الطحين الذي أخرجنا من منازلنا بعد منتصف الليل

الطحين الذي أخرجنا من منازلنا بعد منتصف الليل

مدونة

الخميس 19 يونيو 202510:26 ص

بمجرد أن تدخل العتمة إلى حياة الناس داخل غزّة، يكون من الصعب أن يتحرك أحدهم، فالخطر يزداد، ويصبح أي متحرك هدفاً للطائرات الحربية الإسرائيلية، خاصةً "الكواد كابتر"، حتى أننا نتجنّب أن نطلّ من نوافذ المنازل. 

الليل في غزة طوال حرب الإبادة أكثر رعباً، خاصةً في ظل انقطاع كامل للكهرباء منذ عامين، وانعدام وسائل المواصلات، فلا يجرؤ أيّ امرئ على مخالفة هذا النظام، حفاظاً على حياته. 

غزة المحترقة، والمهدّمة بأهلها المهجّرين، يخبّئ سكانها حزنهم في الليل داخل البيوت المقصوفة جزئياً، أو الخيام البالية التي أهلكتها الشمس. 

الجميع هنا يخلد إلى النوم في وقت مبكر، قهراً، وإحساساً بانتهاء مهمة الحياة داخل الجسد، واستعداداً ليوم جديد من المعاناة، من التحطيب إلى طهي الطعام فالبحث عن الماء الملوّث لسدّ رمق الأطفال والكبار، والمشاوير المهلكة للبحث عن الطحين الذي يُحرم منه الجميع هنا، بفعل الحصار الإسرائيلي البشع، البادئ منذ شهر آذار/ مارس الماضي، فلا قمحة دخلت القطاع حتى وقت قريب. 

بدأ الطحين يدخل، لكنه لا يصل إلى الناس. يتمّ "دلقه" عبر الشاحنات المسيّرة بتعليمات الجيش الإسرائيلي، في أماكن نائية، في الغالب في وسط قطاع غزة وجنوبه.

حرب التجويع اللاأخلاقية طالت جميع سكان القطاع، وصار على من يريد الحصول على الطحين أن يخرج إلى تلك المناطق الخطرة، ليهدر دمه، أو أن يحصل عليه بدفع 30 دولاراً أمريكياً للكيلو الواحد. 

حصة الشمال من الطحين كانت صفراً، حتى أيام قليلة مضت. 

جرى الجائعون بطريقة هستيرية؛ منهم من خرج بملابسه الداخلية، ومنهم من خرج بلا حذاء، ومعظمهم يجرّون نومهم معهم، ويلحقون بالناس أينما اتجهوا. 


ضجيج

في الثانية بعد منتصف الليل، أفقت من النوم على صوت ضجيج تحت منزلي شمالي مدينة غزة. كان الصوت يتعالى، وسمعت صراخ الناس. ظننت أنّ ذلك حلم مقلق، لكنني حين غادرت سريري باتجاه النافذة، رأيت مئات الأشخاص يجرون باتجاه منطقة التوام شمالي المدينة. 

عرفت من تبادل الأحاديث العاجلة بأنّ هناك شاحنات طحين دخلت من معبر زيكيم شمالي القطاع، وتم وضعها في منطقة التوام وبرج الأندلس، والناس يهرعون لاقتناص الذهب الأبيض، أملاً في إطعام أطفالهم الجوعى، إذ لم يبقَ في أيّ بيت غزّي هنا ما يسدّ جوع أهله. 

عدت إلى منزلي حزيناً، إذ لم أستطع أن أنقذ عائلتي من الجوع، ولم أحسن التعامل في صراع البقاء.

جرى الجائعون بطريقة هستيرية؛ منهم من خرج بملابسه الداخلية، ومنهم من خرج بلا حذاء، ومعظمهم يجرّون نومهم معهم، ويلحقون بالناس أينما اتجهوا. 

نزلت لأرى ما يحدث، بلا نيّة للذهاب، فلا أقوى على تلك المواجهات ولا العراكات التي تحدث، من أجل الاستيلاء على كيس طحين. 

رويداً رويداً وجدت نفسي أنجرّ مع الجموع، لاهثاً نصف نائم، ألحق السيل أينما يمضى. 

نجري جميعاً وفي المقابل أناس يجرون في الاتجاه المعاكس، يحملون أكياس الطحين، كل واحد منهم يحتضن كيسه كأنّه طفله الأول، يمضي بوجه مبتسم، مثل من ضَمنَ الحياة إلى الأبد. 

كنت أمشي قليلاً، وأجري قليلاً، خجلاً مما أفعل، فلم يحدث أن خرجت لاستلام طرد غذائي من قبل. حتى "طرود" وكالة الغوث "الأونروا"، لم أذهب لاستلامها من قبل، لاعتقادي بأنها طريقة لترويض ثورة الجمهور على الجوع، وعلى سلب الأرض وتهجير أهلها منذ عام 1948.

في أثناء جريي في العتمة الحالكة، بين آلاف الناس، صار جسدي يصطدم بأكتاف المئات الذين يجرون في مشهد تخيّلته يوم الحشر، فلا مسافات فارغةً على امتداد الشارع، ورحت أتساءل: أين ذهب خوفي من الطائرات؟ كيف خرجت في هذا التوقيت وكسرت زجاجتي الوهمية التي أضعها حول دمي طوال الليل، هارباً من الموت؟ 

لماذا أنا هنا، أنا الذي لم أخطُ خطوةً واحدةً سابقاً باتجاه أي مساعدة أياً كانت؟ 

الأكياس النايلونية البيضاء التي تحمل الطحين، هي الشيء الوحيد المضيء في المكان، جنوب برج الأندلس. هناك بعد مئة متر تقريباً، إطلالة للدبابات وهي تستعد لالتهام أي جسد متحرك. 

كيف تجرّأنا جميعاً على الخوف في فجر ذلك اليوم؟ 

في أثناء جريي في العتمة الحالكة، بين آلاف الناس، صار جسدي يصطدم بأكتاف المئات الذين يجرون في مشهد تخيّلته يوم الحشر، فلا مسافات فارغةً على امتداد الشارع، ورحت أتساءل: أين ذهب خوفي من الطائرات؟ كيف خرجت في هذا التوقيت وكسرت زجاجتي الوهمية التي أضعها حول دمي طوال الليل، هارباً من الموت؟ 


دافع الحياة

شعرت بأنّ خروجي باتجاه الشاحنات، نبع من دافع الحياة ذاته، فلديّ عائلة وأطفال يتعرضون للتجويع الممنهج والحرمان القسري، على يد عدوٍّ لا يرحم، وعالم صامت على الجرم، وهذا يجعل أي قيمة أضعها في خزنتي الصغيرة قابلةً للهدر والاستغناء. القيم في الحرب لا تطعم المجوّعين، ولا تملأ بطونهم. 

مرةً أخرى وأنا أجري، شعرت بالخزي، وصرت أتخيل نفسي مهرولاً في الاتجاه الآخر، عائداً إلى المنزل، لأستعيد القيمة التي تمسكت بها لعقود. ذلك في الخيال، لكن في الواقع كنت أجري نحو شاحنات الطحين. 

تقدمت أكثر فأكثر. الطريق طويل، والشارع وعر جداً بفعل تخريب الدبابات بنيته التحتية خلال الاجتياح، وما من طوبة لم ألحظها إلا اعترضت طريقي، وضربت طرف إصبع قدمي بقوة.

صرت أتألم لكن لا وقت للتوقف، أصلاً لو توقفت سيتم دفعي وإسقاطي أرضاً بفعل السيل الجماهيري الذي يتبعني، ومن يسقط في تلك الحالة لا أحد يلتفت إليه. ألم أقُل لكم إنه يوم الحشر؟ 

الغريب أنّ في السيل المعاكس من الناس، كانت هنالك مئات السيدات يرتدين ثوب الصلاة، الزيّ الرسمي للنازحات الغزّيات الآن. كل واحدة منهنّ كانت تحمل كيس طحين. ربما فكرتي عنهنّ هي الغريبة الآن، فالمرأة الغزّية في حرب الإبادة فعلت كل شيء: صمدت وتحدّت وحملت وعملت. كانت بعضلات رجل وصبر الخنساء. 

أخبرتني إحداهنّ أنّ الطحين إلى الأمام قليلاً ملقى على الأرض، وقالت لي: تقدّم يا أخي، أسرع. تكررت هذه الجملة من أكثر من شخص يجري قبالتي، مع أنني لم أسأل أحداً، كنت أتقدّم ولا أجد الطحين، ولا أجد الأرض. كل ما في الأمر أنّ أناساً يجرون دون هدف واضح. 

شعرت بعد قليل بأنّ ما يقولونه ليس إلا لمنعي ومنع غيري من مهاجمتهم وسلب الطحين منهم، إنها حيلة للنجاة من بلطجيّي البضائع المنتشرين في غزّة الآن. 

تقدمت أكثر، واقتربت من الوصول إلى برج الأندلس المدمّر. رأيت رجلاً ممدداً على الطريق، يصرخ ويتألم. تقدّمت منه فوجدت قدمه مدماةً، وأخبرني من حوله بأنه سقط تحت عجلة الشاحنة بسبب التدافع، إبّان تنزيل الطحين منها. تشوّهت قدم الرجل من أجل الإتيان بالطحين لأطفاله. 

كنت ألعن العالم كله وأنا أرى ذلك المشهد. حاولت مساعدة الرجل، وبقيت لدقيقتين أُبعد الناس عنه، حتى لا يفرموه، تحت أقدامهم، من شدّة التدافع. كدت أسقط بجانبه أكثر من مرة، لكنني نجوت، واستلمته وحدة مسعفين ميدانية، وأكملت طريقي. 

الغريب أنّ في السيل المعاكس من الناس، كانت هنالك مئات السيدات يرتدين ثوب الصلاة، الزيّ الرسمي للنازحات الغزّيات الآن. كل واحدة منهنّ كانت تحمل كيس طحين. ربما فكرتي عنهنّ هي الغريبة الآن، فالمرأة الغزّية في حرب الإبادة فعلت كل شيء: صمدت وتحدّت وحملت وعملت. كانت بعضلات رجل وصبر الخنساء. 


مطاحنة

وصلت أخيراً إلى قبالة الشاحنة، وبقيت أنظر إليها: كانت مصفّحةً بشبك حديدي على زجاجها، كأنها شاحنة حربية.

صعد المئات على متنها لنيل كيس الطحين. الجميع يتدافع، ويضرب بعضه بعضاً. كانوا يصرخون بضراوة، معظمهم يحملون الدبسات أو الأسلحة، كل واحد يتحضر للآخر؛ لو نال منه قمحةً، فسيتحول إلى وحش في الحال. 

رأيت كيف يضرب الرجل الآخر، وكيف يشير الآخر بالآلة البيضاء في وجه الثاني، رأيت الجوع في عيون الناس، وقد تحولت قلوبهم إلى حجارة من شدّة البؤس والمنع. 

وقفت أتأمل بألمٍ ما يحدث، وكررت السؤال: لماذا أتيت إلى هنا؟ ورحت أنظر إلى السماء. "الكواد كابتر" تملأ المكان، وأنا أقف تحت الموت بكل ما للكلمة من معنى. 

بعد قليل رأيت شخصاً يسقط من أعلى الشاحنة، بعد دفعه من آخر. سقط على ظهره وراح يتألم ويصرخ، لكنه لم يفلت كيس الطحين، وقال لهم: اقتلوني… لن أتركه. 

شعرت بثقل في أقدامي، ورغبة ملحة في المغادرة، وأكدت لنفسي بأنني لست قادراً على مقارعة أولئك. نعم أريد الطحين، لكن لا أريد أن أسقط تحت الأقدام ويتم هرسي. 

عدت إلى منزلي حزيناً، إذ لم أستطع أن أنقذ عائلتي من الجوع، ولم أحسن التعامل في صراع البقاء. بالطبع لم أكن وحدي، فمن بين أكثر من مئتي ألف شخص، حصل ألف منهم على الطحين، وعاد الباقون، وأنا منهم، بالأسئلة والحزن. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image