طالما أنّ حرب الإبادة في غزة لا تتوقف، فستستمر المفاجآت وتزداد الغرائب في حياة الفلسطينيين الذين يخضعون مجبرين لأقسى الظروف اللاإنسانية.
بعد اقتراب الحرب من عامها الثاني، أصبح الإنسان الغزّي حقل تجارب، وأصبحت غزة مربعاً مأساوياً للابتكار من أجل العيش والنجاة من "لعبة الكبار".
لقد حوّلت الضغوطات الرهيبة الإنسان الغزّي إلى هارب دائم من أشكال المنطق كافة، لا يتعامل بالقوانين التي صنّفها العالم على أنها تعطي الحق للإنسان، بل كفر بها، وانطلق إلى عالم الفوضى من أجل البقاء والنجاة.
لم تعد المشقّة في غزّة من الموت وحده، أو من النزوح والفقد والغلاء والمراهنات السياسية، فالمشقّة في غزة صارت من البقاء.
ومن ابتكارات البقاء في غزة، بيع البول.
لم أتوقع أن أكتب يوماً عن هذا الشيء، لكن هذه حقيقة وليست "كليشيه" للجذب والتشويق.
تقوم سيدات حوامل في غزة ببيع عيّنة البول الخاص بهنّ، بقيمة ثلاثين دولاراً أمريكياً. لكن ما السبب؟
لماذا تقوم امرأة في غزّة بشراء عيّنة بول من امرأة أخرى؟
"من ابتكارات البقاء في غزة، بيع البول. لم أتوقع أن أكتب يوماً عن هذا الشيء، لكن هذه حقيقة وليست 'كليشيه' للجذب والتشويق. تقوم سيدات حوامل في غزة ببيع عيّنة البول الخاص بهنّ، بقيمة ثلاثين دولاراً أمريكياً. لكن ما السبب؟"
بروتوكول "مواك"
بحسب ما قالت موظفة في إحدى المنظمات الدولية لرصيف22 (فضّلت عدم الكشف عن اسمها لأنّ التعليمات تمنعهم من التصريح)، فإنّ النظام المُتّبع لتحديد من تحصل على المكمّلات الغذائية يعاني من جمود وعدم دقّة. يُعرف هذا النظام باسم المواك (MUAC)، ويعتمد على قياس محيط الذراع. إذا كان أقلّ من 230 ملم، تُصنّف المرأة على أنها تعاني من سوء تغذية، وتحصل على المكمّلات!
لكن الحقيقة، كما تقول الموظفة، أكثر تعقيداً. هناك نساء نحيفات جدّاً، يُظهر "مواك" لديهن رقماً أقلّ من 230، لكنهنّ لسن حوامل، وتالياً لا يحصلن على المكمّلات. في المقابل، هناك نساء حوامل، مرهقات، تبدو عليهنّ علامات سوء التغذية الشديدة، لكن محيط ذراعهنّ يتجاوز الـ230، وتالياً يُرفض منحهنّ المكملات.
وبحسب ما تقول: "نرى سيدات يجلسن ساعات طويلةً بلا طعام، ينتظرن دورهنّ، وبعضهنّ يدخلن المخاض بلا وجبة غذاء واحدة، ومع ذلك يُرفض طلبهنّ لأنّ قياس الذراع لا يخبر الحاسوب بأنهنّ جائعات".
في مجاعة الـ2011 في الصومال، اتُّبع بروتوكول الـ"مواك" نفسه في تصنيفات سوء التغذية لدى الأطفال. الكثير منهم، بالرغم من ظهور علامات سوء التغذية، مُنعوا من الحصول على مكمّلات غذائية، وبعد حين ماتوا، وتحولوا إلى ضحايا البروتوكولات الدولية البغيضة. وقد بادرت الكثير من النساء إلى بيع حليب الثدي، لسيدات أخريات توقفت أجسادهنّ عن إنتاج الحليب، بسبب سوء التغذية. فهل صارت غزّة صومال ثانية؟
إنّ اقتراب شبح التجربة الصومالية من غزة ليس مجرد مجاز لغوي أو تهويل، فهناك سيدات في غزة لجأن إلى إرضاع أطفالهنّ المولودين حديثاً دقيق القمح بالببرونة، بسبب سوء التغذية الجسدية، وعدم قدرتهنّ على ضخ الحليب من أثدائهنّ.
مواجهة النار
في الحقيقة، لا تبيع حوامل غزّة بولهنّ، لأنّ تلك تُعدّ مهنةً جميلةً أو مربحةً، أو لأنهن يسعين إلى خداع المنظمات الدولية، بل لأنّ النظام المتّبع في غزة غير عادل ومجحف في حق الجميع، ولأنهنّ أيضاً يسعين للبقاء، في وقت وصلت فيه تكلفة الحياة لعائلة مكوّنة من أربعة أشخاص في غزّة يومياً إلى مئة دولار، في الحد الأدنى. ولا تجد المرأة الغذاء لها أو لأطفالها، في ظلّ عدم توافر فرص العمل في غزّة بأي شكل من الأشكال.
ما تبقّى من المهن في غزة حالياً هي تجارة بضائع المساعدات، والتي يعمل فيها من يمتلكون رؤوس الأموال، وتالياً معظم سكان غزة بلا عمل، ينتظرون المساعدات والطرود الغذائية والمكملات الإنسانية بفارغ الصبر، أو يسقطون في فخ التجويع وسوء التغذية الحادّ، وهو ما ينعكس ببالغ السلبية على النساء.
تنهش الأيام القاسية سيدات غزّة، تسقطهنّ في مستقنعات من البؤس والجوع والهزال.
تعاني السيدات من مسؤوليات مرعبة داخل الخيام، بالتعامل اليومي مع الخشب المحترق من أجل طهي المعكرونة أو العدس لأطفالهنّ، فيواجهن النار من الأرض ومن السماء ومن داخلهنّ.
وفيما لا تحصل المرأة الحامل على الغذاء يكون عليها الإيفاء بالتزاماتها الكاملة تجاه العائلة؛ تطبخ وتنظّف وتتابع علاج أطفالها وتتحمّل آلام الحمل وإرهاقه. لكن كيف يمكن أن يتم ذلك في ظل الافتقار إلى التغذية السليمة، أليس من العادل أن تحصل جميع النساء في غزّة على تلك المكمّلات دون أي قيود أو فحوصات لعينة؟
منذ مطلع آذار/ مارس الماضي، لم تحصل أجساد الغزّيين على تغذية مناسبة، بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي دخول البضائع إلى غزة. قد تمرّ الكلمة على القارئ كمجرد كلمة، لكنها في غزة تجربة تجويع قاسية، تحرم الجسد من الاتزان، والقدرة على ممارسة أي نشاط بطريقة طبيعية.
"لا تبيع حوامل غزّة بولهنّ، لأنّ تلك تُعدّ مهنةً جميلةً أو مربحةً، بل لأنّ النظام المتّبع في غزة غير عادل ومجحف في حق الجميع، ولأنهنّ أيضاً يسعين للبقاء، في وقت وصلت فيه تكلفة الحياة لعائلة مكوّنة من 4 أشخاص يومياً إلى مئة دولار، في الحد الأدنى"
حصلت من موظفة "أطباء بلا حدود"، على معلومات تفيد بأنّ هناك سيدات حوامل في غزة يمرّ عليهن يوم كامل ويومان دون أي قدرة على الحصول على الغذاء، لأنه بكل بساطة غير متوافر.
بل إن هناك حوامل يذهبن للولادة ويجلسن في بهو المشفى لساعات طويلة في انتظار حدوث طلق الحمل، وفي كثير من الأحيان يسقطن على الأرض، فقد أتين للولادة جائعات هامدات، يعانين من الجوع وسوء التغذية، ويُتركن دون أن يحصلن على المكملات الغذائية اللازمة، وبلا أي رأفة بحالهنّ.
لقد عاد قانون داروين إلى الواجهة مرةً أخرى؛ البقاء للأقوى. بالفعل في غزة يسود قانون الانتخاب الطبيعي، وهو الميزان الذي يحدد بقاء شخص ونهاية آخر. يعيش من يستطيع المطاحنة والتحايل والقتال من أجل الحصول على طرد غذائي أو كيس طحين، ويعيش من يسرق ويقتل ويأكل لقمته مغمّسةً بالدم، ويموت من ينتظر أن يحصل على طرد غذائي بالعدل والتوزيع الشفاف. وبالطبع يحدث ذلك لأنّ إسرائيل وأمريكا ترفضان إيقاف الحرب، أو حتى توكيل الأمم المتحدة بتوزيع الطرود الغذائية كما في السابق، وفقاً لنظام يضمن وصول المساعدات إلى جميع السكان.
لا تريد الشعوب والأنظمة بعد أن تصدّق أنّ هذا يحدث على الكوكب، مع أناس عاديين مثلهم، وليسوا من فئة أخرى من الخلق.
كيف وصلنا إلى هنا؟
إنّ موت أكثر من 400 فلسطيني خلال الشهر الماضي، من بينهنّ سيدات، من أجل الحصول على المساعدات، يُعدّ كارثةً أخلاقيةً تطال جميع سكان العالم.
يخرج الرجال والنساء للذهاب إلى المناطق الحدودية حيث نقاط التوزيع، وتحمّل الذل والإهانة وتأنيب الضمير، من أجل اقتناص طرد غذائي أو كيس طحين، في مشهد يشبه حجّ البقاء، ويصدّر للعالم انكسار أهل غزة، وزحفهم نحو هلاكهم من أجل الحصول على الطعام. هذا هو نتاج لبّ العقل البشري الحديث المتحضر، وفنّه في التخطيط، من أجل إذلال الناس ورميهم إلى الجحيم.
إجبار الناس على الجوع والتحايل أو بيع البول والجسد والأعضاء، وصمة عار وفضيحة أخلاقية لا يمكن أن ينساهما التاريخ، ومهما تكثفت تلك الشرور ومن أيدٍ مختلفة، سيكون لغزّة يوم آخر مضيء، ولن يستطيع مهندسو التجويع محو جرائمهم من السجلّات والصور، ولن تتحول الحقيقة إلى غبار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.