في غزة، لم تعد الزغاريد تتنافس مع صوت الطبل، بل تُحشر على استحياء بين غارات جوية وزنّانات لا تنام. هناك، حيث تتحوّل الخيمة إلى قاعة أفراح، ويصير الثوب المطرز بديلاً عن الفستان الأبيض، والمهر يُرسَل عبر تطبيق بنكي لا يرنّ... تُعقد الزيجات في زمن لا يحتفي بالحياة.
إسرائيل التي سرقت البيوت، لم تكتفِ بذلك، بل امتدت يد إجرامها إلى طقوس الفرح، تلك التي تشكّل الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، والملاذ الأخير للهشاشة الآدمية في وجه القصف. ومع ذلك، يصرّ العشاق على الزواج، لا بوصفه مناسبةً، بل مقاومة ناعمة تقول: نحن هنا... نُحبّ ونحلم ونستمر.
في مساء بلا ملامح، تحت سماء رمادية بلون الدخان، تزيّنت خيمة صغيرة بين الركام بورد ذابل في مخيم البريج وسط غزة. لم تكن الموسيقى تصدح، ولا الزغاريد تتطاير في الأرجاء، بل كان الصمت سيّد اللحظة، يخترقه فقط صوت الانفجارات في أرجاء المدينة المتخمة بالقتل والدمار.
الخيمة قاعة أفراح
تتوسط المشهد الفتاة صبا أيمن (20 عاماً). تجلس على كرسي بلاستيكي مهترئ، مرتديةً فستاناً مزركشاً بألوان داكنة -ليس أبيض- استعارته من إحدى صديقاتها، وتسريحة شعر رتبتها لها شقيقتها الكبرى، وبجوارها عريسها يشدّ على يديها، إذ قررا أن يكملا مشوار العمر معاً دون أي مراسم للزفاف.
"منذ صغري كنت أحلم بيوم زفافي مثل أي بنت في العالم، وبأن أرتدي فستاني الأبيض، وأسير مع عريسي في قاعة أفراح مطلّة على البحر، على ألحان الدبكة الفلسطينية الشعبية، تسبق ذلك ليلة الحنّاء التي تحضّر فيها النساء عجينة الحنّاء الخضراء لوضعه على يدي، وأرتدي ثوباً فلاحياً فلسطينياً مطرزاً، وتحتفل صديقاتي وفتيات العائلة كما كانت تجري العادة في غزة، وسط شموع مضيئة… ولكن جاءت الحرب وسرقت منّا طقوس الأفراح التي اعتدنا عليها"، تقول صبا بابتسامة متعبة ومثقلة بالحزن في يوم يُفترض أن يكون الأسعد في حياتها.
لم ترتدِ صبا فستاناً أبيض، ولم تمشِ على سجادة بين صفّين من الحضور، بل ارتدت فستاناً داكناً مستعاراً، وجلست على كرسي بلاستيكي مهترئ في خيمة وسط الركام، ممسكة بيد عريسها نادر. قرّرا أن يتزوجا رغم القصف، بلا قاعة ولا دبكة، لأن "الاستمرار معاً" هو المعجزة الوحيدة الممكنة في زمن الإبادة
بعد خطوبة دامت 3 أشهر من تاريخ 10 شباط/ فبراير الماضي، ذهبت صبا إلى عريسها الذي يقيم في خيمة في مخيم النازحين نفسه سيراً على الأقدام، فلا وقود لتحريك المركبات.
تقول: "تقدّم (نادر) لخطبتي بعد توقف الحرب، وكنت قد خططت لإقامة حفلة بسيطة في حال استمرت الهدنة، لكن بعد عودة الحرب، فقدنا الأمل وأُصِبنا بإحباط وقررنا الزواج من دون أي مراسم. المهم أن تستمر حياتنا معاً وسط هذه الإبادة".
وتكمل: "حاولت خلق دقائق من الفرحة البسيطة، أحضرت صديقاتي لي بعض الهدايا، والتقطنا صوراً جميلةً للذكرى، فيما أحضرت لي حماتي صندوق العروس، وهو صندوق خشبي مزخرف صغير تقدّمه عادةً أم العريس لكنّتها الجديدة، ويحتوي على بعض الأغراض الخاصة بالعروس تشمل ملابس، عطوراً، مكياجاً، وبعض المسليات، فقد أصرّت على أن تحافظ على هذه العادة لتشعرني بالسعادة، كما حصلت على 'نقوط' من أشقائي".
"ثوب مطرّز من أمي"
على غرار صبا، ودّعت الفتاة غيداء يوسف (24 عاماً)، عائلتها في "يوم الأخذ"، المعروف فلسطينياً بيوم "طلعة العروس"، حيث يأخذ العريس عروسه من بيت عائلتها مصحوباً بالطبل وزغاريد النساء.
لكن في زمن الحرب، مرّ اليوم دون أي لحظة وداع تقليدية كما كانت العادة سابقاً في غزة، وبلا موكب أو طبل يهزّ الحي.
سارت برفقة عريسها الذي جاء لاصطحابها إلى منزلهما بثوبها المطرز بخيوط حمراء، بدلاً من ثوب الفرح الأبيض. لم تصفق لها الجارات والقريبات، لكنهن كن يراقبن خروجها من بين ركام المنازل ونوافذ الجدران المائلة في حي الشجاعية شرقي غزة، كما لم تطلق لها والدتها زغاريد الفرح بل كانت تهمس لها بالدعاء لتصل إلى منزل عريسها سالمةً دون أن يتعرّضا للقصف في الطريق.
تقول غيداء لرصيف22: "خُطبت قبل شهرين من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومع أول هدنة عدنا إلى الشمال وحددنا يوم زفافنا، ثم مع عودة الحرب شعرت بالقلق، والحسرة، وقبلت بالزواج دون أي مراسم خوفاً من أن نفقد بعضنا قبل أن نكمل مشوارنا".
وتضيف: "بالطبع فرحتي منقوصة لأنني فقدت طقوس يوم عمري، وفرحتي الكبرى لم تتم كما خططنا لها سابقاً، كل شيء تمنيته لم يحدث، لكن هذا قدرنا".
مهر إلكتروني
بصعوبة شديدة اقتنعت غيداء بأنّ تُزفّ لعريسها بثوب مطرز، دون فستان أبيض، بعدما دُمّرت محال فساتين الأعراس في وسط غزة، كما أنها لم تجد الوقت الكافي للبحث عن محال فساتين زفاف، فارتدت ثوب أمها الفلاحي الذي ارتدته هي الأخرى يوم زفافها قبل أكثر من 20 عاماً.
بدلاً من "يوم التقبيضة"، استلمت غيداء مهرها على تطبيق بنكي. وبدلاً من الزفة خرجت بثوب أمها القديم المطرّز من بين ركام حيّ الشجاعية.
عريسها بدر (27 عاماً)، تخلّى هو الآخر عن "سهرة الشباب" وبدلة الزفاف السوداء، واكتفى بقميص وبنطال، "كأنّه يوم عادي"، يقول وهو يبتسم ابتسامةً باهتة.
أما مهرها، فبدلاً من أن يقدَّم لها عبر صينية ذهبية (وهي صينية لونها ذهبي مزخرفة يوضع فيها مهر العروس)، وسط جاهة من الرجال وزغاريد النسوة، وهو ما يسمى غزّياً بـ"يوم التقبيضة"، إذ تقبض فيه العروس مهرها، فقد تسلمته غيداء عبر حوالة مالية من خلال تطبيق بنكي على هاتفها النقّال، لعدم وجود سيولة نقدية، مرفقة برسالة نصية من عريسها بدر: "هذا مهرك، غالي عليّ مثل قلبك، وسامحيني ما قدرت أقدّمه بيدي".
قابلت العروس الرسالة بضحكة قائلةً: "كنت أحلم بصينية ذهبية، لكن اليوم صارت شاشة الهاتف هي الصينية".
يحدث هذا في وقت أصبحت تقام فيه الزيجات في مراكز الإيواء، ومخيمات النزوح، والمنازل المهدمة، على عجالة. حتى دعوات الفرح المطبوعة، أمست من الرفاهيات، لأنّ الواقع الجديد لا يسمح سوى بالبقاء على قيد الحياة.
وسط هذه الأجواء، قرّر الثنائي، ميرا الحج حسين (23 عاماً) وعريسها فؤاد الغندور (25 عاماً)، اتخاذ خطوة مغايرة، ضمن مغامرة وصفاها بالعاطفية أكثر مما هي اجتماعية.
فتجهّزا صبيحة الأول من نيسان/ أبريل الماضي، لحفل زفافهما وسط ضجيج الحرب، لكن ضمن طقوس مختصرة في مخيم النصيرات وسط غزة.
خرجت ميرا مع شقيقتها ووالدتها إلى صالون تجميل بجوار منزلهما، فتأثرت صاحبة الصالون برؤيتها، وقالت لها: "منذ زمن لم تأت إلى الصالون عروس كي أزيّنها، بمجرد أني رأيتك بفستان أبيض وطلبتِ مني زينة عروس ردّدتِ إلى داخلي الروح".
أما عريسها فؤاد فأحضر بدلته من محل استئجار، وتوجه بها إلى العروس.
تقول ميرا لرصيف22: "الحرب سرقت منّا الكثير، لكني صممت ألا تسرق مني بهجة فرحي الذي لطالما حلمت به. ارتديت فستاني الأبيض وتزينت ورتبت لي المصففة تسريحة شعر مناسبة، وتشاركنا في جلسة تصوير خارجية لمدة 30 دقيقةً فقط باستعجال، وفوقنا ضجيج الطائرات الإسرائيلية، لكنها لم تغيّب فرحتنا ليظل هذا اليوم ذكرى جميلةً للأبد".
يكمل فؤاد الذي أصبح زوجها الحديث: "أقمنا حفلةً بسيطةً في بيت العائلة، وسط لمّة من الأقارب والأصدقاء، على أصوات الأغاني التراثية وظريف الطول، دون كوشة أو زينة، كانت دموع الحضور لا تتوقف ما بين فرحة وغصّة".
حرب على الذاكرة
بدوره، يقول عبد الكريم قاسم، وهو باحث في الدراسات التاريخية، لرصيف22: "لم تستهدف إسرائيل البشر فحسب، بل امتدت نيرانها إلى طقوس الحياة المجتمعية في غزة، وعلى رأسها طقوس الزواج، التي تمثّل ركيزةً من ركائز الثقافة الفلسطينية".
أصرّت ميرا أن ترتدي فستانها الأبيض متحدّية القصف، وذهبت إلى صالون التجميل لتتزيّن كما كانت تحلم. كما أصّر عريسها فؤاد أن يرتدي بدلة مستعارة. لكن جلسة التصوير لم تستمر سوى 30 دقيقة، وتمت تحت هدير الطائرات الإسرائيلية. إلا أنهما تمكنا من أن يحفظا هذا اليوم كذكرى جميلة لا تمحوها الحرب
ويشير قاسم إلى أنّ الزفاف في غزة ليس مجرد مناسبة اجتماعية، بل فعل جماعي تُحييه أغانٍ وتراث وذاكرة تتناقلها الأجيال، من الدحية إلى الزفة والحنّة.
ويوضح الباحث: "مع قصف القاعات وتهجير العائلات، أصبحت هذه الطقوس مهددةً بالغياب، لا عن الوجدان فقط، بل عن الواقع أيضاً".
ويؤكد على أنّ اغتيال مظاهر الفرح هو في حقيقته اغتيال للهوية، فالأعراس الفلسطينية لطالما كانت شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية والتمسك بالحياة. لكن حين تُقصف البيوت، وتُشرّد الأسر، يصعب تخيّل زفاف بلا جدّة، بلا خال، وبلا بيت يحتضن العروس، آملا في أن تبقى الثقافة ولا تموت. "الفرح مؤجّل وليس مغيّباً"، يقول.
وعن أبرز طقوس الأفراح التي كانت تشتهر بها غزة، وغيّبتها الحرب، يقول عبد الكريم، إنها تشمل تزيين بيت أهل العريس قبل الفرح بأيام، ومشاركة النسوة في إعداد أكلة السماقية لتقديمها وجبة عشاء للحضور ليلة سهرة العريس (الحنّة) التي تسبق الفرح بيوم.
وأيضاً، في الليلة ذاتها تكون حنّة العروس، التي ترتدي فيها الثوب المطرز، وسط البنات، وتزيّن يديها بالحنّاء على ضوء الشموع وأغاني التراث، وكذلك حمّام العريس، بمشاركة أصدقائه يوم الفرحة الكبرى، بعد تناول الحضور ولائم الغداء، ثم تنطلق بعدها زفّة الفدعوس (الطبل) التي يحييها أصحاب العريس.
أما يوم الأخذ (يوم الطلعة)، فيأخذ العريس عروسه من منزلها وهو ذاته يوم الفرح، لينطلق موكب العرسان بالمركبات، والطبل، والزغاريد، إلى قاعة الأفراح.
في قلب الخراب، لا تزال العرائس الفلسطينيات يمشين بثياب الأمهات، تحت سماء "تزنّ" فيها الطائرات.
تُستبدل الزفّة بالمشي على الأقدام، ويصير المهر إشعار تحويل بنكي، والفرح فعلاً مسروقاً لكن ليس مغلوباً.
هذه ليست مجرد حفلات زفاف ناقصة، بل وثائق حيّة عن عناد الحياة، وقدرة الغزيين على حبّ الحياة وسط الجنازات. فحين تُقصف القاعات وتُهدم البيوت، يبقى الزفاف الفلسطيني فعلاً رمزياً بامتياز... لا لتكوين عائلة فحسب، بل لإعادة قول ما تقوله غزّة دائماً: الفرح لا يُقصف، بل يؤجَّل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.