محمد، ياسين وصالح، جميعهم في عمر متقارب في مطلع العقد الثالث من العمر، اثنان منهم خريجا جامعات، والثالث يحمل شهادة متوسطة، الأول من محافظة الشرقية، والثاني من الجيزة، أما الثالث فمن محافظة بني سويف في الصعيد. والمهنة التي اتخذها كل واحد منهم سبيلًا للعيش لا تشبه ما كان يدور في مخيلاتهم وأحلامهم حين كانوا طلابًا، من خلال تقديم مهاراتهم في سوق الأعمال المنزلية، كتنظيف الشقق والفلل، غسيل السجاد والمفروشات، بالإضافة إلى الطهي الذي يجيده أحدهم.
كانت التجربة غاية في الصعوبة بداية الأمر كما يصفونها، حيث اصطدمت بأنماط اجتماعية ثابتة، لكن مع مرور الوقت تغير المشهد تمامًا، وباتوا نموذجًا لغيرهم من الشباب غير القادرين على العثور على فرصة عمل، في ظل ارتفاع نسب البطالة وارتفاع معدلات التضخم.
محمد… القروي الحالم بالزواج
رغم إيمانه بأن العمل الحلال — أيًا كانت طبيعته — ليس عيبًا، لكن لم يخطر ببال محمد (28 عامًا) أن يستقر به المطاف، في وظيفة "عامل منزل"، ينظف شقق الزبائن ويغسل سجاد بيوتهم، "لكنها الحياة التي لا تقف عند حال ولا تستمر على وضع ثابت"، كما يقول.
يروي لرصيف22: "كنت أعمل محاسبًا في أحد المصانع في مدينة العاشر من رمضان في محافظة الشرقية، براتب 4500 جنيه (90 دولارًا)، ورغم أني خريج كلية تجارة من إحدى الجامعات الخاصة، إلا أن راتبي كان أقل من كثير من العمال غير الحاصلين على التعليم العالي، كنت على بعد أشهر قليلة من الزواج، وكنت في أمسّ الحاجة لراتب أفضل".
تغير تفكير الشاب حين تلقى دعوة للزيارة من جار له يعمل حارس عقار في منطقة المرج في القاهرة، حينها اكتشف أن جاره هذا يعمل في تنظيف الشقق في العقار الذي يحرسه، وأثناء حوار دار بينهما علم أن أجرة الحارس تتراوح بين 500 – 600 جنيه (10 – 12 دولارًا) مقابل الشقة الواحدة التي يستغرق تنظيفها حوالي ساعتين.
رغم أن مهنة التنظيف لم تكن يومًا حكرًا على النساء، لا تزال النظرة النمطية تلاحق من يختارونها من الرجال، خاصة في البيوت. محمد، ياسين، وصالح، ثلاثة شبان مصريون تحدّوا هذا الحكم المسبق، ووجدوا في "العمالة المنزلية" مصدر دخل كريمًا يفوق الوظائف التقليدية أجرًا واستقرارًا
طلب من جاره أن يعمل معه في هذه المهنة التي وصفها بـ"الكنز"، ومرة تلو الأخرى، "شرب الصنعة" على حد قوله، حتى وصل اليوم إلى تنظيف قرابة 20 شقة شهريًا، يحصل من خلالها قرابة 12000 جنيه (240 دولارًا) شهريًا، أي أكثر من ضعفي ما كان يتقاضاه في المصنع الذي كان يعمل فيه.
في البداية كانت التجربة صعبة وحرجة للغاية، حيث تعرّض لنظرة اجتماعية سلبية وأحيانًا متدنية، ما دفعه إلى إخفاء الأمر لعدة أشهر، قبل أن يلتقي أصدقاء له يعملون في ذات العمل دون أي حرج، ليقرر بعدها الكشف عن مهنته الجديدة. يقول: "أشتغل في العمالة المنزلية أم أمد يدي لأتسول في الشارع؟".
وبعد مرور عامين تقريبًا من العمل في هذا المجال، استطاع محمد أن يتزوج، فغادر العاشر من رمضان متجهًا إلى المرج، كما نجح في تكوين فريق كامل من الشباب الذين يعملون في تنظيف المنازل، يتم اختيارهم بعناية، حيث الأمانة والنظافة شرطان لا يمكن التخلي عنهما في هذه المهنة، كما يقول.
ياسين… الجامعي الذي أحرق شهادة التخرج
أما ياسين (35 عامًا) والحاصل على البكالوريوس من إحدى كليات جامعة القاهرة، والمدرجة ضمن كليات القمة في الجامعة، فانضم إلى هذه المهنة قبل ما يزيد عن عامين، وذلك بعد الفشل في الحصول على وظيفة تتناسب ومؤهله الجامعي، حيث اضطر للجلوس في المنزل بلا عمل لأكثر من 4 أعوام، كان والده خلالها يتحمل نفقات معيشته، إضافة لتعرضه للإهانة من الأصدقاء والجيران وبعض الأهل، كما يصف تلك الأيام.
لم يبدأ أيّ من الشبان الثلاثة عمله في التنظيف المنزلي دون صدمة اجتماعية أو تردد شخصي. لكن شيئًا فشيئًا، ومع ازدياد العائد المادي وتراجع فرص التوظيف، باتوا لا يشعرون بالخجل من مهنتهم.
تبع ذلك 5 أعوام تنقل فيها بين العمل كـ"كاشير"، وفرد أمن، وموظف علاقات عامة، لكن العائد المادي من وراء تلك المهن لم يكن مجزيًا، حتى تعرف على أحد الجيران القدامى في منطقة الهرم في الجيزة، والذي دله على العمل الحر في المنازل، حيث العائد كبير وسريع، دون أن يتحكم أحد في مواعيد حضور وانصراف وخصومات آخر الشهر.
يقول لرصيف22: "كان الأمر صادمًا في البداية، خشيت من نظرة المجتمع، خاصة أقاربي. أول 6 أشهر لم يكن أهلي يعرفون شيئًا عن طبيعة عملي، أخبرتهم أني أعمل موظفًا في إحدى الشركات دون تفاصيل، لكن بعد فترة وحين انسجمت في العمل، وحققت منه عائدًا ماديًا جيدًا مقارنة بما كان قبل ذلك، قررت أن أخبرهم وأصارحهم".
ويضيف: "صُدمت أمي حين علمت بعملي الجديد، وبكت كثيرًا، وبعد أن هدأت شرحت لها طبيعة المهنة وعوائدها واحترام الناس لنا وتقديرهم وتشجيعهم لهذا العمل، تقبلت الأمر. أخبرتني أن العمل ليس عيبًا طالما بالحلال، خاصة بعدما قلت لها إن العديد من الشباب الجامعي — بعضهم أصدقاء لي — يعمل في تلك المهنة، وحين سألتني عن شهادتي الجامعية، أخبرتها أني حرقتها، فلم تعد ذات قيمة في هذه الظروف القاسية".
صالح… الهارب من لهيب الفلاحة
أما صالح (33 عامًا)، فهو من بني سويف، ويقول إنه تمرد على حياة الزراعة التي "لم تعد تكفي لأجل تأمين الحد الأدنى من لقمة العيش"، رغم الجهد المبذول فيها على مدار العام، وهو ما دفعه للهروب والبحث عن فرصة عمل.
يقول: "تربيت منذ صغري في الحقل، أعمل إلى جوار والدي المزارع، فتلك مهنة معظم أهل القرية التي أسكن فيها، في البداية كانت العملية مجزية نسبيًا، حيث العائد المالي من بيع المحصول الزراعي نهاية كل دورة زراعية، كان فدان الأرض يكفي أسرة بأكملها، مأكلًا ومشربًا كل عام".
ويتابع لرصيف22: "الوضع تغير كثيرًا خلال السنوات العشر الأخيرة، فبعد ارتفاع أسعار الأسمدة والضرائب والرسوم المفروضة على المزارعين، وصعوبة توريد المحاصيل، خاصة بعد خفض أسعارها بشكل مجحف لصالح الحكومة، ما عادت الزراعة تلبي الحد الأدنى من احتياجات الأسر، بل وصل الحال إلى الاستدانة، وهو ما لم يحدث من قبل. حينها لم يكن أمامي سوى الرحيل والبحث عن فرصة عمل أخرى، أيًا كانت".
وبالفعل انتقل صالح إلى مركز الواسطى، أكبر مدن المحافظة، وهناك تعرف على صاحب مكتب للخدمات العامة، الذي بدوره عرض عليه العمل في تنظيف الفلل والشقق السكنية التي غالبًا ما يكون أصحابها غير متواجدين في المحافظة بشكل دائم، ووافق، رغم أن الموضوع كان صعبًا عليه في البداية، كما يصف، إذ أن مثل تلك المهن في الصعيد كانت تعتبر حتى وقت قريب "عيبًا".
لكن النظرة تغيرت بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، ليتقبل الشاب الصعيدي الأمر بصدر رحب، وينجح بعد 3 أعوام تقريبًا من العمل في الخدمات المنزلية، في شراء قطعة أرض في قريته للبناء عليها، وهو ما لم يكن ليتحقق لو ظل يعمل مساعدًا لوالده في الزراعة، هذا بجانب تدشين مكتب للخدمات المنزلية خاص به.
الأزمة الاقتصادية كلمة السر
إن كان هناك من سبب وراء حالة الارتباك تلك، فهو تغير المعطيات الاقتصادية، فالعامل الاقتصادي يُعتبر المتغير الثابت الذي يجر خلفه كافة المتغيرات التابعة الأخرى. هذا ما قاله الخبير الاقتصادي عبد الشافي مقلد، المستشار الاقتصادي لمركز الشرق الأدنى للدراسات.
يقول مقلد: "الأوضاع المعيشية الصعبة التي يواجهها الشاب المصري تدفعه نحو طرق كافة الأبواب، المألوف والمستغرب، شأنه في ذلك شأن الحكومات والدول، فالذي يجبر الدولة المصرية على مغازلة صندوق النقد الدولي للحصول على قرض معروف كارثيته على الاقتصاد الوطني على المدى البعيد، هو ذاته الذي يدفع شابًا جامعيًا للتخلي عن شهادته التي باتت بلا قيمة، والتوجه إلى العمالة المنزلية، متخليًا عن كافة الأعراف الاجتماعية، وضاربًا بـ'البرستيج' عرض الحائط".
من وظيفة محاسب وحلم بالزواج، إلى تنظيف الشقق وغسل السجاد؛ هكذا انقلب مسار محمد. حكايات الشباب الثلاثة تكشف كيف تغيّرت خريطة الطموح في مصر. فالشهادة الجامعية لم تعد ضمانًا للعمل، وربما لم تكن كذلك يوماً، لذا فالمبادرة إلى البحث عن القطاعات غير المشبعة قد تكون الخيار الوحيد لهؤلاء الشباب
ويضيف لرصيف22 أن الهزة العنيفة التي تعرضت لها مصر اقتصاديًا خلال العشرية الأخيرة أحدثت حالة من الزحزحة السلبية في طبقات المجتمع، فزجّت بالملايين من أبناء النخبة إلى الطبقة المتوسطة، ومثلهم من أبناء الطبقة المتوسطة إلى الدنيا، هذا بخلاف مستنقع الفقر الذي يستوعب كل عام أرقامًا مرعبة.
وبحسبه، فحين تغلق الأبواب أمام الشباب، إما ببطالة تتزايد بشكل مخيف، أو بوظائف ذات أجور متدنية، لا يجد أمامه إلا البحث عن فرص أخرى، تلبي له الحد الأدنى من احتياجاته التي لا تتحقق في الوظائف التي تعتبر "مقبولة اجتماعيًا"، وفي ظل التغير الكبير في النظرة المجتمعية للعديد من المهن والوظائف مؤخرًا، باتت العمالة المنزلية مجالًا مغريًا للكثيرين، خاصة في ظل عائدها المادي الذي قد يصل إلى ضعف ما يتحصل عليه الشاب في الوظيفة الحكومية على سبيل المثال.
ورغم عدم وجود إحصاء رسمي لعدد الشباب العاملين في مجال العمالة المنزلية، إلا أن مقلد يرى أن الظاهرة تتسع رأسيًا وأفقيًا، وأنها مرشحة للزيادة في الفترة القادمة إذا ما تصاعدت معدلات البطالة والفقر، خاصة بعد تقنينها بشكل مُرضٍ نفسيًا للكثير من أبناء تلك المهنة، حين تحولت إلى قطاع له أبجديات وأسس، بما يشبه النظام المؤسسي، بل إن بعض الشباب لديهم تطبيقات إلكترونية يعرضون من خلالها خدماتهم على الزبائن.
يتفق هذا الكلام مع ما يقوله محمد، حين أكد أنهم يقدمون خدمة أكثر جودة وأقل سعرًا، هذا بخلاف الأمانة وتعاطف بعض الأسر معهم كونهم شبابًا يكافحون لبناء مستقبلهم من خلال قبولهم لمهن قد يراها المجتمع، بنظرة عنصرية، غير لائقة، مؤكدًا أن التحديات التي كان يواجهها أبناء تلك المهن قديمًا ما عادت متواجدة اليوم.
وبحسب الإحصاء الرسمي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، فإن معدل البطالة في مصر بلغ 6.6% في عام 2024، بينما بلغت قوة العمل في البلاد 32.041 مليون فرد هذا العام (منهم 14.078 مليون مواطن في المدن، و17.963 مليون في الريف).
وتشير تقديرات البنك الدولي المنشورة للعام السابق، إلى أن نسبة الفقر بين المصريين وصلت إلى 29.7%، بعدما كانت 32.5% عام 2022، هذا بخلاف غول الدين الخارجي الذي يتجاوز 155 مليار دولار. وقدرت نفقات خدمة الدين في مشروع موازنة العام المالي 2024/2025، بحوالي 62% من إجمالي المصروفات العامة.
ليست جديدة… لكن في تصاعد
الظاهرة ليست جديدة بحسب أستاذ الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية في القاهرة سعيد صادق، الذي يقول لرصيف22 إن الظاهرة قديمة، حيث يؤدي تفاقم الفقر في الريف المصري على وجه الخصوص إلى تصدير الكثير من الأسر للفتية والفتيات للخدمة المنزلية.
لم تعد مهنة التنظيف في مصر مجرد عمل يدوي، بل قطاع يشبه المؤسسات، بعض العاملين فيه يستخدمون تطبيقات إلكترونية، ويشكلون فرقًا مدرّبة، ويقدّمون خدماتهم بمعايير واضحة.
ويضيف: "هناك أفلام مصرية قديمة نرى فيها شبابًا ريفيين يعملون في المنازل كأمر طبيعي".
وعن تقبل المجتمع لمثل هذه الظاهرة، يرى أستاذ الاجتماع السياسي أن الأمر بات عاديًا ولا حرج فيه على الإطلاق، خاصة وأن مثل هذه الأعمال المنزلية التي يعمل بها شباب، هي قديمة ومعروفة للجميع، وليست طارئة على المجتمع حتى يلفظها أو يبدي اعتراضًا عليها، منوهًا بأن كثيرًا من الذكور يعملون في تلك الأعمال.
ويربط صادق تفشي تلك الظاهرة في المجتمع المصري بالوضع المعيشي والاقتصادي للشعب المصري، فكلما زادت الحاجة وتدنّى المستوى المعيشي وارتفعت معدلات البطالة، وتوغّل الفقر داخل مفاصل المجتمع، كلما انتشرت الكثافة الذكورية في العمالة المنزلية، وبصورة أكبر مما كانت عليه في العهود السابقة.
وبحكم تجربته، تتوافق رؤية ياسين مع الحديث السابق، مؤكدًا أنه خلال العام الحالي فقط، أي في غضون أربعة أشهر، طلب منه 5 من الأصدقاء (2 منهم جامعيين) الانضمام لفريق العمالة المنزلية، ورغم تشديدهم بداية الأمر على أن يكون الأمر في إطار السرية حفاظًا على ما أسموه "صورتهم الاجتماعية"، إلا أن الصورة تغيرت بعدما ذاقوا حلاوة العمل الجديد وانخرطوا فيه بشكل عملي كـ"وظيفة محترمة" مثل أي وظيفة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ أسبوعحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ أسبوعالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...