا فيه إلى إنهاء العمل المسلّح وتحوّل الحزب إلى النشاط السياسي السلمي. الفيديو هو الثاني بعد الفيديو الذي حمل رسالة السلام ونُشر في 27 شباط/ فبراير من العام الحالي، عندما تلا نواب من حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، نداءً لأوجلان في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة في أنقرة.

النداء تضمّن دعوةً صريحةً لحلّ الحزب بالكامل، وطلب من البرلمان التركي تشكيل لجنة تشرف على عملية السلام ونزع السلاح، شارك فيها القيادي مصطفى كاراصو، وعدد من ممثلي المجتمع المدني، لتشكل نقطة تحوّل فعليةً في مسار الصراع المستمر منذ أكثر من 40 عاماً.

رمي سلاح حزب العمال الكردستاني وإحراقه في كهف "جاسنة" لم يكن مجرد مشهد رمزي، بل إعلان جريء بأن النضال الكردي يخلع بزّته العسكرية ليرتدي بدلة السياسة، لكن هل ستمنحهم تركيا صوتاً حقيقياً داخل البرلمان، أم أن لعبة الدمج ليست سوى كمين ناعم لإنهاء المشروع من الداخل؟

سبقت مراسم تسليم السلاح تهيئة أمنية وسياسية واسعة، منها زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، إلى أربيل وبغداد، في الأيام السابقة، وهدفت إلى تأمين الترتيبات اللوجستية وضمان التنسيق بين تركيا وحكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية، في إطار مبادرة "تركيا خالية من الإرهاب". كما سبقتها بخطوات عملية ضخمة من قبل الحزب، الذي أعلن في 12 أيار/ مايو 2025، حلّ نفسه رسمياً، بعد عقد مؤتمر داخلي في الشهر نفسه، لم يُعلن عن مكانه لأسباب أمنية. 

في الفترة ذاتها، وتحديداً في 10 آذار/ مارس 2025، وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع اتفاقاً مع قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، يقضي بدمج الأخيرة في هيكلية الجيش السوري، كجزء من اتفاق أوسع لإعادة بناء مؤسسات الدولة بعد سقوط نظام بشار الأسد في أواخر 2024.

وبرغم تصريح عبدي السابق لإعلان الدمج، بأنّ قرار "قسد" غير ملحق بقرار حزب العمال الكردستاني، حيث قال "إنّ الإعلان يتعلق بحزب العمال الكردستاني فقط، ولا علاقة له بنا"، إلا أن التطور الكردي السوري تزامن مع التطور التركي، ما عدّه مراقبون تنسيقاً غير مباشر يهدف إلى إعادة تموضع كامل للمشروع الكردي المسلح ضمن أطر قانونية تحت سلطة الدول المركزية. 

في الوقت عينه، لا يمكن تجاهل السطوة الرمزية لأوجلان على كل الأكراد، كبطل قومي لهم، حتى إن كان قراره لا يشمل إلا حزب العمال الكردستاني، وهو ما تحرّك الحزب وفقه، لذا، فمن المنطقي ألا يشير البيان الختامي لمؤتمر حزب العمال إلى سوريا أو العراق، وجاء فيه: "اكتملت العملية التي بدأت ببيان القائد عبد الله أوجلان في 27 شباط/ فبراير، بنجاح في مؤتمر حزبنا الثاني عشر الذي انعقد في الفترة ما بين 5 و7 أيار/ مايو، وذلك في ضوء العمل المتعدد الأوجه الذي قام به والرؤى التي طرحها بأساليب مختلفة". 

لكن ارتياح القيادات الكردية السورية، وعلى رأسها مظلوم عبدي، أظهر أنّ الخطوة ستخدم مستقبل الأكراد السوريين، ولا سيّما في ظلّ الانسحاب المبرمج للقوات الأمريكية. 

انسحاب الحليف الأمريكي وإعطاء "فرصة" للشّرع 

منذ العام الماضي، أي مع سقوط النظام، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية بتخفيض تمويلها لـ"قسد"، وأظهرت وثيقة صادرة عن البنتاغون، أنّ حجم الدعم الأمريكي لهذه الفصائل في سوريا يتراجع تدريجياً، إذ بلغ 156 مليون دولار في موازنة 2024، ثم انخفض إلى 147 مليون دولار في 2025، لينخفض مجدداً إلى 130 مليون دولار في مشروع موازنة 2026.

وبالتوازي مع تخفيض الميزانية، انسحب أكثر من 500 جندي أمريكي من سوريا، وأُغلقت قاعدتان في دير الزور، وسُلّمت ثالثة إلى "قسد". وبهذا لم يتبقَّ إلا 1،500 جندي في سوريا، ضمن إستراتيجية تعتمد على دعم شركاء محليين لا على الانخراط المباشر. 

دعوة أوجلان لإنهاء العمل المسلح لإنقاذ ما تبقى من شعبه، من عمق زنزانته في إيمرالي، تعيد تعريف الزعامة الكردية في زمن تغيّر التحالفات. فهل تكون خطوة السلام أعظم قراراته؟

لذا، يمكن القول بأنّ الانسحاب حدَّ من "مظلّة الحماية" الأمريكية، بينما قلّصت الموازنة أموال التسليح والرواتب، ما دفع "قسد" إلى تسريع التفاوض على الدمج وتسليم السلاح بشروط أقلّ حدّةً، ويأتي هذا مع إعادة تعريف واشنطن لأولوياتها في سوريا والشرق الأوسط، وتصريحات ترامب المباشرة بعدم اهتمامه بالحدث السوري الداخلي، وتقديمه رفع العقوبات للشرع كهدية للسعودية، حليفه العربي الأقوى. 

إلا أن نجاح هذا المسار سيعتمد على قدرة الحكومة السورية الجديدة على توفير ضمانات أمنية للمجتمع الكردي، ودون ذلك قد يتحول القرار إلى عامل زعزعة إضافي بدلاً من أن يكون خطوةً نحو تسوية دائمة. ويمكن قول الأمر نفسه عن تركيا، فنجاح أيّ مسعى حقيقي للسلام، سيعتمد بشكل كبير على توفير البيئة التشريعية والسياسية للأكراد ليكونوا مكوّناً سياسياً حقيقياً، دون انتقامات مبطنة، أو عرقلات في سبيل تحقيقهم كينونتهم السياسية. لذا فالقادم أحد سيناريوهين: إما أن ينجح دمج الأكراد سورياً وتركياً، أو أن تكرَّس مظلوميتهم التاريخية بعد رميهم سلاحهم وإثباتهم حسن النية. 

هل يستمرّ السلام الكردي في حال عودة الديمقراطيين؟ 

أما السيناريو الثالث، فيتمثل ببساطة في استعادة الدعم الأمريكي الكبير، مع عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض بعد انتهاء حكم الرئيس دونالد ترامب، إذ لطالما كانت توجهات الديمقراطيين تعتمد على توازن دقيق بين دعم الأكراد وضبط العلاقة مع تركيا، ومع رجوعهم قد تظهر اختلافات جذرية وحاسمة. 

وفي مقارنة تاريخية سريعة بين سياسات الديمقراطيين والجمهوريين تجاه الأكراد، نجد أنّ الإدارات الديمقراطية، بقيادة أوباما ومن ثم بايدن، عاملت الأكراد السوريين كشريك محوري في مكافحة داعش، عبر دعم عسكري مستمر ولوجستي قوي لقوات سورية الديمقراطية، إلى جانب مستشارين من القوات الخاصة على الأرض. 

وفي عهد بايدن تحديداً، وُضع إطار دعم ذو طبيعة مزدوجة -عسكرية وإنسانية- مع محاولة حماية الأكراد من التوغلات التركية، وتعزيز الإدارة المحلية ضمن نظام لامركزي سوري يهتم بحقوق الأقليات، ويسعى إلى تثبيت شراكة طويلة الأمد تستند إلى مصلحة إستراتيجية وليس إلى مجرد تعاون مؤقت.

في مقابل السلام الذي سطره حزب العمال الكردستاني مع تركيا، هل كان قبول "قسد" في سوريا لخيار الاندماج مع الحكومة السورية الجديدة مجرد انحناءة أمام عاصفة خذلان دولي؟ ولا سيما مع سحب الولايات المتحدة التدريجي لدعمها لهم، وتقليص التمويل، وإغلاق القواعد، وتقليل الجنود؟

في المقابل، امتازت سياسة ترامب بتقلبات حادّة، فقررت الانسحاب الفوري من شمال سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ما مكّن تركيا من شنّ هجوم على مناطق الأكراد وهدد مكاسبهم الأمنية. هذه الخطوة عُدّت خيانةً من قبل الأكراد والثنائي الحزبي داخل الولايات المتحدة، وأظهرت أنّ دعم الأكراد في عهد ترامب كان انتقائياً ومبنيّاً على رغبة في إرضاء أنقرة أكثر من دعم إستراتيجي مستمر. وأدّت تلك السياسة إلى زيادة الفوضى الإقليمية ومخاطر عودة داعش، ما دفع بعض المشرّعين والمحليين للتحذير من مخاطر الانسحاب المفاجئ.

فإذا عاد الديمقراطيون إلى الحكم، من المتوقع استعادة دعم عسكري ولو محدود للأكراد في شمال شرق سوريا، على الأقل ضمن سياق مكافحة الإرهاب. 

انعكاس هذا الانقسام في السياسات الأمريكية لم ينطبق على الأكراد داخل تركيا، فالرؤساء الديمقراطيون لم يدعموا استقلال الأكراد الأتراك، وإنما حاولوا الضغط دبلوماسياً ومؤسساتياً لمنع الإجراءات القمعية -مثل الاعتقالات بحق ناشطين أو زعماء سياسيين كرد- ضمن حدود التحالف الأطلسي.

أما عهد ترامب، فقد شهد صمتاً نسبياً إزاء القمع التركي للأكراد أو تسييس الأمور التركية الساخنة، تفضيلاً لتوطيد العلاقة الإستراتيجية وتحقيق أهداف فورية بدلاً من التعامل مع القضايا الكردية، وهو ما عزز مزاجاً من المرونة السياسية لصالح أنقرة مع مكاسب عسكرية أو اقتصادية آنية.

يمكن بسهولة العثور على النمطين: الديمقراطي والجمهوري، فالديمقراطيون يميلون إلى إستراتيجية علاقات طويلة الأمد تعتمد على دعم مشروط لمكافحة الإرهاب وضبط دبلوماسي دقيق تجاه تركيا، بينما يميل الجمهوريون إلى المراهنة على الدولة التركية كشريك قوي، ما يقود إلى معاناة فئات كردية داخلياً وتقلّبها.

مستقبل بلا سلاح

التحوّلات الجارية تؤشر على نهاية مرحلة تاريخية بدأها حزب العمال الكردستاني منذ تأسيسه عام 1978، حين رفع شعار الكفاح المسلح من أجل دولة كردية مستقلّة. لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجع زخم هذا المشروع، نتيجةً لتغيّر موازين القوى.

فقي تركيا، سوف يشكّل تفكيك الحزب فرصةً إستراتيجيةً لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لإعادة صياغة العلاقة مع المكوّن الكردي، كما أنها ستزيد من شعبيته، وتجلب لحزبه مزيداً من الأصوات في الانتخابات القادمة، لذا من غير المستغرب أن ينظر أردوغان إلى الأمر كإنجاز تاريخي له، ويصرّح بأنّ "تركيا لن تسمح بأي محاولة لتخريب عملية تخلّي حزب العمال الكردستاني المحظور عن سلاحه". 

وكما يحقق أردوغان مكسباً سياسياً ضخماً من اتفاقه، كذلك يفعل الشرع، فاختبار دمج الأكراد قد يكون الأكبر أمام إدارته، وفي الوقت نفسه سيخفف من ثقل اضطهاد الأقليات الذي تُتّهم به حكومته مع الدروز والعلويين والمسيحيين. في المقابل، بات الأكراد يعرفون أنهم أمام واقع جديد، لا مكان فيه للمشاريع الانفصالية، وإنما أمامهم خيار الاندماج الكامل في دولة مركزية يقودها، وسط دعم أمريكي متحفّظ تجاههم، وهذا التحول يفتح الباب لمرحلة جديدة تُبنى على المشاركة السياسية، والانخراط في مؤسسات الدولة، والابتعاد عن الخيار العسكري الذي لم ينجح حتى الآن في بناء كيان كردي مستدام، لا في تركيا ولا في سوريا.  

لكن النظرية تصطدم دائماً بوحش التطبيق، فمن يضمن التزام الدولة السورية الجديدة والدولة التركية بوعودهما حين يفقد الغريم سلاحه؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الأكراد لم يكونوا خصماً للأنظمة فحسب، فقد ظلّوا طوال سنوات العدوّ اللدود لداعش، وبرغم السيناريو الوردي الذي تروّجه وعود الاندماج وتداول السلطة في العمل السياسي، إلا أنّ هناك دراسات سياسيةً استشرافيةً تحذّر من خطر عودة داعش في غياب كابوسها الأكبر، الأكراد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image