إنه منتصف يوم عاديّ في باريس. الشمس تطلّ بكامل قوّتها بينما أتجهّز للمشاركة في مهرجان سوق الشعر في باريس، وفلسطين التي هي ضيفته هذا العام أرسلت وجوهها التي تعرف كيف تتحدث عنها. عقلي مشغول بحنينه إلى لقاء الشعراء الفلسطينيين والغزّيين، والألفة التي تعِدُني بها باريس بعد الغربة التي وضحت رؤيتها فيّ. قرأت القصائد مرةً أخرى لأتأكد من وضوح غزّة في القول والمعنى، وانطلقت أتتبع خريطة google للوصول إلى المكان.
عقلي مشغول بحنينه إلى لقاء الشعراء الفلسطينيين والغزّيين، والألفة التي تعِدُني بها باريس بعد الغربة التي وضحت رؤيتها فيّ.
كيف استطاع "Google Map" أن يعيدني إلى غزّة
في أثناء تجهّزي للأمسية، حرصت على اختيار الملابس الخفيفة بسبب أشعة الشمس الحارقة. بدّلت ملابس كثيرةً حتى اخترت أحدها. في الباص، أمضيت الوقت في محادثة العائلة؛ بعض الأخبار المرعبة، وخوف الدقيقة الكثيف، والأسعار المجنونة. وصلت إلى المحطة ومشيت خلف إشارات الخريطة، تفحصت المباني وشكل الشارع الفرعي الرفيع الجميل، والتقطت له صورةً. بعد ثوانٍ، تلقّيت إشعاراً بانتهاء الرحلة. رفعت نظري باحثةً عن المكان؛ كنيسة كبيرة لكن لا يبدو أنّ الأمسية تقام داخلها. سرت خلف بعض الأشخاص بضع خطوات، فلاحت لي أقمشة أعرفها، ومشهد حقيقي عشته وأعرفه: "أشعة شمس تستلقي على ظهر الخيام الممدودة على المدى". نظرت إلى الخريطة مرةً أخرى وتأكدت من العنوان: يا لهذا السفر السريع المخيف، يا ذاكرتنا الغزيرة بالألم والحزن، عادت لي غزّة ودير البلح وذاكرة المعاناة. مشهد واحد وذاكرة واسعة.
رجعت خطوات وشاركت عبر الفيديو غرابة الحدث مع أكرم وحامد. ألقينا نكات الخيام: "مواصي باريس"، "ميلي على خيمة فلان"، وضحكنا، والضحك فعل غير عادي في حدث غير عادي. تأملت المشهد من بعيد؛ إنها أقمشة فعلاً تشبه الخيام التي انسلخت جلودنا تحتها وتغيّرت ألواننا، لكن لا أحد في الخيام التي أمامي يبكي! لا أحد يفرك سواد يديه في ظهر الخيمة. لا أحد يدعو أن يخفف الله عنه هذا الجحيم، بل انطلقت الموسيقى في مكان ما، وضجت الخيام بالحديث عن الكتب المعروضة، وأنا وحدي في المنتصف أتذكر ضحكتنا الثلاثية على حظ الغزّي ونصيبه في مواجهة تاريخه كل الوقت.
تتبعت ظلّي المحترق أمامي. كان يبحث عن مكان يحتمي فيه من شمس باريس ومشاهد غزّة. جلست على كرسي يجعل المشهد كله خلفي، لأفكر إن كان ما أعيشه وأحسّه حقيقياً أو مبالغاً فيه. دون وعي أخرجتُ كتاب "غناء لآخر الحياة" من الحقيبة، وقرأت نصوص حيدر الغزالي وحامد عاشور ومحمد الزقزوق. الكلمات التي تقول الحكايات، الكلمات التي قرصتني لأصدّق أنني جئتُ من غزّة، وعرفتُ الخيام وأعرف الخوف والترقب، وأعرف حكاية الخيام في الفصول وتلفها ورقعها وأعرف الخيام التي صنعت من قشّ والأغطية والملابس البالية، وأنّ صحوة الذاكرة أمام المشهد لم تكن ترفاً ولا خياراً… إنها طريقة غزّة في الحضور.
رجعت خطوات وشاركت عبر الفيديو غرابة الحدث مع أكرم وحامد. ألقينا نكات الخيام: "مواصي باريس"، "ميلي على خيمة فلان"، وضحكنا، والضحك فعل غير عادي في حدث غير عادي. تأملت المشهد من بعيد؛ إنها أقمشة فعلاً تشبه الخيام التي انسلخت جلودنا تحتها وتغيّرت ألواننا، لكن لا أحد في الخيام التي أمامي يبكي!
شكراً للصاروخ الأخير
أعادني لقاء شعراء غزّة إلى يومٍ قديم في غزّة، وكأننا نجلس أمام بحر غزّة بعد انتهاء إحدى الأمسيات. قبل الوقوف على المسرح والبدء بعرض القصائد، تحدثنا عن الطقس والحرارة، ولم نستطع كتمان غيظنا من مشهد الخيام. لم يكن سهلاً هذا اللقاء على أيّ غزّي. سُحب بساط الإنكار من تحتنا ووجدنا أنفسنا أمام المقارنة دون حيلة. يوسف القدرة، وهو شاعر غزّي خرج من غزّة في نيسان/ أبريل 2025، أخبرنا بأنه لم يستطع كتمان السباب على الخيام حينما رأى أصعب فصول غزّة تركض خلفه، ولم ينكر أحد صعوبة اختبار اللحظة لوعينا. انتقلت إلى المسرح وأنا أفكر في ردود الفعل، وأفكر في القصائد التي سألقيها: هل تسامحني غزّة حين أتحدث عنها الآن تحت خيمة؟
انتقلت إلى المسرح وأنا أفكر في ردود الفعل، وأفكر في القصائد التي سألقيها: هل تسامحني غزّة حين أتحدث عنها الآن تحت خيمة؟
قرأتُ قصيدة "وداعاً أيتها الحرب" التي كتبتها في نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، ليلة العودة إلى شمال غزّة -وفي كل مرة أقرأها أعرف أنني سأعود إلى غزّة- وفي داخلي رجفة لم يخفِها صوتي، ارتجفت أمام عناد غزّة على الحضور وثباتها بين الكلمات، انتهيت وجلست، ثم قرأت هند: "شكراً للصاروخ الأخير". لم يتغير شيء من المشهد أمامي. هند على المسرح، والحضور يرفع كاميراته للتصوير، لكن حواسي تملّكتها صورة الخوف في قلبي: عيناي استرجعتا لقطات الكاميرات للجثث في الخيام، وهند ناجية بالمصادفة، ونحن خلفها صامتون لا لنسمع، بل لفوات فرصة الصراخ والاستنجاد، والموسيقى عويل طائرة، لم تعطف عليّ الذاكرة، رمتني للنار وتركتني أواجه العالم بحواس شاردة وقلب أذابه الماضي.
لا أحمّل سوق الشعر ذنباً ولا غزّة، ولا الجمهور الذي جاء ليعرف فلسطين من خلال وجوهنا وأصواتنا، لا أحمّل قصائدنا ذنباً ولا خيالنا، ولا الخيام التي صُنعت في عوالم موازية للرفاهية والمشاريع المؤقتة. الذنب واقع وممتد حتى أعناقهم، أولئك الذين سحقوا عوالمنا وذاكرتنا ومفرداتنا، الذين جعلوا ميراثنا من المعرفة أفضل أنواع الخيام التي لا تذوب، وأفضل بدائل الخبز، وأفضل برنامج لمقاطعة السكر، ولم يسمحوا لنا ولو لمرة واحدة أن نعرف أفضل طريقة للحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.