بقنابل هي الأقوى في العالم، قصفت الولايات المتحدة أبرز منشآت إيران النووية، وعلى رأسها فوردو، درّة تاج برنامجها النووي. "الشيطان الأكبر" وجّه صفعة قوية للجمهورية الإسلامية. كان من الضروري لنظام آيات الله أن يجد طريقة تحفظ له ماء وجهه. من داخل مخبئه الواقع تحت الأرض أمر "المرشد الأعلى" بالرد.
أطلق الحرس الثوري 14 صاروخاً باتجاه قاعدة العديد الأمريكية في قطر، ثم أطلق التلفزيون الإيراني الرسمي بثاً لأناشيد وطنية على خلفية مشاهد للصواريخ التي ظهرت في سماء الدوحة وكأنها ألعاب نارية، وراح مذيعوه يطلقون بحماس عبارات عن الانتصار على "قوى الاستكبار العالمي".
مَن كان يتمنّى انتصار آيات الله يمكنه الاحتفال بما قدّمه له الإعلام الرسمي الإيراني. ولكن خلف الكواليس كانت حكاية أخرى تدور.
كل طرف لديه الآن روايته الخاصة عن النصر: "يمكن للولايات المتحدة أن تقول إنها أعاقت برنامج إيران النووي... ويمكن لإسرائيل أن تقول إنها أضعفت خصمها الإقليمي، ويمكن لإيران أن تقول إنها صمدت ودافعت عن نفسها ضد قوى عسكرية أقوى منها بكثير"
لأمر المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي بالرد قسم آخر، بحسب ما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن أربعة مسؤولين إيرانيين مطّلعين على خطط الحرب. أرفق طلبه بتوجيهات تشدد على أن تكون الضربات محدودة لتجنّب حرب شاملة مع الولايات المتحدة.
حمل منفّذو أوامر خامنئي توصيته وأخذوا يبحثون عن الطريقة الأفضل لتنفيذها؟ وقع الاختيار على قاعدة العديد، فهي أكبر وربما أشهر قاعدة أمريكية في المنطقة، كما أنها تقع على أراضي دولة حليفة.
لتصل الأمور إلى خواتيمها المرجوّة، كان ينبغي التأكد من أن أي ضرر لن يطال القوات الأمريكية. أرسلت إيران إشعارات مسبقة للقطريين والأمريكيين قبل ساعات من إطلاق صواريخها، وكانت النتيجة أن ما شاهدناه في سماء الدوحة هو اعتراض الدفاعات الجوية الأمريكية لـ13 صاروخاً من أصل 14 أطلقها الحرس الثوري فيما تُرك الصاروخ الـ14 لأنه كان يتوجّه إلى منطقة خالية.
يقول أحد المسؤولين الإيرانيين الذين تحدثوا لـ"نيويورك تايمز" إن الخطة كانت تقتضي ألا يُقتل أي أمريكي كي لا تندفع الولايات المتحدة للرد على الهجوم. وهذا ما حصل. وكانوا أيضاً يأملون بضغط واشنطن على إسرائيل لوقف ضرباتها الجوية القاسية على إيران. وحصل ذلك أيضاً.
لم يمضِ وقت طويل على "الرد الإيراني" حتى أطل ترامب بسخريته المعهودة وباستخفافه المعتاد بالدول الأخرى وقادتها، وشكر في منشور على موقع "تروث سوشال" للتواصل الاجتماعي الإيرانيين "لإعطائنا إشعاراً مبكراً، مما سمح بعدم فقدان أي أرواح أو إصابة أحد"، واصفاً ردّهم بـ"الضعيف".
تنفس العالم الصعداء. سعر برميل النفط راح ينخفض. ثم خرج ترامب ليلقي قنبلته الكبرى ويعلن توصل إسرائيل وإيران إلى اتفاق على وقف إطلاق النار سيؤدي إلى "اعتبار الحرب منتهية"، مطلقاً على ما جرى تسمية "حرب الـ12 يوماً".
بعد وقت قصير أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي في منشور على موقع "أكس" حصول الاتفاق. الإسرائيليون التزموا الصمت. استمر تبادل إطلاق النار بين البلدين. وفي تمام الساعة الواحدة وتسع دقائق من فجر الثلاثاء بتوقيت واشنطن، كتب ترامب مجدداً على "تروث سوشال" وقال: "وقف إطلاق النار دخل حيّز التنفيذ. الرجاء عدم انتهاكه! دونالد جي ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية!". لم يمر الكثير قبل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي موافقة بلاده على الاتفاق."انتصر الجميع"
يقول مدير برنامج إيران في "مجموعة الأزمات الدولية" علي واعظ إن تفادي الانزلاق إلى حرب واسعة نجح وكل طرف صارت لديه الآن روايته الخاصة عن النصر: "يمكن للولايات المتحدة أن تقول إنها أعاقت برنامج إيران النووي... ويمكن لإسرائيل أن تقول إنها أضعفت خصمها الإقليمي، ويمكن لإيران أن تقول إنها صمدت ودافعت عن نفسها ضد قوى عسكرية أقوى منها بكثير".
"لا أقول إنهم لم يُلحقوا بنا ضرراً"، قال عراقجي، "لكنهم لم يحققوا هدفهم الأساسي المتمثل في تجريدنا بالكامل من قدراتنا، أو أي أهداف أخرى ربما كانوا يسعون إليها". وبعد إعلان ترامب عن اتفاق وقف إطلاق النار، أعلن التلفزيون الإيراني أن الاتفاق "فُرض على العدو".
"قبل الغزو الإسرائيلي وضربات السيد ترامب، كانت الجمهورية الإسلامية تبدو كنظام ‘زومبي’- ميت أيديولوجياً لكنه لا يزال قمعياً- شبيه بما شهده الاتحاد السوفياتي في مرحلته المتأخرة"
تفاصيل كثيرة لا نزال نجهلها عن طبيعة ما جرى، فإعلان ترامب كان "مفاجئاً حتى لبعض كبار مسؤولي إدارته أنفسهم"، بحسب مراسلة "نيويورك تايمز" في البيت الأبيض ماغي هابرمان.
نعرف أن الرئيس الأمريكي أجرى محادثة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ونعرف أن نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف تواصلوا مع مسؤولين إيرانيين عبر قنوات "مباشرة وغير مباشرة".
ونعرف أن قطر لعبت دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين الأمريكيين والإيرانيين ما سمح بالتوصل إلى الاتفاق، بحسب ما أبلغ مسؤولون "نيويورك تايمز"، و"أن القطريين كانوا عنصراً أساسياً في التوسط لإبرام الاتفاق"، كما قال مسؤول كبير في البيت الأبيض تحدث لموقع "بوليتيكو". وبالفعل، وجّه ترامب عبر "تروث سوشال" رسالة شكر لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني "على كل ما قام به من أجل السعي لتحقيق السلام في المنطقة".
وعن مضمون الاتفاق، نعرف أن الإيرانيين تعهّدوا بالعودة إلى طاولة المفاوضات ومناقشة برنامجهم النووي إذا توقفت إسرائيل عن قصفهم، حسبما أفاد مسؤول أمريكي رفيع لصحيفة "واشنطن بوست".
وكان الإسرائيليون قد وسّعوا قائمة الأهداف التي استهدفوها يوم الاثنين، لتشمل مقراً لقوات الباسيج ومراكز لجهاز الأمن الداخلي وسجن إيفين حيث يُحتجز آلاف السجناء السياسيين.
وقرأ البعض في استهداف الباسيج، وهي الميليشيا شبه العسكرية التي استخدمها النظام لقمع معارضيه في مناسبات عدة، مؤشراً على "سعي إسرائيل إلى زعزعة أو إسقاط القيادة الدينية في إيران". وقال المسؤول السابق في الاستخبارات الأمريكية والمكلف بملف الشرق الأوسط خلال إدارة ترامب السابقة جوناثان بانيكوف إن الهجوم الإسرائيلي على سجن إيفين "يُوجّه بالتأكيد رسالة للنظام بأن عليه ألا يشعر بالأمان والاستقرار"، كما يعكس استعداد نتنياهو لتوسيع أهداف حربه.
في الوقت ذاته كان ترامب قد أعاد طرح فكرة تغيير النظام في إيران، متسائلاً: "إذا كان النظام الإيراني الحالي غير قادر على جعل إيران عظيمة من جديد، فلماذا لا يكون هناك تغيير للنظام؟".
الطرفان تعبا
بعد ساعات من إعلانه وقف إطلاق النار، أشار ترامب إلى أن كلاً من إسرائيل وإيران تواصلا معه "بشكل متزامن تقريباً" وطلبتا منه إنهاء الحرب.
قبل الرد الإيراني بقليل، كانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد نشرت تقريراً بعنوان "إسرائيل تسعى لإنهاء القتال مع إيران"، كشفت فيه أن واشنطن أبلغت مسؤولين في دول عربية بأن إسرائيل تسعى إلى إنهاء القتال قريباً، وطلبت منهم نقل هذه الرسالة إلى إيران.
وعن الأسباب التي تجعل إسرائيل تفضّل إنهاء العملية في أقرب وقت ممكن، رغم أنها تمتلك اليد الطولى في المعركة، أشارت الصحيفة إلى كلفة الحرب الباهظة التي تحرق يومياً مئات الملايين من الدولارات يذهب الجزء الأكبر منها إلى اعتراض الصواريخ الإيرانية، عدا الأضرار غير المسبوقة التي لحقت بالمباني في مختلف أنحاء الدولة العبرية والتي وصل تقدير كلفتها إلى 1.3 مليار دولار. فوق ذلك، يشعر الإسرائيليون بالإرهاق، خصوصاً جنود الاحتياط الذين يُستدعون مراراً وتكراراً للقتال على جبهات متعددة منذ نحو 20 شهراً.
بث التلفزيون الإيراني الرسمي أناشيد وطنية على خلفية مشاهد للصواريخ التي ظهرت في سماء الدوحة وكأنها ألعاب نارية، وراح مذيعوه يطلقون بحماس عبارات عن الانتصار على "قوى الاستكبار العالمي"... ولكن خلف الكواليس كانت حكاية أخرى تدور
أما من الناحية الإيرانية، فالحديث عن سوء الأوضاع الاقتصادية داخلها كان كثيراً قبل الحرب وتفاقَمَ كثيراً خلالها. "قبل الغزو الإسرائيلي وضربات السيد ترامب، كانت الجمهورية الإسلامية تبدو كنظام ‘زومبي’- ميت أيديولوجياً لكنه لا يزال قمعياً- شبيه بما شهده الاتحاد السوفياتي في مرحلته المتأخرة"، يقول كبير الباحثين في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي" كريم سجادبور، في مقال بعنوان "إلى أين تتجه إيران الآن"، نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 23 حزيران/ يونيو، ويضيف: "يشرف ثيوقراطيو طهران على دولة بوليسية معزولة اقتصادياً وقمعية اجتماعياً، غارقة في الفساد والقمع، لكنها تحكم من على منبر أخلاقي باسم ‘الثيوقراطية الإسلامية’".
ويتحدث سجادبور عن التناقض بين تطلعات كل من النظام الإيراني والشعب الإيراني، فجمود النظام الأيديولوجي وطموحاته النووية تجعله يشبه نظام كوريا الشمالية "في حين أن تطلعات شعبه نحو الحداثة والازدهار تجعله منسجماً أكثر مع نموذج كوريا الجنوبية".
وبرأي الباحث الإيراني، "الحروب تميل إلى تقوية الأنظمة الثورية في سنواتها الأولى، لكن الإذلال العسكري يكشف هشاشة الأنظمة التي شاخت". وربما لهذا السبب كان النظام الإيراني يتوق لوقف النار بسرعة مع دولة لطالما هدد بأنه سيفنيها، فوجوده نفسه صار على المحك وشرعيته القائمة على تقديمه للإيرانيين الدفاع عنهم في وجه أي اعتداء خارجي مقابل طاعتهم له واجهت تحدياً كبيراً.
ماذا بعد؟ قد تكون استراحة محاربين. فصول عدة ستحدد مآلات الأمور في المستقبلين القريب والبعيد. في القريب، ستتوجه الأنظار إلى طاولة المفاوضات التي تجمع الأمريكيين والإيرانيين لرصد ما إذا كانت ستسفر عن نتائج مُرضية للطرفين.
وعلى المدى البعيد، يقول مسؤولون إسرائيليون إن أي اتفاق لن يلغي استعداد إسرائيل لضرب إيران مجدداً إذا أعاد نظامها بناء برنامجه النووي أو برنامجه الصاروخي. ويبدي المستشار السابق للأمن القومي في إسرائيل غيورا آيلاند اعتقاده بأن بلاده "على الأرجح لن تهاجم إلا إذا وصلت جهود إيران لإعادة بناء برنامجها النووي أو الصاروخي إلى نقطة حرجة".
في واحدة من آخر الضربات التي وجّهتها إسرائيل لإيران، دمّرت "ساعة تدمير إسرائيل" المنصوبة في ساحة فلسطين في طهران، وهي ساعة تُظهر عدّاً تنازلياً حتى عام 2040، الموعد الذي ستزول فيه إسرائيل بحسب الدعاية الإيرانية. لتدمير هذه الساعة رمزية كبيرة، فهل ستُنصب ساعة بديلة عنها أم سنشهد تغيّرات في توجهات النظام الإيراني؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.