صمت 48 ساعةً أعقبته بيانات شكلية... كيف تعاملت الحكومة المصرية مع حادث

صمت 48 ساعةً أعقبته بيانات شكلية... كيف تعاملت الحكومة المصرية مع حادث "فتيات العنب"؟

حياة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 1 يوليو 202520 دقيقة للقراءة

بينما كان النحيبُ يعلو ليصل إلى عنان السماء قهراً على فاجعة رحيل 19 فتاةً مصريةً في عُمر الزهور، أطلّ رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، متفاخراً بافتتاح أول مصنع أجهزة منزلية في مصر وإفريقيا تابع لشركة "BSH" المملوكة لمجموعة "بوش" الألمانية.

الحادث المفجع، المعروف إعلامياً بـ"حادثة فتيات العنب"، حوّل حلم "الرزق البسيط" إلى كابوس، على طرقات الشمال المصري، حين اندفعت شاحنة نقل ثقيلة بقوة نحو حافلة صغيرة (ميكروباص)، تحمل فتيات "عاملات باليومية في قطاف العنب"، غالبيتهنّ من القاصرات تتراوح أعمارهنّ بين 14 و22 عاماً، على الطريق الإقليمي في نطاق مركز أشمون في محافظة المنوفية في دلتا مصر، حيث كانت الفتيات قد غادرن منازلهنّ في قرية كفر السنابسة، متجهات نحو مكان عملهنّ في دلتا النيل على بعد 100 كيلومتر شمال القاهرة.

وفي مشهد مهيب تحول إلى قضية رأي عام داخل مصر، وحصد تعاطفاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي خارجها، خرجت جنازات الفتيات الـ19 "شهيدات لقمة العيش"، بشكل جماعي، في مأساة هزت أركان المجتمع المصري، وسلّطت الضوء على معاناة طبقة كادحة، تخاطر بحياتها يومياً.

وبحسب وسائل إعلام مصرية، فإنّ الفتيات كنّ يتقاضين مبلغ 130 جنيهاً مصرياً يومياً (نحو دولارين ونصف)، في الوقت الذي تكشف فيه الأرقام الرسمية، عن انخراط ما لا يقلّ عن 1.3 ملايين قاصر في شكل ما من أشكال عمالة الأطفال في مصر.

عزاء يستفزّ مشاعر أُسر الضحايا

وبينما كانت القلوب تعتصر حزناً وكمداً على الفتيات، وفضلاً عن موقف رئيس الحكومة الذي صدم كثيرين وقوبل بانتقادات واسعة، أقدم محافظ المنوفية، إبراهيم أبو ليمون، على تنظيم سرادق عزاء "فاره" يبدأ بسجادة حمراء لاستقبال "كبار المسؤولين"، في حين كان البسطاء من أهالي وأقارب الضحايا يفترشون "الحُصر"، في مشهد طبقي يضرب بكل البروتوكولات والمفاهيم الأخلاقية عَرض الحائط، ويشكل استفزازاً مباشراً ليس فقط لأهالي الفتيات، بل للمصريين عموماً.

أثار تجاهل الحكومة المصرية لحادث "فتيات العنب"، وتأخرها 48 ساعة في إصدار بيانات رسمية، غضباً شعبياً واسعاً، خاصةً مع ظهور رئيس الوزراء في افتتاح مصنع جديد دون أي إشارة للحادث، ما عكس فجوة عميقة بين الحكومة والشعب في أوقات الأزمات، وربما غياب الأرضية المشتركة في فهم الفقر والألم والقهر

وعلى الرغم من تقدّمه مستقبلي العزاء لاحقاً، إلا أنّ المحافظ أرسل في بداية الفاجعة سكرتيره، قبل أن يصل مستقلّاً سيارةً فارهةً، أثارت استياءً وغضباً واسعين، حيث اعتبر الكثيرون ذلك نوعاً من "الاستعراض" الذي يفتقر إلى الحسّ الاجتماعي والإنساني، فكيف يمكن لمحافظ أن يُبدي تضامنه بهذا النوع من الرفاهية، مع أسر ذهبت فتياتها في سبيل أجر يومي زهيد.

موقف حكومي صادم

ويرى البعض أنّ الحكومة غابت عن مشهد الحداد المصري، على رحيل 19 فتاةً في زهرة أعمارهنّ أُطلق عليهنّ "فتيات العنب". ففي الوقت الذي تصدّر فيه الحادث الأليم الذي وقع صباح يوم الجمعة 27 حزيران/ يونيو الماضي الأخبار، أطلّ رئيس الوزراء يوم السبت التالي في حفل افتتاح المصنع، مشيداً بكونه قد صُمّم وجهز وفقاً لأحدث المعايير والتقنيات؛ ليمثل بداية مرحلة فارقة في قطاع التصنيع الإفريقي، دون أن يُشير ولو بشكل هامشي إلى فاجعة حادث "فتيات العنب" اللواتي شيّعتهنّ مصر بأكملها في ليلة حزينة جداً، ما أثار موجةً من الانتقادات الواسعة والتساؤلات عن مستوى تواصل الحكومة مع الشعب والأحداث.

وزير الأوقاف المصري أسامة الأزهري، كان أول من قدّم التعازي الرسمية، بعد نحو 12 ساعةً على وقوع الحادث، إلا أنه تقدّم بها نيابةً عن وزارته والعاملين فيها، بعيداً عن الحكومة التي ظلّ المتحدث باسمها غائباً، بالإضافة إلى تأكيده على أهمية الوعي المروري والالتزام بقواعد المرور، منبّهاً إلى أنها "من صميم مقاصد الشرع الحنيف، لما فيها من حفظ الأنفس التي كرمها الله تعالى".

48 ساعةً من الصمت

"الخارجية الأردنية مشكورة قدّمت العزاء، وأنت لسه معزّتش"، بهذا التعليق الساخر، انتقد الإعلامي المصري عمرو أديب، غياب رئيس الحكومة عن تقديم التعازي في الفاجعة، حتى ظهر في صباح يوم الأحد 29 حزيران/ يونيو 2025، وعقب 48 ساعةً على الحادث.

عكست التغطية الإعلامية المحدودة للحادث واقع الهيمنة الحكومية على الإعلام المصري، الذي أصبح عاجزاً عن مساءلة المسؤولين.

ومع ظهوره أخيراً، أصدر رئيس الوزراء المصري بياناً حَمل توجيهات لوزرائه، بالعمل على إعفاء أسر الشهداء بشكل كامل من المصروفات الدراسية، وصرف راتب استثنائي لهذه الأسر المكلومة، بالإضافة إلى إطلاق أسماء الشهيدات الـ19 على المباني الحكومية والشوارع في قرية "كفر السنابسة" تخليداً لذكراهنّ.

بينما انطلقت الوزارات في إعلانات تقديم مبالغ تعويضية لأسر الضحايا، مع التأكيد بأنها تتجاوز النصف مليون جنيه مصري (نحو 100 ألف دولار).

التعامل الحكومي مع الفاجعة، وغياب التوضيحات المُنتظرة، وعدم ظهور المسؤولين في موقع الحادث، كل هذا كرّس حالة السخط الشعبي، مع تساؤلات عن آلية تفسير طريقة الحكومة في ظل حجم الحدث وجلله، والمبرر المعقول لصمت رئيس الحكومة ووزرائه ليومين كاملين.

حكومة بالتعيين!

لا يُبدي المفكر الاقتصادي المصري ووزير التضامن الاجتماعي والتموين الأسبق، جودة عبد الخالق، اندهاشه من طريقة تعامل الحكومة مع فاجعة "فتيات العنب"، فهو يرى أنّ الحكومة الحالية لا تشعر بأنها "مسؤولة ومَدِينة للشعب بوصولها إلى الكرسي"، خاصةً أنها تأتي بالتعيين، ولا تُفرز نتيجة انتخابات برلمانية حقيقية، تؤدي إلى فوز حزب مُعيّن بأغلبية المقاعد، ومن ثم تشكيل الوزارة، على غرار ما يحدث في العالم.

وبحسب حديثه إلى رصيف22، فهو يرى أنّ "غالبية الوزراء لا يتمتعون بالكفاءة أو القدر المناسب من التعليم الذي يؤهلهم لشغل المناصب الحالية، إلا على سبيل الاستثناء في حالات معدودة"، معتبراً أنّ ما صدر من الحكومة "مؤسف للغاية، ويجب ألا يمرّ مرور الكرام".

يشرح: "الحكومة تعاني قدراً مرتفعاً من البلادة السياسية وعدم المسؤولية"، في إشارة إلى ما أسماه "الطريقة الصادمة" التي تعامل بها مجلس الوزراء مع الفاجعة، عادّاً أنّ هناك نوعاً من "عدم الشفافية" يُحيط بملابسات الحادث، ومن الضروري أن يتم تشكيل جهة تحقيق مُستقلّة، وليست حكوميةً تنتهي إلى الرواية المُعتادة بإدانة السائق، باعتباره متعاطياً للمخدرات، وأنه السبب وراء الكارثة، وتنهي الأمر بمنطق "قدّر الله وما شاء فعل".

ويربط الوزير الأسبق، الحادثة بالبؤس الاقتصادي الذي تقبع فيه عائلات الفتيات، والناجم عن سياسات الحكومة الحالية، المسؤولة عن الحادثة، ولا سيما أنّ الطريق الذي وقع عليه الحادث يُسمّى "طريق الموت".

وزير النقل يتنصّل من المسؤولية

عقب الحادث، قرر نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصناعة والنقل المصري، كامل الوزير، قطع زيارته إلى تركيا؛ حيث كان يحضر فعاليات منتدى النقل العالمي في إسطنبول، وبعد عودته تفقّد الطريق الدائري الإقليمي -موقع الحادث- ومن ثم قام بتقديم التعزية لأسر الضحايا في نهاية البيان الذي نُشر على صفحة الوزارة الرسمية بعد أكثر من 48 ساعةً على الواقعة، مؤكداً في الوقت ذاته "عدم مسؤوليته" عنها، وعن حاجة الطريق إلى صيانة تتطلب مبلغ 50 مليار جنيه (نحو 1.2 مليار دولار).

ويستنكر عبد الخالق حديث وزير النقل المصري، بعدم مسؤولية وزارته عن الحادث، مؤكداً أنّ هذا الطريق يندرج في نطاق مسؤوليات واختصاصات وزارته.

بينما نبّه البرلماني المصري، عبد المنعم إمام، في أول اجتماع للمجلس عقب الحادثة، إلى أنّ الطريق الدائري الإقليمي كلّف موازنة الدولة المليارات لتشييده، كما أنه يحصّل من السيارات رسوم مرور الطريق، والتي من المُفترض أنها مُخصصة للإنفاق على صيانته وتطويره دورياً، مشيراً إلى أنّ "لجنة المواصلات والنقل في البرلمان ستعدّ تقريراً كاملاً عن الحادث، وستتم مناقشته الأسبوع المقبل بحضور وزير النقل"، وسط بيانات عاجلة تم تقديمها للحكومة للمطالبة بتشكيل لجنة تقصي حقائق في الحادث، ومحاسبة المسؤولين عن صيانة الطرق.

ويُعدّ الطريق الدائري الإقليمي، الذي يمتد لمسافة 400 كيلومتر ويحيط بالقاهرة الكبرى، ويربطها بمحافظات عدة، من بين أطول الطرق في منطقة الشرق الأوسط.

محافظ المنوفية ساهم أيضاً في مسلسل استفزاز المصريين، بعد تنظيمه سرادق عزاء فاخر بالسجاد الأحمر لاستقبال المسؤولين، مقابل افتراش أهالي الضحايا الأرض، ما أبرز فجوةً طبقيةً وأخلاقيةً كبرى، وأثار اتهامات للمسؤولين بالاستعراض وانعدام الحسّ الاجتماعي تجاه مأساة إنسانية راح ضحيتها فتيات صغيرات من أسر فقيرة

وفي الوقت الذي أصدرت فيه وزارة النقل بياناً، أكدت فيه إنفاق 225 مليار جنيه على الطرق (نحو 4.54 مليار دولار)، وتسجيل 95% زيادة في معدلات رصف الطرق في السنوات العشر الأخيرة، أظهرت نشرة حوادث السيارات والقطارات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تسجيل 76،362 إصابةً في حوادث الطرق لعام 2024، مقابل 71،016 عام 2023، بنسبة ارتفاع 7.5%، في حين كان أعلى عدد إصابات على مستوى المحافظات في محافظة الدقهلية بواقع 15،563 إصابة.

استهانة وتصريحات باردة

تصريحات وزير النقل، وتأكيده أنّ الحادث نجم عن تعاطي السائق للمخدرات، والقيادة بشكل متهور، واستنكاره حالة الهجوم التي طالته، ومساعي "تحميله المسؤولية"، دفعت للتساؤل بجدّية: كيف تتعامل الحكومة الحالية مع الشعب وأزماته؟

يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي، عمار علي حسن، أنّ الحكومة الحالية، تتعامل بنوع من "الاستهانة" مع الشعب -صاحب المال والسيادة والشرعية- بشكل ينمّ عن "عدم احتراف" لدى المسؤولين، ويؤكد حاجتهم إلى امتلاك المهارة والخبرة في التعامل مع الجمهور، ولا سيّما في أوقات الأزمات.

ووصف في حديثه إلى رصيف22، التصريحات الحكومية بـ"الباردة التي تحمل قدراً كبيراً من اللامبالاة"، و"التهرب الواضح من المسؤولية، سواء الأخلاقية أو التضامنية، باعتبارهم مسؤولين في مراكز رفيعة".

ويذهب الباحث في علم الاجتماع السياسي لتفسير السبب وراء "حالة التعالي" التي يتعامل بها المسؤولون الحكوميون، إلى عدم الرغبة في مناقشة وتسليط الضوء على الأسباب الأعمق وجذور هذه الفاجعة، والتي يكمن وراءها "الفقر" الذي دفع البنات للخروج من بيوتهنّ للعمل مقابل مبلغ زهيد يومياً.

"الطرق تم تجهيزها على عجل وبلا عناية، وأُنفقت فيها مئات المليارات، ولا أحد يرغب في أن يُقرّ بوجود خلل في المنظومة بأكملها"، يضيف معتبراً أن تعامل المسؤولين مع أسر الضحايا كساه قدر كبير من "الاستعلاء"، وخلق انطباعاً لدى المصريين بأنّ هذه الحكومة ليست أمينةً على مصالح الشعب الذي أقسمت على رعايته وحمايته، في حين تحاول أن تُعتّم إعلامياً على السلبيات التي طفت فوق السطح مع وقوع الفاجعة.

هيمنة حكومية على الإعلام

وبينما تباين المشهد الإعلامي المصري في طريقة تغطيته للواقعة، يؤكد وكيل نقابة الصحافيين المصرية، محمد سعد عبد الحفيظ، أنّ هناك مشكلةً حقيقيةً في التناول الإعلامي للأزمات في مصر خلال السنوات الأخيرة، وسط هيمنة حكومية واضحة على منصات الإعلام المختلفة (صحف ورقية، مواقع إلكترونية، وقنوات تلفزيونية)، بالإضافة إلى ممارسة حالة من التضييق والحصار على عمل الصحافة والإعلام بشكل عام.

ويرى عبد الحفيظ، في حديثه إلى رصيف22، أنّ هذا الحصار جعل الإعلام يُقصّر في تسليط الضوء على السلبيات والإخفاقات، وأوصَل المسؤولين إلى عدم تقبّل أي نقد في أداء مهامهم، مشدداً على أنّ الإعلام دوره مساءلة السلطة التنفيذية بدلاً من الشعب، وهو ما اختفى بشكل واضح في السنوات الأخيرة.

ويُكمل وكيل نقابة الصحافيين، بأنّ منصات التواصل الاجتماعي باتت "مساحات التنفيس العام"، للتعبير عن النقد والغضب تجاه تقصير الحكومة والمسؤولين، إلا أنّ البعض يعدّها "كتائب إلكترونيةً" موجهةً ضد شخص أو حدث بعينه، وإن كان ذلك موجوداً بالفعل، إلا أنه "قليل".

ويختم بالتأكيد على أنّ الحكومة ومسؤولي وزارة النقل مُقصرون بشكل لا يحتمل "اللبس" في فاجعة "فتيات العنب"، إلا أنّ الأمر أكبر من ذلك، ويندرج تحت مبدأ "أولويات الحكومة" التي تؤخّر إنجاز بعض الملفات لحساب أخرى، في غياب الرأي العام المُوجّه لبوصلة الحكومة، مطالباً بتفعيل دور الإعلام والصحافة بشكل أكبر، ومساءلة المسؤولين باعتبار ذلك أمراً طبيعياً وليس "حدثاً جَللاً".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image