إنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة أجرة - إن جاز تسميتها "أجرة" - منذ أن عدت إلى مدينة غزة. كنت في طريقي إلى مفترق السرايا وسط المدينة.
لا شيء عادياً؛ لا الطريق، لا الحرّ، ولا حتى الهواء الذي بدا وكأنه يمرّ على جروح المدينة قبل أن يصل إليّ.
هنا لا يمكنك أن تميّز بين حرّ الشمس أو حرّ الانفجار، والخوف هو ما ينهكك. ولا يمكنك أن تمشي على ركام المدينة دون أن تشعر بأنك تدوس على عظام الحياة ذاتها، لا على الحجارة.
اخترت السيارة بدلاً من السير، وكأنها الإهانة المغطاة بالصبر. وكأنّ الأمر نزهة فوق الرماد. كل شيء بات يؤلمني، خاصةً السير على الأقدام الذي يتطلب إطفاء الحواس عن كل شيء؛ تحديداً عن صوت التكسر الذي يخز أقدامك. أمتلك حساسيةً تجاه الرماد وكأنني صرت أشعر بثقل المدينة تحت قدمي. كأنني أطأ جثتها بكل خطوة.
هنا لا يمكنك أن تميّز بين حرّ الشمس أو حرّ الانفجار، والخوف هو ما ينهكك. ولا يمكنك أن تمشي على ركام المدينة دون أن تشعر بأنك تدوس على عظام الحياة ذاتها، لا على الحجارة.
كل التناقضات تمرّ أمامي الآن؛ حياة شائكة بكل شيء، وكل شيء مقبول ومبرر. أطفال يركضون نحو طابور التكية وهم يحملون قدوراً فارغةً. وأصوات تنادي: "عدس، عدس!".
آخرون يتسابقون نحو سيارات المياه، وآخرون يعودون بخطى مثقلة يحملون حقائب صغيرة. أنا لا أعرف إلى أين يعود الطفل مما يشبه المدرسة إلى ما يشبه البيت (الخيمة، أو بيت نزوح)؟ هم مجرد عائدون مما يشبه المدرسة إلى ما يشبه البيت.
كأنّ الحياة في الطريق، وفي المدينة، هي ما يشبهها، ما يحاول أن يكونها.
الجميع يمرّ بي الآن وبداخلي، وكلما حاولت أن أمسك صورةً واحدةً لهذا المشهد تفلت مني الصورة. لا هوية واضحةً، ولا معنى مستقر.
وكأننا تعلمنا أن التعايش هو اعتياد الألم، ونسينا أن الألم حين يطول يصبح هو رديف الحياة.
سرقت من الوقت، الوقت الذي يمشي وفق عقارب خرائط الإخلاء، وإنذارات بتوجيه ضربات وتهديدات باقتراب توسيع العملية البرية "عربات جدعون". كأنّ المشهد الآن هو مشهد نهاية الحياة. وحش يجرّ جيشاً من العربات القديمة، تسمع ضربها في الأرض كأنها في جسدك، تدبّ في روحك والوحش أمام العربات يجرّ أذياله وفي مقدمة وجهه أسنان بارزة تنادي:
"مزيداً من الدم… أنا ما زلت متعطشاً… سأخلصكم بمزيد من الدم… بمزيد من القتل،
بحرب تعيد ترتيب المفاهيم بأنّ كل منقذ هو مصدر شرّ ودمار وعطش كبير للدم".
يتردد الآن صوت "عربات جدعون" تقترب، ستطوق المدينة، ستطوق كل القطاع، دباباتها تضرب في الأرض وتزيح من طريق مرورها نحو الانتصار كل ما يشبه الحياة أصلاً. وحش يقترب أكثر ويطوّق المدينة التي تدور في جسدها رحى الجوع والخوف والتعب، وفي زواياها الصغيرة جداً تسرق وقتاً من الوطن والذاكرة.
نصف ساعة من "ترف" الآن كي أغسل وجهي في جنازة، سأهذّب حاجبيّ، فبعد ساعات من الآن سنشارك في حفل "عرس ابن خالي" في بيته. الاضطرار أيضاً شكل من أشكال التيه، والحياة شائكة بالتناقضات. حياة مشوشة تشبه سلكاً شائكاً في كل لحظة تريد فيها تفكيكها يخزك السلك.
كأن تضطر المدينة إلى أن تتلون قليلاً، وهي معضلة الأمل الحقيقية أنه يُلوّن المأساة… "جارة البحر" تعلّمك أن تخرج رأسك من الغرق وتلتقط نفساً برغم العبء حتى ولو كنت ستستلم للغرق بعد قليل.
أشعر بأنني أبرّر حتى رغبتي بالحديث عن لحظة عرس في المدينة. أبشع ما صنعته الحرب اعتذارنا على اختيارنا لحظةً ننفض فيها الحرب وكأننا لا نريد الاعتراف بأننا نريد!
السيارة التي تقلّني الآن كانت اختياراً نادراً. فقط ثلاثة ركاب في المقعد الخلفي وهذا رفاه آخر!
أشعر بأنني أبرّر حتى رغبتي بالحديث عن لحظة عرس في المدينة. أبشع ما صنعته الحرب اعتذارنا على اختيارنا لحظةً ننفض فيها الحرب وكأننا لا نريد الاعتراف بأننا نريد!
أن تحصل على مقعد غير محشو بالأجساد، شكل من أشكال النصر الصغير. السائق الذي يجبرك أن تستلم لذائقته فأنت حاصل على رفاه عالٍ بفضله أنه غير ملتزم بقوانين السيارات التي تقبل بأن تتحول إلى عجينة مختمرة محشوة بالأجساد. من الراديو الذي فرضه علينا السائق بلهجة فلسطينية واضحة من إذاعة محلية يقول المذيع:
"بتشتكوا من غلاء اللحمة بالضفة، شوفوا غزة لا خبز لا عدس، لا طحين، ولا بروتين، الله يعين غزة".
كيف بدأ الأمر الآن الذي صار سكيناً ينغرس بجلدي ومسامات روحي التي كانت تحاول أن تتجاوز كل هذه الخيالات التي تأكل رأسي عن شكل القادم بعد قليل، بعد لحظة، بعد يومين، بعد ساعتين. لقد أصدروا أمر إخلاء لكل المربعات التي تتوسط المدينة الآن، والجميع يقول: ذاك مخطط عربات جدعون!
والمذيع يقول بكل وقاحة: "إن شاء الله بتصير اللحمة بالضفة 1000 شيكل". الهدف أن يهذب شكوى المتابعين. أستمع أنا والركاب، وبينهم طفل في حجر أمه، تسكّن جوعه ببعض الماء في "الببرونه". لم يعترض الطفل. أعرف أولئك الأطفال الذين يعترضون ويرفضون أن يصير الماء بديلاً للحليب في زجاجة الحليب تلك. كانوا يلقون "الببرونة" في السيارة ويرفضونها ويعترضون على أي طعم غير الحليب، لكنه يلتهمها التهام الوجبة المفضلة، ولا يعترض. عيناه نصف مغمضتين وجسمه يتكور على نفسه كحبة تمرٍ ذابلة. نستمع إلى تنظير متصل آخر لم يتجاوز حتى مسار السيد المذيع بل قال الجملة ذاتها: "الله يعين غزة مش بكفي ما عندهم ولا إشي". الحديث في السيارة يدور عن الطعام الذي صار مجرد ذكرى والطحين الذي صار مجرد زائر بالصدفة، والبروتين الأسطورة. ونحن نبتلع السؤال والإجابة وأحاديث بعضنا كالطفل الذي في حجر أمه دون اعتراض، دون صراخ.
كنت قبل يومين قد اجتمعت على طاولة في مقهى مع أصدقاء نذيب الخوف في فناجين قهوة فاق سعرها الخيال، لكننا على أي حال نحاول أن نتشبث بشكل الحياة المتخيّل كضد للمعاش. قفز واحد من الأسئلة أمامنا.
"شو في إشي زاكي، كان يطلّعنا من هالحالة؟"، نقصد حالة الإعياء والتعب، والمزاج المتعكر. حاولنا استذكار ماهية "الشي الزاكي" في ذاكرتنا. الصدمة كانت أننا تهنا في هذا السؤال، وكأن أحداً سحب ذاكرتنا نحو صحراء قاحلة ومسح عن الذاكرة شكل المذاق أو الطعم الذي ينهي هذه الحالة حتى ولو على سبيل الخيال.
تطوّع أحدنا للبحث من خلال الفيديوهات عبر الإنستغرام، مقترحاً أن نعرض على أنفسنا شكل مائدة عليها كل طعم هجرنا. الغريب أنها لم تلفت الذاكرة إلى شكل اللحم الذي "يفغصه" صاحب الفيديو. لم تظهر على شفاهنا تلك الجملة المقترنة باللذة: "ممممم" والله هاد هو!
نحن لا نعترض. لا نستذكر!
ما هذا المحو؟
إنهم جميعاً يشاركون في غرس السكين في جلدي. جلدي الذي بدأ يضعف أصلاً. أحاول أن أتحايل ببعض المكملات العلاجية كبديل لجلد هشّ وأظافر تتكسر. والفيديوهات وصوت المذيع سكين يسلخ جلدي عن عظمي ويعرّي حاجتي وجوعي أكثر ويعرضهما في سوق: "انظروا إلى جوعهم، واحمدوا الله على النعمة التي بين أيديكم".
حتى صادفنا الفيديو الذي يعرض حالة صراع الغزيين على طابور مخبز في الفترة التي حاولت فيها المخابز في جنوب القطاع العمل بعد توجيهات الاحتلال بإدخال الطحين فقط لمخابز الجنوب، وكأنّ الحياة في غزة عقاب مستمر وحرمان مقصود. أقدام في الفيديو تطحن بعضها والفيديوهات تعنون نفسها "غزة والجوع الذي أكلها"، والمشاركات والتعليقات كلها تحت مسار واحد "العبرة" أو الحسرة العالية. إنهم جميعاً يشاركون في غرس السكين في جلدي. جلدي الذي بدأ يضعف أصلاً. أحاول أن أتحايل ببعض المكملات العلاجية كبديل لجلد هشّ وأظافر تتكسر. والفيديوهات وصوت المذيع سكين يسلخ جلدي عن عظمي ويعرّي حاجتي وجوعي أكثر ويعرضهما في سوق: "انظروا إلى جوعهم، واحمدوا الله على النعمة التي بين أيديكم".
من ذا الذي حوّل مفهوم الحاجة إلى إذلال؟
من ذا الذي قصد أن تصير الحاجة خجلةً من أن تقول الآن:
أنا جائع، وأولئك يشهّرون بجوعي. في ذاكرتنا الموروثة أن تصف فلان بالجائع يعني أنك تجرّده من كل القيم؛ الكرم، الإيثار، والنبل!
ما هذا العبث الذي يصنع من جوعي محتوى للشيف التي تظهر أمامي، وتخبر متابعيها بأنها ستعلمهم "خبز المعكرونة" الذي صنعه الجبّارون في غزة!
يا عزيزتي لماذا على امرأة في القاهرة أو في عمان أو أي عاصمة أخرى من متابعيك أن تتعلم تلك الوصفة، وهي بإمكانها أن تعجن الخبز في حقيقته الأولى "الطحين".
لماذا على الأزمات أن تسير وفق منهاج غزة؟
من ذا الذي وضعنا الآن كدرس في سلسلة الصراع على المتابعين والمتضامنين؟
يا عزيزتي لماذا على امرأة في القاهرة أو في عمان أو أي عاصمة أخرى من متابعيك أن تتعلم تلك الوصفة، وهي بإمكانها أن تعجن الخبز في حقيقته الأولى "الطحين".
يغيظني شكل التضامن العربي هذا، إن جاز أن نضع تلك الأفعال في إطار التضامن: مثلاً أن تفتح مطعماً وتشارك عناوين الوجبات برموز برزت في أثناء الحرب. يغيظني ما يمنع صاحب المطعم من أن يقول:
نمتنع اليوم عن تقديم الوجبات، كتضامن مع أهل غزة؟
وفي واحدة من الفيديوهات التضامنية، يظهر الشيف الإيطالي الذي قدّم شكل التضامن وفق مساراته الحقيقية: أن تعيش لحظةً مثلما يعيش من تتضامن معه، يعني أن تأكل في صحون فارغة، وأن تطبخ في قدور فارغة!
في حين تخرج المؤثرة وصانعة المحتوى العربية وتغمس لقمتها في صحن العسل، أمام منقل شواء، وهي تقول:
"تذكّروا غزة".
-والله، شكراًَ.
ما هذا التضامن المتبّل والمصفوف على منقل شواء تخز أسياخه في قلبي الآن؟
وهل لك أن تزيحي صحن العسل قليلاً من أمامي لأنني أشعر بأنّ الشيء "الزاكي" الذي أبحث عنه في ذاكرتي ليس عسلاً، بل حياة دون أن تراني درساً أو عبرة أو مجرد لقطة تضامن!
إننا نعرف الجوع، ونعرف أننا لا نستحقه، لكنه صار أمراً واضحاً ومعتاداً على كل التفاصيل، وكل محاولاتنا تخصنا وحدنا. لا نريد منها أن تكون عبئاً على حياة أحد أو مثالاً يحتذى ويعاش، دون أن نكون تجربةً في كتاب علوم سياسية، أو فقرةً في تقرير أممي.
هل لكم أن تتوقفوا قليلاً عن تعريتي وتعرية حاجتي، وتختاروا شكلاً آخر غير هذا التضامن؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.