حدّث أبو ببوشة* قال

حدّث أبو ببوشة* قال

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 14 سبتمبر 20256 دقائق للقراءة

هذا الملف يتضمّن مجموعةً متنوعةً من النصوص، مرفقةً بخمس صور، من إنتاج أعضاء “ناس رصيف”.

جاءت هذه الأعمال ضمن تمرين فوتو-ستوري أشرف عليه شربل كامل في جانب الكتابة الإبداعية والتحرير، ويوسف عيتاني في جانب التصوير.


لا أتذّكر متى قابلته ولا كيف. معرفتي به ككّل الأشياء التي ليس لها أوّل ولا تُرسم لخاتمتها الأفراح أو الأتراح. أولى ذكرياتي معه أتت مع تواتر اللقاءات في الشارع حين كنت أنزّه كلبي ليلاً. أتذّكر هلعي يوم قابل سؤالي البارد بإجابة غير مُتوقعة:

Bonsoir, vous allez bien؟

ردّ بالعربية قائلاً: زيّ الزفت.

لم أعرف ما فاجأني أكثر: إجابته الصادمة أو النشوة الدافئة التي تسري فيّ كلّما سمعت العربية في هذه المدينة البعيدة؟

نظرت في عينيه بفضول، لا يُمكنني وصفهما بالجمال أو القُبح. وجدتهما غريبتين جداً، وصغيرتين ودائريتين. يلوّح بهما في كلّ الزوايا ببطء مُريب. رفعهما مُتفرّساً في كلبي وقال دون أن يلتفت إليّ: "هل هو قادر على إيجاد بوابة الزمن؟".

حاولت أن أتبيّن علامات الهزل في وجهه، لكنه بقي واجماً. كتمت دهشتي وسألته: "هل يُمكنني مساعدتك؟".

واصل البحلقة حوله دون اكتراث لسؤالي. لوهلة فكرت أنّه لم يسمعه. بعد لحظات من الوجوم، دنوت منه لأعيد سؤالي، فقاطعني قائلاً: "الكلاب حسّاسة، يمكنه أن يدّلكِ عليها. يلّا باي".

شعرت مع ذهابه بالارتياح. العشاء لا يزال في الفرن وعلى الثلاجة قائمة لا تنتهي من الأشياء التي عليّ الاهتمام بها هذه الليلة. لم تكن لي أيّ رغبة في فتح حديث وقتها، لكنّ سؤاله كان كفيلاً بدغدغة فضولي.

كان لجاري مذياع، أو ما خُيّل إليّ أنّه مذياع، يصدح من حقيبته طوال الوقت. ضوضاء عارمة؛ خليط عجيب من أصوات وأغانٍ وطقطقات وأجراس كنائس وأصوات مآذن وبيوت شِعر. وقد كانت "الميكسات" من قبيل "أديش في ناس" مع "يا عمّي الشيفور*"، ما يساعدني كلّ مرّةٍ في تدبير لقاءاتنا المسائية و"العشوائية".

"لم نتبادل الحديث يوماً، ولم تُفتح النافذة مرة، لكنني كنت أعرفه، وكان يعرفني… كانت لغتنا الصامتة تتخطّى الكلمات."

مع تواتر اللقاءات، تطوّر حديثنا بسرعة مذهلة. أحببت كثيراً رؤيته للأشياء واختلافه حدّ الغرابة. في مدينة تلهث منذ بزوغ الشمس إلى الغسق، جاري يتمّشى الهوينا ولا ينظر أبداً في الساعة.

هو ينكر بطأه: "هلكتيني خيتا! مانجمش نجري أكثر من هكا؟ بدك ياني نطّ نط؟".

تدّق أجراس الكنيسة المجاورة، ويُتابع متأففاً:

لمن تدقّ هذه الأجراس؟ طوشتني...

حسبت أنّ أجراس الكنيسة هي قياس الوقت عندك.

شنوا عندي نعمل بالوقت؟ أنا أحمل بوابة الزمن بطُمّ طميمها.

يتكلّم جاري بثقة كبيرة وقطعية شديدة لا مجال معهما للتنسيب أو الجدال.

هل هي تلك التي تُفتح عند تراصّ الكواكب؟

أختي هذه أسطورة قديمة ابتكرها الأوّلون لإلهاء الغوغاء عن الميقات الصحيح! وحدها الأعين التي تشبّعت برؤى من المدن السابقة ستتبيّنها.

أيّ أعين؟ وأيّ مُدن؟

انظري إلى المُغترب! هو يعيش على الأقّل بين زمنين. رِجْلٌ في الماضي والأخرى على الآتي. أنتِ مثلاً، منذ أتيتِ هنا، ألم يحدث لك أن وقع نظرك على شيء غارق في العادية والرتابة ويأخذك إلى حياتك السابقة؟

أطرقت بنظري إلى الرصيف بينما تابع كلامه:

قد تكون سماء مُكفهّرة أو زرقاء هي هي التي تُناطح بوڤرنين؟ قد تكون سحابةً تخالينها رسولاً من مدخنة بيتك؟ قد تكون سرب حمام يحمل رسالةً مُشفّرةً من مغامرات الطفولة في ساحة مدرستكِ، أو حفيف الشجرعشيّة يوم غائم، أو نظرة عابرة من غريب تُعيدك إلى عيني جدّكِ عند التسليمة الأخيرة لصلاة العصر. كلّ من هاجر يعرفها ويحملها معه أينما حلّ. تُرافقه منذ بزغت في فؤاده فكرة الرحيل.

بوابتك المزعومة ، تجعلها تبدو كقدرة خارقة! المغترب بطبيعته عالق بين المدن كقط شرودنغر؛ نصف حيّ ونصف ميّت.

لك تسلملي الفهيمة... العيش بين الأزمنة قدرة خارقة لكنها تسلبك الآن، وهذا ما يجعل إدراكها صعباً بعض الشيء، كشاهدٍ على قط شرودنغر. يلّا باي.

ذهب وتركني هذه المرّة مدهوشةً لإنهائه الحديث أكثر من دهشتي لغرابته.

ابتعد في تأنٍّ جائباً الزقاق مراراً، حاملاً منزله فوق ظهره وقد طلاه بألوان الحجارة كبادرة إدماج. يحوم بين الروائح قاطعاً بإصرار الأعمدة والحيطان وتربة الخريف النديّة.

ما تصنعه الصدفة، تأخذه الصدفة متى ظهرت بوادر الاهتمام. منذ ذاك المساء، ركب الحظ رأسه وأبى أن يُرتّب لنا لقاءً آخر. اِستكانت ضوضاء مذياعه ولم أعد قادرةً على إيجاده مهما افتعلت من السُبل.

لاِنسحاب العادة طعم مرير، مهما أقنعنا أنفسنا بتفاهتها.

أصبحت نزهاتي المسائية من دونه رتيبةً جداً، حتى شرودنغر أطلق سراح قطّه ليغيظ كلبي. في الأسابيع الأولى، حاولت كثيراً فهم سرّ غيابه؟ هل هو سقم أو سُخط أو أقدار موزونة؟ هل كان مثلاً في مهمّة إفشاء سرّ لأصبح حارسة بوابة الزمن وحاملتها، مثله؟ أو هي فقط أضغاث أفكار أحاول بها تبرير اختفائه؟

"نظرت في عينيه بفضول، لم أستطع وصفهما بالجمال أو القبح، كانت غريبة جداً، صغيرتان ودائريتان، تلوّحان في كل الزوايا ببطء مُريب."

مع مرور الوقت بدأت بنظم أساطيرٍ وحكايات من كلً شيء يعترض سبيلي، وفهمت أخيراً ما لم أعقل من حديثه سابقاً؛ كيف أنّ الأزهار نرجسية الطباع الحمراء منها أو الصفراء، وأنّ الظلال أخوة غير أشقاء السراب، وأنّ النور لم يكن في حسبان الخلق أوّلاً وأنّه قد أُتيَ به شماتةً في الظلام لطغيانه.

اختلجني شعور غريب، مزيج من اللذّة والمرارة حين أيقنتُ أنّي، دون أن أُدركُ، صِرته. أقفلتُ عائدةً إلى المنزل، وإذ بكلبي يجُّرني إلى زقاق مُظلم، اِستسلمتُ إلى رغبته دون مقاومة تُذكر.

كان هناك… حلزون عالقٌ وسط رصيف تبخّرت رطوبته، لا أحد يراه ولا أحد قادر على تمييزه بين الحجارة، يُثقل البيت ظهره ويجرح الطريق بطنه. يقبع تحت زخّات خطى المرور و تحت عبث الأقدار.

ومع الرنّة السابعة لأجراس الكنيسة، رفع رأسه إلى السماء مُردّداً:

"طلبت المستقَرَّ بكل أرض فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقَرا"*


*ببّوش/ ببّوشة: كلمة من العامية التونسية تعني الحلزون أو القوقعة.

* يا عمّي الشيفور: أغنية للفنانة الشعبية التونسية فاطمة بوساحة.

*بيت شعر من شعر أبو العتاهية


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard
Popup Image