لم يكن بنيامين نتنياهو في يوم من الأيام حبيس الجغرافيا، ولا مكبّلاً باعتبارات السيادة. هذا الرجل، الذي راكم عقوداً من السطوة السياسية على ظهر الرعب الأمني، لم يحتَج يوماً إلى تصريح عبور، ولا إلى تفويض أممي. وصل إلى قلب طهران دون أن تطأ قدماه ترابها. نفّذ اغتيالاً نوعياً في دبي وسط حماية أمنية فائقة، وأسقط قادةً في دمشق بينما كانت صواريخ "الممانعة" نائمةً تحت الأنقاض. فكيف يقال بعد ذلك كله إنّ نتنياهو "عاجز" عن استعادة أسراه في غزة؟
غزّة التي لا تشبه العواصم المغلقة، بل تشبه كتاباً مفتوحاً بين يديه، يقرأه من السماء ويراجعه من الأرض.
غزة التي تحاصرها طائرات الاستطلاع، وتخترقها الإشارات، وتراقب كل شوارعها، وأنفاقها، ونبضها السكاني، لا تخفي شيئاً عن عين. تعرف كيف تزرع السّم في مداخل الأجهزة، وتلتقط الإحداثيات من بين همسات الهواء.
هل تعرف إسرائيل مكان رهائنها في غزة؟
ليس احتمالاً ضئيلاً أنّ إسرائيل تعرف موقع أسراها في غزة، وتعرف الطريق إليهم، وربما تعرف حتى لون الحائط الذي يستند إليه أحدهم؛ لكنها لا تتحرك، لا لأنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد. فوجود أولئك في غزة لم يعد مأزقاً، بل فرصة تُدار بعناية. الجنود ليسوا رهائن كما يصوَّرون في الإعلام، بل أوراق ضغط محفوظة في خزانة نتنياهو، يُخرجها كلما احتاج إلى إذن جديد لارتكاب مجزرة، أو لتأجيل ضغوط داخلية، أو لتأليب الرأي العام خلفه.
وبناءً عليه، بات من السذاجة أن نتعامل مع المشهد كأنّ المسألة تكتيكية. بينما هي في العمق سياسية خالصة: نتنياهو لا يسعى إلى استعادة جنوده، بل يسعى إلى استثمار بقائهم في الأسر. وهنا تبدأ المأساة.
الخياران على الطاولة… وخيار الدم أطول عمراً
حين يحتفظ نتنياهو بجنوده داخل غزة، لا يفعل ذلك عن ضعف، بل عن وعي. هو لا ينتظر فرصةً عسكريةً لاستعادتهم، بل ينتظر لحظةً سياسيةً يقرر فيها التخلي عنهم مقابل ثمن أعلى. الأسير، في حساباته، ليس إنساناً يجب إنقاذه، بل أداة يمكن توظيفها لتوسيع المعركة، أو لتأجيل استحقاق، أو لضرب ما تبقّى من توازن. فعلى طاولته، وضمن قراءته الخاصة للواقع، لا يوجد سوى خيارين:
الخيار الأول يتمثل في أن يُنهي ما تبقّى من الحالة المسلّحة لحماس في غزة، ويستعيد الأسرى في عملية حاسمة وشاملة. لكن هذا الخيار مكلف سياسياً، عسكرياً، وأمنياً. يتطلب انخراطاً ميدانياً كثيفاً، ويعني نهاية حالة "الخصم القابل للضبط"، وربما يُدخل المنطقة في معادلة جديدة لا يتحكم هو بتفاصيلها.
الخيار الثاني (وهو الذي اختاره) أكثر دهاءً؛ أن يُبقي الأسرى في مكانهم، ويُبقي حماس على حالتها، ويستثمر الورقة لأطول وقت ممكن. بهذا الخيار، يحوّل مأزق الجنود إلى غطاء دائم لحرب مفتوحة، لا تنتهي، ولا تحاسب، تبقي غزة تحت النار، وتبقي العالم مرتبكاً، وتبقي الرواية الصهيونية مقبولةً في عواصم القرار.
وجود الرهائن في غزة لم يعد مأزقاً، بل فرصة تُدار بعناية من قبل الحكومة الإسرائيلية، فقد تحوّلت من ملف إنساني إلى أداة سياسية بيد نتنياهو، يستخدمها كغطاء دائم لاستمرار المجازر، وتأجيل الأزمات الداخلية، وتبرير الحرب المفتوحة، لا لاستعادة الجنود أو إنهاء القتال
وهنا يتبدى ما هو أخطر؛ بقاء حماس، بشروطها الحالية، مصلحة إستراتيجية خالصة لنتنياهو، واستمرار الأسرى في يدها دون حراك، هو الركيزة التي بنيت عليها معادلة القتل المستمر بلا سقف.
وعليه فإنّ قرار نتنياهو بعدم التحرك لم يكن تقصيراً في الواجب، بل كان قراراً بهندسة جبهة طويلة الأمد، قائمة على الابتزاز والتضليل، عنوانها استعادة الأسرى، وغايتها تحقيق مشروع أكبر من الجنود الأسرى أنفسهم.
"حماس" وحدها تملك زر الإيقاف
في مشهد معقّد كما في غزة، يتداخل فيه الدم بالدعاية، والمأساة بالاستثمار السياسي، تبدو كل القوى عاجزةً عن كبح المشروع الإسرائيلي طويل الأمد، باستثناء جهة واحدة فقط: "حماس".
ليست واشنطن، ولا القاهرة، ولا الأمم المتحدة، من تملك مفاتيح تعطيل نتنياهو. ليس العالم، بكل قراراته ومؤسساته، هو من يستطيع نزع الذريعة من يد القاتل. إنها حماس وحدها، لأنها وحدها من تحتفظ بالورقة التي بُني عليها خطاب استكمال الحرب كله؛ الأسرى. فمن يمتلك الورقة، يمتلك الإمكانية لتغيير شكل الميدان. وحماس، برغم كل ما فاتها، لا تزال تملك القدرة على نزع الغطاء السياسي الذي يغطي به نتنياهو مجازره. لكنها لا تفعل. ليس لأنها غير قادرة، بل لأنها لا تريد أن تفعل ما لا يخدم وجودها السياسي.
فهي تدرك تماماً أنّ أيّ تحرّك في ملف الأسرى دون مكاسب مضمونة، قد يفسَّر على أنه تراجع، أو ضعف، أو تنازل. وتُدرك أيضاً أنّ الورقة لا تمنحها فقط نقاط تفاوض، بل تمنحها عنصراً أساسياً من عناصر شرعيتها أمام جمهورها وأمام ذاتها. لهذا، تفضّل الإبقاء على الوضع كما هو؛ أن تحتفظ بالورقة، ولو على حساب الدم. وأن تبقى داخل المعادلة التي يفهمها العدو، وتُجيد إدارتها، بدل أن تخرج منها بمفاجأة قد تكلفها كثيراً من قواعد اللعبة التي بُنيت طوال السنوات الماضية.
هل فقدت الورقة قيمتها؟
لكن ما لا يبدو أنّ قيادة حماس تُدركه، أو تفضل تجاهله، هو أنّ إبقاء الورقة في مكانها لم يعد يحميها، بل يضرب ما تبقّى من الرواية الأخلاقية التي كانت تتمسك بها.
فالأسير الذي يُفترض أن يكون نقطة قوة، قد تحوّل إلى حجة تُستخدم لضرب المدنيين، لا للضغط على العدو. والورقة التي احتُفظ بها لليوم المناسب، باتت هي نفسها المبرر لغياب أي يوم مناسب في الأفق.
دخلت ورقة الأسرى في حالة من التجميد القاتل؛ فلا تُستخدم للضغط، ولا تُحوَّل إلى مشروع تفاوضي منتج، ولا تُبادر بها حماس إلا عند الحاجة التعبوية.
فإذا كانت إسرائيل تُجيد تسويق وجود الأسرى كذريعة أخلاقية لحرب بلا قانون، وحماس تُصرّ على الاحتفاظ بهم كورقة تفاوضية لا تُستخدم، فمن إذاً المتهم أمام شعب يُباد أحياؤه؟ ومن يتحمل كلفة كل يوم تتأخر فيه الخطوة التي يمكنها وحدها نقل المعركة من إبادة إلى مواجهة سياسية تُحرج المحتل أمام العالم بدل أن تبرر له جرائمه؟
في هذا كله، لا حاجة إلى اتهامٍ مباشر أو خطاب تخوين، بل يكفي توصيف بارد؛ الجهة الوحيدة القادرة على كسر المسار الحالي… اختارت ألا تفعل.
ورقة الأسرى… من يد المقاومة إلى خطاب المجزرة
في أي صراع عسكري غير متكافئ، تُعدّ ورقة الأسرى واحدةً من أثمن ما يمكن أن تمتلكه جهة تقاتل من موقع ضعف ميداني أو حصار سياسي. ورقة كهذه تُعدّ، في المفهوم الإستراتيجي، عنصراً لتعطيل الهجوم، أو فرض معادلة ردع، أو كسب تنازلات غير متاحة في موازين القوة التقليدية؛ لكن ما جرى مع حماس مختلف تماماً. فبدلاً من أن تستخدم الورقة كوسيلة هجوم سياسي أو تفاوض ضاغط، تم تحويلها إلى عنصر "احتفاظ طويل الأمد"، بلا مبادرة، بلا حراك، وبلا موعد محدد. وفي الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تبحث عن مبرر دائم يُتيح لها تمديد العمليات العسكرية، ظهرت لها هذه الورقة كهدية سياسية لا تُقدَّر بثمن؛ رهائن "بيد جهة مصنّفة إرهابية"، في منطقة تُدار خارج سلطة الدولة، في أجواء تتسم بالتهديد، وبلا سقف زمني للملف.
وهكذا، دخلت ورقة الأسرى في حالة من التجميد القاتل؛ لا تُستخدم للضغط الفعلي، ولا تُحوَّل إلى مشروع تفاوضي منتج، ولا تُبادر بها حماس إلا عند الحاجة التعبوية.
في هذا السياق، لم تعد الورقة ورقة قوة؛ بل أصبحت شماعةً تعلّق عليها إسرائيل مشاهد الحرب اليومية، وصورةً تُرفع عند كل مجزرة، لتُقال العبارة الجاهزة "أسرانا لا يزالون هناك". حتى الإعلام الغربي، الذي يُفترض به أن يُسائل إسرائيل، يجد نفسه محشوراً أمام رواية تُبرّر القصف العشوائي بـ"ضرورات تحرير الأسرى". وكلما طال بقاء الورقة بلا استخدام، ازدادت فاعليتها في خطاب العدو بدل فاعليتها في خطاب حماس.
والأخطر من كل هذا، أنّ تحويل الورقة إلى مجرد عنصر إستراتيجي بيد نتنياهو، جعلها مع الوقت جزءاً من بنية الشرعية الدولية لحرب إبادة مفتوحة: فلم يعد المشهد: غزة تُقصف، بل إسرائيل تبحث عن جنودها. بهذا الانقلاب الصامت، تحولت أداة المقاومة إلى درع حماية لآلة القتل. وصارت الورقة التي يُفترض أن تُهدد العدو، سلاحاً يُهدد به المدني الفلسطيني، ويصمت به المجتمع الدولي.
الصمت شريكاً في الجريمة
في لحظات تاريخية حاسمة، لا يكون الصمت مجرد موقف سلبي، بل يتحول إلى موقف فعال في دعم الجريمة. وفي غزّة، اليوم، لم يعد الصمت حول ملف الأسرى حياداً محسوباً، ولا مناورة تفاوضية، بل أصبح جزءاً مكوّناً من آلة الحرب ذاتها.
عدم تحريك ورقة الأسرى، برغم امتلاكها، وبرغم إدراك حساسيتها، لا يُقرأ دولياً على أنه تكتيك من حماس، بل يفسر عملياً على أنه إقرار ضمني باستمرار المعركة المفتوحة. وما دامت هذه الورقة غير مفعلة، فستبقى إسرائيل تلوح بها، وتُخرجها عند الحاجة، وتصوّر نفسها كدولة محاصَرة تبحث عن أبنائها في قلب منطقة تصفها بكونها خارجةً عن القانون.
هذا الصمت، من حيث لا تدري حماس أو تدري تماماً، يوفر لإسرائيل شرعيةً مستمرةً لعمليات القصف والقتل الجماعي. فكلما سُئلت عن أفعالها، أشارت إلى الأسرى. وكلما ارتفعت الأصوات في العالم مطالبةً بوقف المجازر، رفعت تل أبيب اللافتة القديمة "جنودنا في الأسر".
وهنا تتحول اللامبالاة إلى غطاء سياسي متين، يُعفي إسرائيل من الكثير من التبعات القانونية والأخلاقية. وحين يكون المبرر موجوداً، يكون العالم بكل تواطئه وجبنه مستعدّاً لغض الطرف مرةً أخرى.
والمفارقة العميقة أنّ ورقةً كان يُفترض أن تمنح الفلسطينيين وزناً تفاوضياً، وحمايةً سياسيةً، ومجالاً للمناورة، أصبحت تحت الصمت والإدارة الحذرة المدخل الأوسع لشرعنة الحرب عليهم. الصمت هنا لم يعد سكوتاً… بل صار خطاباً ضمنياً يُدار عبر الامتناع عن الفعل. والامتناع، حين يكون بيد من يملك الفعل، يتحول إلى قرار بفتح الطريق أمام استمرار الكارثة.
ومع مرور الوقت، لم يعد أحد يسأل إسرائيل: لماذا تقصف؟
بل باتوا يسألون حماس: لماذا لا تُغلق هذا الباب؟
المقاومة من مشروع تحرير إلى إدارة حصار
في البدايات، كانت المقاومة وعداً؛ وعداً بالخلاص، وبالعودة، وبأن الكفاح المسلّح ليس غايةً، بل طريق نحو حياة كاملة. لكن في غزة اليوم، لم يعُد الوعد هو التحرير، بل النجاة اليومية تحت الحصار.
تحوّل المشروع من مقاومة الاحتلال إلى إدارة الحصار، من العمل على تفكيك المعادلة إلى الاعتياد على إدارتها، من الصراع مع العدو، إلى التكيف معه وفق قواعد اشتباك مضبوطة.
صارت "المقاومة" اليوم مفردةً غائمةً، تُستدعى في الشعارات، وتُغيّب في الخيارات. تُرفع عند التهديد الخارجي، وتُقمع داخلياً عند أي محاولة مساءلة أو تفكير نقدي.
الخطير في الأمر، أنّ حماس بوصفها الفاعل المركزي في القطاع لم تعد تتحرك على قاعدة مشروع تحريري متكامل، بل على قاعدة البقاء، وتثبيت السيطرة، والتحكم بما تبقّى من أدوات النفوذ في بيئة محطمة. فكل قرار، وكل موقف، وكل صمت، تُقرأ اليوم تحت منطق واحد: هل يخدم بقاء الحركة في الحكم؟ ولذلك، لا تحرك ورقة الأسرى، ولا تغلق أبواب الذرائع أمام الاحتلال، ولا تبادر إلى حلول تُنقذ الناس إن لم تكن مضمونةً سياسياً على مستوى الداخل. فما لا يخدم البقاء، لا يُعدّ أولوية… حتى لو كان يُنقذ الأرواح.
وهكذا، تحولت المقاومة من مشروع يتجاوز الحركة إلى حركة تبتلع المشروع. من مسار وطني مفتوح على الأفق، إلى سلطة تدير الألم، وتعيد تدويره، وتقننه، ما دام لا يُهدد استمراريتها.
تسليم ملف الأسرى لمنظمة التحرير أو لوسيط دولي، أو إعلان مبادرة إنسانية، أو حتى إطلاق سراح مشروط يُربك الحسابات، كانت كفيلةً لا بتحرير الجنود، بل بكشف وجه الحرب الحقيقي أمام المجتمع الدولي
المقاومة، كما يُفترض بها أن تكون، هي نقيض الاستقرار الزائف، هي مشروع صدام مع البنية القائمة، لا تسوية ضمنها. لكن ما يحدث اليوم هو العكس: تسوية غير معلنة مع واقع ميت، تدار تحت مسمى الصمود.
ما كان يجب أن يُفعل… ولماذا لم يُفعل؟
لو كانت النية السياسية متوافرةً، والقرار مستقلاً عن هاجس البقاء في الحكم، لكانت حماس اليوم قادرةً على خلخلة المشهد بالكامل بخطوة واحدة فقط؛ نزع الذريعة من يد نتنياهو. فبدل الإبقاء على ورقة الأسرى مجمدةً، كان يمكن، بل كان ينبغي، القيام بمبادرة سياسية جريئة تُفقد الاحتلال ذرائعه. لا تنازلاً، بل كخطوة تكتيكية محسوبة تُعيد تشكيل مشهد الصراع أمام العالم.
تسليم ملف الأسرى لمنظمة التحرير أو لوسيط دولي، أو إعلان مبادرة إنسانية، أو حتى إطلاق سراح مشروط يُربك الحسابات، كانت كفيلةً لا بتحرير الجنود، بل بكشف وجه الحرب الحقيقي أمام المجتمع الدولي.
في لحظة كهذه، تُصبح إسرائيل لا حماس هي الطرف المرفوض أخلاقياً، هي من تصرّ على الاستمرار في القتل برغم فقدان المبرر، هي من تتحول من "دولة تبحث عن جنودها"، إلى كيان يرتكب إبادةً دون حجة.
لكن هذا لم يحدث. لا لأنّ الظروف مستحيلة، بل لأنّ القرار السياسي مُقيّد داخل حسابات ضيقة. فكل ما لا يمرّر عبر قنوات التنظيم، وكل ما قد يُفهم كخروج عن منطق الإمساك والسيطرة، يُعدّ مخاطرةً تهدد تماسك القيادة، حتى لو كان ذلك السبيل الوحيد لتعطيل القاتل. وبهذا، انتصرت لغة الاحتفاظ على لغة المبادرة، وانتصرت حسابات الداخل على دماء الخارج، وانتصرت الشرعية السلطوية على المسؤولية التاريخية. ومع كل يوم يمرّ، يتحول ما لم يُفعل، إلى شاهد ضد من كان قادراً على الفعل ولم يفعل.
الذريعة… هي المجزرة المؤجلة
لم تكن المجازر في غزة نتاج قرار مفاجئ، بل كانت تتويجاً لمسار طويل بُني على مهل؛ ذريعة تُحفظ، ورقة لا تُستخدم، وحركة تفضّل الصمت على المخاطرة، وعدو ينتظر اللحظة التي يُطلق فيها آلة الدمار، فيجد الغطاء جاهزاً.
نتنياهو لا يُخفي نواياه. هو يُدير حربه على غزة بالمجاهرة لا بالتورية: قصف، وحصار، وتجويع، وهدم للبنى، ومحو للذاكرة والهوية. لكن الأهم من كل ذلك: مشروع إستراتيجي لهدف واحد، تصفية القضية الفلسطينية من بوابة غزة، وتحويل القطاع إلى عبء سكاني قابل للتفريغ.
وهذا المشروع كان سيواجه مقاومةً شرسةً من العالم، لو لم تكن في يد نتنياهو ذريعة الأسرى التي تخرس كل مساءلة. وما دامت الذريعة حيّةً، فالمجزرة مستمرة.
ومَن يملك قدرة نزع الذريعة ولا يفعل، ليس فقط شريكاً في القتل لكنه شريك في استمراريته أيضاً. فالدم لا يُوقفه البيان، ولا تُخفّف من سطوته خطب النوايا الحسنة. يُوقفه قرار سياسي واضح وجريء؛ ألا نمنح القاتل حجةً، وأن نُفقده سلاحه الذي لا يُرى، وأن نمنع عنه الغطاء الذي نُمسكه بأيدينا دون أن ندري كم يثقل أكتافنا.
في لحظات كهذه، ليس الخطر في أن يُباد شعب فحسب، بل في أن يُباد وهمُ القدرة على الفعل، وأن نستمر في الموت ونحن نظنّ أننا نقاوم.
وهذا تحديداً هو أكثر ما يُراهن عليه نتنياهو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.