في الزقاق الضيّق المحاط بأنقاض البيوت في مخيم الشاطئ غربي غزة، كانت مروة تقف في ما تبقّى لها من مطبخ داخل شقّتها السكينة ذات الجدران المتصدعة من القصف، لتحضّر وجبة عدس وتقلّبها في قدر على نار خفيفة. كانت على وشك إضافة الملح أخيراً قبيل استواء الأكلة، لكن النهاية سبقتها؛ انفجار في المنطقة مزّق المشهد.
ركضت مروة مع أمّها وإخوتها نحو الخارج، لا تحمل في يدها شيئاً، ولا تحفظ من صوت القصف سوى رنين في أذنها، وصوت ضابط الجيش الإسرائيلي الذي هدّد شقيقها عبر مكالمة هاتفية بقصف ما تبقّى من منازل جيرانهم في ذلك اليوم، ما اضطرهم إلى النزوح إلى منزل أحد أقاربهم.
نصب تذكاري للجوع
"بعد ثلاثة أيام من نزوحنا، عدت إلى المنزل مع عائلتي، فوجدت ما تبقّى من البيت. لم يكن هناك إلا القليل مما يمكن تسميته منزلاً، لكن المفارقة أنّ القدر ظلّ في مكانه، مغطّى بطبقة من الرماد والغبار، والعدس بدا ككتلة صلبة، صامدة مثلي"، تقول مروة سلامة (30 عاماً)، في حديثها إلى رصيف22.
"هذا ليس عدساً... هذا نصب تذكاري للجوع"... بهذه الكلمات خرجت النكتة الغريبة من فم مروة، حين عادت إلى ما تبقى من منزلها المدمر ووجدت طنجرة العدس على حالها وسط الخراب، بينما محتوياتها متحجرة وأقرب إلى صخرة في طنجرة منها إلى طعام... ليأتي الضحك طويلاً ومباغتاً بعدها
"نظرت إليه، تنهّدت وقلت لأمي بضحكة ربما سمع صوتها الجيران: هذا ليس عدساً... هذا نصب تذكاري للجوع، وصرنا نضحك جميعنا"؛ بهذه الجملة الساخرة الموجعة، لخّصت مروة التي تعمل مدرسة لغة عربية في إحدى مدارس غزّة الحكومية، ما يفعله الغزّي حين يحاصره الموت، فيصنع من وجبته المتحجّرة رمزاً، ومن وجعه نكتةً، ومن النكتة حياةً مؤجّلة.
بدت ردة فعل مروة كفتاة تعيش في غزة، أقرب إلى الكوميديا السوداء، لكنها لم تخرج من صفحات الكتب أو المسارح، بل من المنازل المدمّرة ومن المطابخ الفارغة من الأكل، ومن الأمعاء الخاوية وألسنة الجوعى، ومن بين الأنقاض والقتل والدمار كوسيلة لـ"تهريب" الوجع.
تكمل مروة حديثها: "نحن الغزّيين لا يمكننا التنبؤ بما إذا كنا سنعيش اللحظة التالية، ومع ذلك يمكننا أن نوّلد النكتة والسخرية من الألم كما يُولد الطفل في غرفة لا تتوافر فيها إلا نصف حضّانة".
وتشير إلى أنّ الكوميديا السوداء هي ربما قارب نجاة من جحيم الحرب، وتستذكر أنها قرأت ملاحظةً كتبها أحد طلّابها على "ستوري" حساب "واتساب" الخاص به، تعليقاً على قصف إسرائيلي استهدف منطقة سكنه، ما جعلها تدخل في نوبة ضحك وقلق عليه في الوقت نفسه، حين قال: "أهلاً وسهلاً بالقصف... بس خفّف شوي لأنه عندي اختبار".
ولم تكن الكوميديا السوداء يوماً فنّاً طارئا في غزّة، إذ تمتد جذورها إلى الانتفاضة الأولى (1986)، حين كانت العبارات الساخرة تُدوَّن على الجدران وتُردّد في جلسات الشباب، ثم تطوّرت في سنوات الحصار (منذ 2007)، إلى أشكال إبداعية مثل التمثيليات القصيرة على يوتيوب، كـ"ستاند أب كوميدي".
وخلال الحرب على غزّة، طالت هذه "الكوميديا" فئات المجتمع كلها، سواء في الشوارع أو مخيمات النزوح أو مراكز الإيواء، حتى اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، سواء من خلال منشورات نصّية أو مقاطع فيديو، وبرز سيل الناشطين ممن يعبّرون عن واقعهم المرير بأسلوب ساخر.
المفارقة أنّ هذا اللون من الكوميديا ينمو مع اشتداد المعاناة؛ كلما ازدادت الغارات واشتد القصف والأزمات ازدهرت المنشورات الساخرة، وكأنها نوع من "المقاومة الناعمة"، كما يصفها الشاب الغزّي أحمد عابد (26 عاماً)، والملقب بـ"لوكا"، والذي يقدّم محتوى ساخراً عبر صفحته على إنستغرام التي تُحقق آلاف المشاهدات يومياً.
يقول عابد في حديثه إلى رصيف22: "أنا لا أمزح عندما أقدّم أيّ محتوى، لكني قررت تحويل الوجع إلى ضحك، لأنني لو تحدثت عن الحقيقة كما هي الجميع سيبكي، ولن يضحك، ولكن هدفي أن أدعم الناس، تحديداً في غزة، وليس هدفي إثارة الضحك فحسب وإنما أن أعلن أنني ما زلت هنا".
نكتة ساخرة في واقع مرير
يضيف أحمد (لوكا)، الذي كان يعمل قبل الحرب عامل بناء واضطر إلى التوقّف عن العمل والتوجه نحو إنشاء محتوى بقالب كوميدي عبر منصات التواصل الاجتماعي: "لا أعتقد أنّ الكوميديا السوداء مهرب من الواقع، لأنّ الواقع يحاصرنا، بل هي بمثابة نظّارة حادّة للرؤية بشكل أكثر وضوحاً، إنها مرآة مكسورة تعكسنا، بكل تناقضاتنا، ونحن نُضحك أنفسنا كي لا تنكسر وسط الإبادة وواقعنا المرير".
ويتناول لوكا، العديد من القضايا في كوميدياه، أبرزها النزوح، والقصف، والدمار، والتجويع الذي يعيشه أهالي القطاع، وإغلاق المعابر، والنقد اللاذع لبعض القضايا المجتمعية، لكن بأسلوبه الساخر الخفيف على القلب.
الكوميديا السوداء تنمو مع اشتداد المعاناة؛ كلما ازدادت الغارات واشتد القصف والأزمات ازدهرت المنشورات الساخرة، وكأنها نوع من "المقاومة الناعمة".
مؤخراً، ومع انتشار أخبار الهدنة والمفاوضات التي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي، تناولها ساخراً بأسلوب لاذع. ففي وقت كان يترقب فيه الغزّيون تواصل الفريق الفلسطيني المفاوض لحلّ يوقف نزيف الدم ويفضي إلى وقف إطلاق نار، كان لأخبار التهدئة نصيب كبير من محتواه الكوميدي الأسود.
وقبل الحرب، كان الكاتب أكرم الصوراني، قد عُرف بالكوميديا السوداء في كتاباته: "وأمانة يا دنيا أمانة... تاخدينا للهدنة أمانة... وتخلّي الحرب بعيد عنّا… وتقولي للقصف استنى…!"، ليجد سيلاً من التعليقات الساخرة أيضاً.
لم يختَر الصوراني أن يكون ساخراً، كما يقول لرصيف22، بل "السخرية هي التي اختارته"، مضيفاً: "أنا من عشّاق الكوميديا البيضاء أصلاً، ولم أتّخذ يوماً قراراً واعياً بكتابة السوداء، بل رحت أكتب فحسب، وكان هناك من يقول إنّ هذه الكتابة ساخرة".
نشر أول مقالاته قبل 16 عاماً، تحت عنوان "غزّة على موعد مع التخلف"، ومنذ ذلك الحين، كما يعلّق بسخرية، "لم أتوقف، لا أنا ولا التخلف!". ويرى الصوراني، أنّ السخرية ليست أسلوباً بقدر ما هي غريزة بقاء، تولَد من وجع الواقع ومأساته، ومن الخيمة والمقبرة، ومن هاشتاغ أطلقه قبل الحرب بسنوات بعنوان #خيمة – تخيّبنا، تعليقاً على الأزمات الفلسطينية.
بالنسبة له، إمّا أن تكون الحرب محفّزاً للكتابة أو سبباً للعزوف عنها، إذ يكمل في حديثه إلى رصيف22: "ما يحدث في غزة لا يصدّقه عقل ولا تحتمله طاقة بشر، ومع ذلك نؤمن بأنّ السخرية التي بلا ضوابط، بلا قواعد، وبلا حدود... هي من الناس وإلى الناس".
ومع أنه يعرف أنّ "السخرية قد تُساء قراءتها في زمن المجازر"، إلا أنّ هناك من يعترض ويقول: "مش وقتها"، لكنه يراها مقاومةً بأدوات مختلفة، مقاومة "تشلّح الواقع وتفضحه"، إذ يرى أنّ "الحياة في عمومها مزحة سمجة، والأسخف أن نأخذها على محمل الجدّ".
هل تفرّغ السخرية المأساة؟
لكن هل يفرّغ الإفراط في السخرية القضايا من جديّتها، أو أنّ هذا الفنّ ضرورة إنسانية للحفاظ على ما تبقّى من التوازن النفسي بل حقّ لمن يعيشون الإبادة والكارثة؟
في هذا السياق، يقول الأخصائي النفسي والباحث في الصدمات الجماعية أحمد نصار: "في سياقات الحروب طويلة الأمد مثل الحرب على غزة، تصبح الكوميديا السوداء إحدى آليات التكيّف النفسي الدفاعية، وهي لا تدلّ بالضرورة على أنّ الشخص في حالة جيدة، بل على العكس: أحياناً تكون مؤشراً على إنكار الألم أو محاولة للالتفاف عليه بدلاً من مواجهته مباشرةً".
حين كتب أكرم الصوراني على صفحته "وأمانة يا دنيا أمانة... تاخدينا للهدنة أمانة... وتخلّي الحرب بعيد عنّا… وتقولي للقصف استنى…!" انهالت التعليقات الضاحكة الساخرة من الواقع على المنشور، وحتى لو اعتقد البعض أن الضحك "مش وقته"، لكن من حق الغزّي فقط أن يضحك على واقعه إذا أراد
ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أنّ الناس في غزة لا يملكون ترف العلاج النفسي الفردي أو الراحة، لذا يلجأون إلى وسيلة التعبير الجماعية الوحيدة المتاحة: النكتة، "وهذا الضحك ليس خفيفاً، بل ثقيل جداً على الذاكرة، لكنه يُعيد للناس إحساس السيطرة".
ويضيف: "عندما يسخر الغزّيون من المجاعة أو من تكرار فقدان الأحبّة، أو انتظار الهدنة وانتهاء الحرب، فهم لا يقلّلون من حجم المعاناة، بل يعيدون صياغتها بلغتهم، حتى لا تلتهمهم. فالنكتة هنا ليست للضحك، بل للسيطرة على واقع يتجاوز طاقتهم النفسية، وتسمح بقدر من الشعور بالقوة في قلب العجز".
ويحذّر نصار، من أنّ هذا النمط وإن كان مفيداً كوسيلة مؤقتة للصمود، "قد يتحوّل إلى قشرة تغطي على جراح نفسية عميقة، لا تجد طريقاً إلى التفريغ العاطفي أو الدعم العلاجي، ما قد يؤدي لاحقاً إلى أعراض ما بعد الصدمة، الانفصال عن الذات، أو حتى الانهيارات النفسية المؤجلة".
ويختم بالقول: "ضحك الغزّيين تحت القصف لا يعني أنهم بخير، إنه ضحك البقاء على قيد الحياة، لا ضحك الراحة، ولذلك من المهم أن يُنظر إلى هذه الكوميديا كنداء خفيّ لطلب النجاة، لا كدليل على التكيّف السليم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.