هل يمكن أن يُقيم الإنسان صداقةً مع مكان؟ أن يتواطأ معه على الحياة كما يتواطأ مع امرأة على الخيانة؟ هذا ما جرى لي مع "كافيه الباقة"، المكان الذي لم يكن مقهى، بل كان ملجأً ضد الابتذال، ضد الضجيج البليد لغزّة، وضد العيش كجثة تتحرك بين الأخبار المسمومة ويأس الواقع.
هناك، كنت أجلس بين جدران ضعيفة من الخشب العتيق، أمدّ بصري نحو البحر، وأحاول أن أقنع نفسي بأنني لست ضحيةً لحياة لم أختَرها.
في "الباقة"، كانت الحياة، ولو للحظة، تعيد تشكيل نفسها من جديد، كأنّ الزمن يتعطّل، وتبدأ لحظة من نوع آخر: لحظة لا تحتاج إلى أن تُفسّر، بل تعاش بكل ببساطة.
أغاني التراث وقت العصر، ثم أمّ كلثوم تسحبنا نحو ذاكرة تصلح لجيل السبعينيات من القرن الماضي. لم تكن الموسيقى في الخلفية، بل في القلب. كل أغنية في مقهى "الباقة" كانت سيرةً، وكل نغمة كانت جسراً صغيراً فوق هوّة الحياة في غزة.
نغمة المكان
أغطية الطاولات في "الباقة" كانت لها رائحة ماضٍ لا أعرفه، لكنني أحنّ إليه. لون الخشب ليس بنّياً فقط؛ إنه بنّي يمرّ عبره صوت عبد الحليم وهو يناديك إلى الحب، إلى الحياة. صوت الموسيقى هناك لا يملأ المكان فقط، بل يصبُّ في داخلك مثل حليب دافئ، يعيدك إلى زمن كانت فيه الضحكة لا تزال ممكنةً، والموت شيئاً لا يخطر في البال.
أغاني التراث وقت العصر، ثم أمّ كلثوم تسحبنا نحو ذاكرة تصلح لجيل السبعينيات من القرن الماضي. لم تكن الموسيقى في الخلفية، بل في القلب. كل أغنية في "الباقة" كانت سيرةً، وكل نغمة كانت جسراً صغيراً فوق هوّة الحياة في غزة.
فن القطيعة المؤقتة
ما هو المقهى في مكان يستنسخ الموت والأزمات؟ إنه التمرّد الصغير على الواقع، الكذبة التي تقنعنا بأننا لا نزال قادرين على الحلم، وحيث نمضي بشغف خافت.
في "الباقة" كنا نعيش القطيعة المؤقتة مع الكارثة. نضحك، نعم. نحتفل بأعياد ميلاد لا نعرف فيها عمر أحد. نغنّي: "هابي بيرثداي"، وتامر حسني يخبرنا بأنّ كل شيء سيكون بخير، ونحن نكذب معه، ونصدّق الكذبة لأنها أكثر تقبّلاً من الحقيقة.
"الباقة" كانت المكان الذي تقام فيه الأعياد اليومية لجماعة من المنفيين المقموعين داخل مدينتهم. كنا نؤلّف عائلةً لا يجمعها الدم، بل الحنين والوجع. نبتسم للغريب لأنه يشبهنا في هشاشته، ونتقاسم لعب الورق كأننا نتقاسم الحياة بالتساوي، بلا طمع.
في "الباقة" كنا نعيش القطيعة المؤقتة مع الكارثة. نضحك، نعم. نحتفل بأعياد ميلاد لا نعرف فيها عمر أحد. نغنّي: "هابي بيرثداي"، وتامر حسني يخبرنا بأنّ كل شيء سيكون بخير، ونحن نكذب معه، ونصدّق الكذبة لأنها أكثر تقبّلاً من الحقيقة.
الوجوه التي صنعت المكان
عاطف "الباقة" لم يكن موظفاً. كان جزءاً من جغرافيا المكان. قتلته إسرائيل لأنه كان يضحك في وجه الجميع. ضحكته كانت نظام تشغيل المقهى. طيبته لم تكن صفةً، بل فعل حياة. حين قُصف بصاروخ F‑16، بدا لي أنّ أحد أعمدة الباقة قد انهار. مات، لكن ابتسامته، كما الموسيقى، تعيش في اللاوعي الجماعي لكل من جلس هناك.
وآمنة السالمي، التي ظلّت صديقةً للجميع، أعرفها منذ تسعة عشر عاماً. لم تكن رسّامةً فقط. كانت الضوء الخافت في زاوية المكان، ومشوار الفن الذي يبقى على الطاولة نفسها.
بقيت لوحاتها شاهدةً على أنّ الفن قد يكون آخر ما يموت في الإنسان. الآن، غابت، لكن روحها لا تزال تهمس بين الجدران.
إسماعيل، حمص، هادي… أسماء تتحول الآن إلى نُسخ من وجوه في ذاكرة مدينة تتآكل. أشخاص كانوا يشبهوننا أكثر مما نشبه أنفسنا.
"الباقة" لم تكن مجرد محلّ لتقديم القهوة. كانت نموذجاً مقلوباً لغزة التي لا تظهر في الأخبار. غزة التي تعيش، تضحك، تحب، وتحاول أن تكون عاديةً وسط جنون غير عادي.
الفكرة التي اسمها "الباقة"
"الباقة" لم تكن مجرد محلّ لتقديم القهوة. كانت نموذجاً مقلوباً لغزة التي لا تظهر في الأخبار. غزة التي تعيش، تضحك، تحب، وتحاول أن تكون عاديةً وسط جنون غير عادي.
كأنها كانت المكان الذي يقول: نحن هنا، وليذهب العالم إلى دماره.
أن ترى أحدهم يقرأ كتاباً، آخر يرسم، فتاةً تضحك، وشابّاً ينظر في البحر كأنه يكتب رسالة حب لا تُرسل أبداً، هذا فعل يشبه فورة الخبز على النار، إنه المسار الذي لا يحميك من التهلكة.
كنا نأتي إلى "الباقة" بأقدام، ونعود بأجنحة. "الباقة" أعطتنا صوتنا الخفيف، وعلّمتنا كيف نرجع إلى مكان ما بالشغف نفسه والفضول ذاته، شغف أن نكون بشراً في مدينة تنكر علينا هذه الهوية.
ما يفعله الزمن في الذاكرة
المشكلة الآن أنّ الذاكرة لا تقبل الحذف. تمتلئ كقرص صلب عتيق، يحتفظ بصور لا يريدها أحد، لكنه لا يجرؤ على حذفها. صور شهداء، ضحكات مبتورة، طاولات خاوية، وأبواب مغلقة تحت الركام.
لكن هناك شيئاً لا يزال ينبض. رائحة البحر، صوت الورق يُخلط، نظرة عاطف، صمت إسماعيل، نكتة حمص، وخط ريشة آمنة، كلها أجزاء من برنامج لا يتوقف عن إعادة تشغيل نفسه.
في مكانٍ ما داخل عقلي، لا تزال "الباقة" تعمل. طاولة ما تنتظرني، فنجان قهوة يبرد ببطء، أغنية قديمة تقول إنّ الزمن كان أكثر رحمةً، وأنا أراقب البحر الذي كان مرآتي.
كل ما يُكتب الآن ليس رثاءً، بل محاولة لحفظ الضوء. فالمكان الذي يترك أثراً فيك، يستحقّ أن تحمله كوشمٍ، لا كندبة.
ضد النسيان
كل ما يُكتب الآن ليس رثاءً، بل محاولة لحفظ الضوء. فالمكان الذي يترك أثراً فيك، يستحقّ أن تحمله كوشمٍ، لا كندبة. "الباقة" كانت فكرةً أكثر منها مكاناً. فكرة أنّ بإمكان الإنسان أن يخلق ركناً صغيراً لذاته، للضحك، وللأمل، وسط يأس وحروب تلتهم المدينة.
من جلس هناك، صار جزءاً من ذاكرة جماعية، ومن لم يجلس، خسر فرصة أن يختبر الحياة وهي تتنكر في شكل قهوة وكوب ماء وكلمة عابرة من نادل يعرف اسمك قبل أن تنطقه.
لا خاتمة… بل استمرارية
"كافيه الباقة" لم ينتهِ. القصف لا يُنهي الأفكار. إنه فقط يحرّض الذاكرة على الصراخ. الآن، أصبحنا نحمل "الباقة" في جيوبنا، كقصاصة ورق من حياة لم تعد موجودة. لكن الخشب لا يزال هناك، في داخلنا، يحتفظ بحرارة أجسادنا، بصماتنا، وهزائمنا الصغيرة.
وإذا كانت الذاكرة لا تصلح للفورمات، فربما هذا حسن، لأنّ ما عشناه هناك، يستحق أن يُعاد، ولو في الأحلام، أو في الكتابة، أو في خيال يصرّ على أن يقول: في غزة، برغم كل شيء، عشنا قليلاً.
لكن الاحتلال، كعادته، لا يطيق أن يرى حياةً تتشكّل خارج منطق الموت. لا يحتمل ضحكةً واحدةً تنفلت من فم فلسطيني، وكأنها خيانة للنظام الكوني الذي فرضه عليهم. لذلك قصف "كافيه الباقة" بصاروخ F‑16. نعم، صاروخ حربي مخصص لتدمير قواعد عسكرية، استُخدم لنسف مقهى.
ضحكة يتم التعامل معها كأنها خيانة
لكن الاحتلال، كعادته، لا يطيق أن يرى حياةً تتشكّل خارج منطق الموت. لا يحتمل ضحكةً واحدةً تنفلت من فم فلسطيني، وكأنها خيانة للنظام الكوني الذي فرضه عليهم. لذلك قصف "كافيه الباقة" بصاروخ F‑16. نعم، صاروخ حربي مخصص لتدمير قواعد عسكرية، استُخدم لنسف مقهى.
لم تكن في "مقهى الباقة" قاعدة لإطلاق الصواريخ، بل قاعدة لإطلاق الفن والحياة. لم تكن فيه خليّة مسلّحة، بل خلية دفء بشري. كل ما كان فيه، مجرد فلسطينيين يحاولون إعادة تعريف أنفسهم ككائنات تحب وتضحك وتنسى الحرب للحظة. وهذا بالتحديد، ما لا يُغتفر؛ أن تحب، أن تضحك، وأن تنسى.
فعل القصف هنا ليس عسكرياً، بل وجودي. هو إعلان كراهية صريح ضد الحياة. ضد من يكتب، من يغني، من يرسم، ومن يرفض أن يُختزل في صورة المقاتل أو الضحية. قصفوا "الباقة" لأنّ الفلسطيني الذي يشرب قهوته عند البحر، وهو يستمع إلى عبد الحليم، أخطر من الفلسطيني الذي يحمل البندقية. الأول يُزعجهم لأنه يُعيد للعالم صورته المعقّدة، العميقة، الحقيقية… لأنه إنسان.
فعل القصف هنا ليس عسكرياً، بل وجودي. هو إعلان كراهية صريح ضد الحياة. ضد من يكتب، من يغني، من يرسم، ومن يرفض أن يُختزل في صورة المقاتل أو الضحية.
ما فعله الصاروخ ليس فقط تدميراً لجدران خشبية، أو وجوه على الحائط. ما فعله كان محاولةً لنسف الفكرة ذاتها: فكرة أنّ الفلسطيني يستحق أن تكون له خلوة، وركن يهرب إليه من أخبار المجازر، من الطائرات، ومن الجثث. أرادوا محو تلك اللحظة الحميمة بين الإنسان وذاته، بينه وبين أغنيته، قهوته، وورقته في لعبة الشدة.
وهكذا صار المكان الذي هربنا إليه من الحرب، ساحة حرب. صار الاختباء من الموت سبباً إضافياً للموت. وكأنّ الاحتلال يلاحقك لا حين تقاومه، بل حين تحاول نسيانه.
هذه ليست مجرد جريمة. هذا اغتيال مقصود لفكرة أنّ المثقف، الفنان، العاشق، والفلسطيني، يحقّ لهم أن يعيشوا. في عين الاحتلال نحن لا نستحق ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.