إنها نصيب الشرق الأوروبي من سحر"عاصمة الجن والملائكة"؛ أرض الفيلسوف العدمي إميل سيوران، ولاعبة الجمباز الإعجازية ناديا كومانتشي، والمسرحي العبقري يوجين يونسكو. ملاذ دراكولا وبلد الديكتاتور الشهير تشاوشيسكو.
هي رومانيا التي نعرفها أو سمعنا بها، لكن من يجرؤ على ملامسة روحها واكتشاف جوهرها وإرثها العميق؟ من هذا المنطلق اخترت زيارتها، رغم أنها ليست وجهة سياحية شهيرة أو فاتنة لعشاق الاستكشاف والمغامرة.
وصلتُ إلى العاصمة بوخارست. وصفُ المدينة لا يُختزل بسهولة: من ضخامـة المبنى الإداري الذي شيّده تشاوشيسكو، إلى الحياة الليلية الصاخبة في المدينة القديمة. بين بقايا الإرث السوفياتي وسحر "جادة النصر" التي تفيض بثقافة ومعمار أخّاذ، تعيش المدينة على وقع التناقضات. الإعجاب بالثقافة والمطبخ المحلي يصطدم أحياناً بالقبح العمراني والممارسات الاستغلالية تجاه السياح.
الإرث الثقافي: جنون الديكتاتور وموسيقى إنيسكو
ما الذي يدفع بلداً مثل رومانيا لبناء أضخم وأثقل مبنى إداري في العالم؟ إنه جنون تشاوشيسكو، ببساطة. المساحة تتجاوز 365,000 متر مربع ومليون طن من الرخام. واليوم، تحول هذا "الاستعراض المعماري" إلى مبنى البرلمان، ورمز للديمقراطية الناشئة.
إنها نصيب الشرق الأوروبي من سحر "عاصمة الجن والملائكة". أرض الفيلسوف العدمي إميل سيوران، ولاعبة الجمباز الإعجازية ناديا كومانتشي، والمسرحي العبقري يوجين يونسكو. ملاذ دراكولا وبلد الديكتاتور الشهير تشاوشيسكو
ومن معالم العاصمة الراقية أيضاً، الأثينيوم الروماني في جادة النصر، وهو قاعة دائرية تعود إلى 1888، تحتضن أرقى الحفلات الموسيقية، وتُعد موطناً لأوركسترا جورج إنيسكو الفيلهارمونية. على مقربة من هناك، ينتصب المتحف الوطني للفن، الذي يضم روائع أوروبية لفنانين مثل رامبرانت ومونيه، خاصة من العصور الوسطى، في مشهد بصري تأملي حول الدين، والحب، ورمزية الورود.

تُعدّ مكتبة "كرتوريشتي كاروسيل" (Cărturești Carusel) من أبرز المعالم الثقافية أيضاً في بوخارست، وتقع وسط المدينة القديمة النابضة بالحياة. تشتهر بتصميمها الداخلي اللافت، حيث تخلق الطوابق البيضاء والدرج الحلزوني والسقف الزجاجي مشهداً بصرياً أخّاذاً يشبه "دوامة من النور". تحتضن المكتبة أكثر من 10,000 كتاب، إلى جانب مساحات مخصصة للفن والهدايا، فضلاً عن مقهى أنيق في الطابق العلوي يوفّر إطلالة جميلة، مما يجعلها محطة مميزة تجمع بين المتعة البصرية والثراء الثقافي.
المطبخ الروماني: لحوم وشوربات بلا نهاية
اكتشفت أن المطبخ الروماني ثقيل وغني. تُهيمن الشوربات على القوائم أكثر من أي بلد زرته. أشهرها شوربة أمعاء الخروف (Ciorbă de burtă)، وشوربة الفاصوليا. اللحوم عنصر رئيسي في معظم الأطباق، وأبرزها "سارميل" (لفائف الكرنب المحشوة باللحم) و"ميتيتي" (لفائف اللحم المشوي).

ومن أبرز المطاعم Caru' cu Bere، وهو مكان أيقوني بطراز معماري فريد. صعب أن تستمتع بطعامك دون أن ترفع رأسك لتأمل السقف والجدران. وينصح بالحجز المسبق لكثرة الإقبال.
عموماً، يتأثر المطبخ الروماني بشكل واضح بالمطبخين العثماني والبلقاني، ويتميز بمزيج من البساطة والنكهات الريفية الدافئة، مع اعتماد كبير على الثوم، والذرة، ومنتجات الألبان كعناصر أساسية في أطباقه التقليدية.

الحياة الليلية: بين الجموح وتشييء المرأة
تجسد الحياة الليلية في بوخارست مقولة عبد الرحمن منيف: "الظلام أب كبير يعطف على الحزانى". تبدو الأهداف السياحية في الليل إما جنسية أو متعلقة بالمشروبات الروحية. يعترضك سماسرة الحانات بوعد النساء الجميلات والعروض المغرية.
المدينة القديمة، برغم معمارها الآسر، غارقة في التسليع: فتيات يُستغللن لاستقطاب الزبائن، في مشهد ممنهج. قد يصعب على السائح أن يجد مكاناً "عادياً" لقضاء ليلته. مثل براغ وبودابست، وتُعدّ الأسعار الرخيصة للمشروبات عاملَ جذب رئيسي.
تجسد الحياة الليلية في بوخارست مقولة عبد الرحمن منيف: "الظلام أب كبير يعطف على الحزانى". تبدو الأهداف السياحية في الليل إما جنسية أو متعلقة بالمشروبات الروحية
تُظهر الحياة الليلية في بوخارست وجهاً مزدوجاً يعكس واقعاً معقداً؛ فمن جهة، تفيض الحانات والنوادي بأجواء الحماس والمرح، ومن جهة أخرى، تختفي وراء هذه الواجهة مظاهر الاستغلال والتسليع، خاصة تجاه النساء اللاتي يُستخدمن كوسيلة لجذب السياح.
الاسترخاء في بوخارست: مياه ساخنة وحدائق فاتنة
على بُعد كيلومترات من وسط العاصمة، تقع "تيرما" بوخارست، أكبر مركز صحي وترفيهي في أوروبا. بمسابح حرارية بدرجة 33 °C، وحدائق استوائية، ومنزلقات مائية، تنساب الأجساد في المياه بينما توثق عدسات الهواتف لحظات "الإنستغرام" المثالية.

ولا يمكن نسيان حديقة "هيراستراو" (التي تُعرف اليوم بحديقة الملك ميخائيل الأول)، وهي الأكبر في بوخارست بمساحتها البالغة 187 هكتاراً، وتحيط بها بحيرة واسعة تُعدّ من أبرز معالم المدينة.
غير بعيد، ينتصب قوس النصر، الذي بُني عام 1936 تخليداً لانتصارات الحرب العالمية الأولى. ارتفاعه 27 متراً، وتصميمه الكلاسيكي جعله جزءاً من احتفالات اليوم الوطني في الواحد ديسمبر.
بوخارست جوهرة سياحية مجهولة، تجمع بين الإرث الثقافي الغني والأسعار المناسبة. فاليورو الواحد يساوي نحو خمسة ليو روماني، ما يجعل النشاط السياحي في متناول الزائر العادي، ويمنحه فرصة عيش تجربة ممتعة و ثرية بأقل التكاليف.
نستشف أن رومانيا، بلد التاريخ والفن، تكشف عن تناقضات حية بين عبق ماضيها وجموح حاضرها المتغير. بوخارست، عاصمتها، تمثل لوحة معقدة تنبض بالإرث الثقافي الغني وسط واقع عصري متقلب. من مبنى البرلمان الهائل، الذي يعكس جنون ديكتاتورها تشاوشيسكو، إلى قاعات الأثينيوم الروماني ومكتبة كرتوريشتي كاروسيل ذات التصميم الفريد، تتجسد روح المدينة في تمازج متناغم بين التاريخ والفن.

أما المطبخ الروماني، بدفئه وبساطته، يحمل نكهات تقليدية متأثرة بالبلقان والعثمانيين، تغذي الحواس وتروي قصصاً من التراث. والحياة الليلية في بوخارست، فهي تجمع بين البهجة والتحديات لمحاربة استغلال السياح، بينما توفر المسابح الحرارية وحدائق "هيراستراو" متنفساً هادئاً بعيداً عن صخب المدينة.
بوخارست ليست مجرد وجهة سياحية، بل تجربة غنية تدعو لاكتشاف أبعادها المتعددة، لتتأمل جواهرها التي تنافس كبريات العواصم الأوروبية في سحرها وتميزها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.