حين تصبح القصيدة جريمةً
في أمسية هادئة من عام 2004، في دار أحد الأصدقاء في المدينة القديمة في طرابلس، وقفتُ على خشبة صغيرة لأقرأ بعضاً من قصائدي. كانت أمسيةً شعريةً بسيطةً، بالكاد تسع المشاركين فيها كراسي القاعة، يتخللها عزف على الغيتار من صديق أمازيغي اسمه "ؤسمان"، يشبه صوته هدير الجبال المنسيّة.
قرأت بالعربية أولاً. ثم، بناءً على طلب من صديق صادق اسمه محمود البكوش، ألقيت واحدةً من قصائدي الأمازيغية: "حلم صغير".
قصيدة وادعة، حالمة، كتبتها كما يُكتب الرجاء في الظلام.
لكن ما إن أنهيتُها، حتى انقلب المشهد.
انتفض من كنت أظنّه صديقاً، وقد كانت علاقتنا حينها إلكترونيةً، باردةً كالشاشات، حارّةً كالخيبة.
بدأ يصرخ بصوت ملوّث بالذعر: "أنتم عملاء، الأمازيغية مؤامرة، والقصيدة خيانة!".
كان من مدينة الزاوية، وقد اتضح لاحقاً أنه لم يكن شاعراً ولا صديقاً، بل مجنّداً آخر في جهاز الأمن، يتقن ارتداء قناع "المثقف".
المثقف القوّاد مجدداً… تمثيل الصوت القمعي باسم الصمت المفروض
كان الحضور متنوعاً: أصدقاء، مهتمون، وربما حتى من لم يفهموا القصيدة. لكن من فهمها جيّداً، هم رجال الأمن والمخبرين الذين تواجدوا في القاعة بكاميراتهم وأعينهم المرتابة، وأشباه المثقفين الذين لا يحتاجون إلى أمر مباشر ليخونوا زملاءهم، ويكفيهم أن يشعروا بالخوف ليؤدّوا دور البطولة القذرة.
هنا يتجلى مجدداً "المثقف القوّاد" في أحد تجلّياته الأشد خطورةً: ليس فقط من يبرّر القمع، بل من يُمارسه بلسان المجتمع.
لا يكتفي بأن يصمت، بل يتحدث بصوت مرتفع نيابةً عن الأصوات التي أُجبرت على الصمت، محاولاً إضفاء "شرعية اجتماعية" على ما لا يملك من شرعية أخلاقية ولاإنسانية. عنصرية مقنّعة بثقافة، وخوف يتنكر في هيئة وطنية.
في الأنظمة الشمولية، لا يحتاج القمع دوماً إلى أوامر مباشرة؛ فبعض "المثقفين" يتطوّعون لأداء دور القامع باسم النظام، مدّعين تمثيل صوت المجتمع، ومبرّرين خيانة زملائهم بالخوف أو الوطنية المصطنعة، ليصبحوا أدوات ناعمة للاستبداد بثياب فكرية
في الدولة الشمولية العروبية، لا تُعدّ الأمازيغية مجرد لغة، بل "سُمّاً"، كما وصفها واحد منهم يوماً ما، لأنها تذكّر النظام بأنّ هناك أناساً لم تنجح في إذابتهم، ولا في تحويلهم إلى أرقام في دفتر القومية الواحدة.
والقصيدة، حين تكون بالأمازيغية، تصبح فعل مقاومة، لأنها تُقال في فضاء مراقَب، ولأنها تحمل ما لا تستطيع الأجهزة أن تُترجمه: الحنين، الألم، والتاريخ المسروق. ذلك الصديق الكاذب، لم يغضب من القصيدة، بل من إحساسه بالخوف منها.
خاف أن تُقرأ، أن تُفهم، أن تُحفظ، وأن تُصبح بذرةً، فهاجمها باسم الوطن، بينما هو نفسه لا يؤمن بوطن فيه صوتان.
نحن نكتب، وهم يصرخون. في كل تجربة، هناك من يكتب، وهناك من يصرخ. نحن نكتب الحلم، وهم يصرخون لأنه يوقظهم من وهم الطاعة.
من دار الفقيه، إلى قاعات اللقاءات الثقافية، إلى فيسبوك اليوم، تتكرر الوجوه والأصوات ذاتها، ولو غيّرت أسماءها وأزياءها. لكن الثابت الوحيد هو أن من كان يقمعنا بالأمس، يحاول الآن محاكمتنا بأدواته القديمة، فقط لأنه خاف من أن تخرج القصيدة من القاعة، وتصل إلى إنسان آخر.
حين يكتب المخبر مقاله
في سنة 2007، كنت أكتب المقال كما يكتب الإنسان صلاةً لا ينتظر عليها ثواباً. كنتُ أنشر في جريدة "أويا"، وفي مواقع ليبية معارضة مثل "ليبيا وطننا"، و"أخبار ليبيا"، و"ليبيا اليوم". أنشر باسمي، وأحياناً بأسماء أخرى: أمارير، ماسينيسا، سيفاو الجادوي… ليس جبناً، ولكن لحماية الحرف من أن يُخنق قبل أن يُقال.
كتبت عن الأمازيغية، عن الهوية، عن الإنسان باعتباره جوهر أي مشروع، وعن "الإصلاح" الذي بشّر به نجل العقيد، وقلت ببساطة: "لا إصلاح في الأسمنت، قبل أن يتم إصلاح الإنسان". كانت جملةً عاريةً، لكنها صادقة. ربما لم يقرأها أحد، أو هكذا ظننت.
لكن ما حدث لاحقاً كشف أنّ المخابرات تقرأ الشعر أكثر مما يقرأه الجمهور.
لم أنشر مقالي عن "ليبيا الغد"، في جريدة "أويا". بل نشرته في موقع معارض. لكن فجأةً، ومن دون مقدمات، صدر في الجريدة عدد يتضمن "ردّاً" على مقالتي… التي لم تُنشر في الجريدة أصلاً.
كتب "الردّ" من كان يُعرّف بأنه مسؤول قسم الشباب أو شيء قريب من ذلك. ردّه لم يكن فكرياً، ولا حتى سياسياً، بل كان فعلاً أمنياً خالصاً، مغلّفاً بلغة صحافية رديئة.
في مقدمته، ذكر كل أسمائي المستعارة التي كنت أكتب بها في مواقع المعارضة: سيفاو الجادوي، أمارير، ماسينيسا… ذكرها كلها دفعةً واحدة، وكأنه يقول لي: "نحن نراقبك، وسنكشفك أمام القرّاء، باسم الرأي الآخر".
لكنه لم يكن يخاطب القرّاء. بل كان يخاطب الضباط خلف الستار. يقول لهم: "أنا هنا. أؤدي المطلوب. أُعلن الولاء. أفضح لكم هذا الذي يحلم بكتابة قصيدة بلغة محظورة".
ما فعله الرجل لم يكن استثناءً، بل هو خلاصة المثقف القوّاد في لحظة ارتباك النظام. حين لم تعد التقارير السرّية تكفي، صار لا بدّ من كتابة "البلاغ" في صورة مقال. صار على المخبر أن يكتب لا بالرمز، بل بالعَلن. أن يكتب لا ليقنع، بل ليُخيف.
القصيدة التي تُلقى بلغة مضطهدة هي فعل مقاومة سياسي. في فضاء مراقَب، تتحول اللغة المهمشة إلى تهديد وجودي للسلطة، لأن النظام لا يخشى النص، بل يخشى أن يُفهم ويُتوارث ويُزرَع.
في تلك المقالة، لم يكن الهدف الردّ. كان الهدف تكسير القلم، فضح الحبر، وتجريم الفكرة. ولم يكن هو صاحب مشروع، بل مجرد منفّذ بليد، كشف نفسه بنفسه. فمن يذكر أسماءك المستعارة بهذا الشكل، لا يهاجمك ككاتب، بل "يُبلّغ" عنك كملف.
بعد نشر المقال، بدأت تصلني رسائل غريبة؛ كلمات قصيرة، تهديدات ناعمة، عبارات ملغّمة… عرفت وقتها أنّ المخبر لم يكن وحده من كتب. كان هناك من يقرأ معه، من يراقب معه، من ينسخ المقالات، ومن يرفعها لمكتب المراجعة.
لكني لم أتوقف. لأنّ من يتوقف بسبب "المخبر"، لا يستحق أن يكتب أصلاً.
كان هذا "الكاتب" يحاول أن يبيع نفسه لسيف الإسلام، كما باع من قبله نفسه للّجان الثورية. كان يحلم بأن يترقّى من "كاتب ردود" إلى "صاحب مشروع"، لكنه لم يدرك أن مشروعه الوحيد هو تخريب الحلم.
لم يكتب ردّاً، بل كتب بلاغاً. ولم يكن نصّاً صحافياً، بل كان صفحةً في دفتر مخبر قرر أن يكتب علناً.
لكننا لا ننسى، ونحتفظ بنسخة العدد، كما يُحتفظ بالأدلة في أرشيف الضحايا.
حين يرتدي الخوف عباءة الفكر
في عام 2007، كنت أحد الحاضرين في لقاء نظمته وزارة الثقافة الليبية، جمع ما كان يُعرف آنذاك بـ"الكتّاب الإلكترونيين". وقفت حينها داخل القاعة، وتوجهت بكلمة مباشرة إلى الوزير نوري الحميدي جينها، مطالباً بإصلاح قانون المطبوعات والسماح بالطباعة باللغة الأمازيغية. لم يكن طلبي ثورياً، بل إنسانياً وثقافياً بامتياز: اعتراف بلغة، بحق، وبوجود.
لكن الرد لم يأتِ من الوزير. بل من شاعر - أو هكذا يُعرّف بنفسه - كان حاضراً، لا بصفته الأدبية، بل بوظيفته القديمة كمخبر ثقافي في جهاز سلطوي، قوّاد للأمن الداخلي ربما. وقف وصرخ باتهام مكرور: "أنت عميل لإسرائيل، وفرنسا، والامبريالية!". اتهامٌ لم يكن موجهاً إليّ بقدر ما كان تمريناً على الولاء الأعمى، وارتجالاً مسرحياً يؤدي فيه الدور ذاته الذي اعتاد أداءه لسنوات: الدفاع عن النظام مقابل البقاء في هامش الضوء.
المثقف القوّاد ليس وصفاً شتائمياً، بل توصيف دقيق لنمط يتكرّر في كل الأنظمة الشمولية. هو المثقف الذي لا يكتب ليُحرّر، بل ليبرّر. لا يفكر، بل يُعيد إنتاج الخطاب الرسمي بمفردات أكثر نعومةً. يتقمّص صورة الشاعر، أو المفكر، أو الأستاذ الجامعي، لكنه في جوهره يؤدي وظيفةً: تأمين الغلاف الثقافي للاستبداد. لا يبتكر، بل يُرقّع. لا يعارض، بل يُخوّن. يُدافع عن النظام لا من قناعة، بل من رعب؛ لأن فكرة الحرية ترعبه أكثر من فكرة القمع.
وهو، على عكس ما يُشاع، ليس نتاج النظام فقط، بل أيضاً نتاج مجتمع بدوي في تركيبته الثقافية، قائم على الولاء والطاعة، لا على النقد والتشكيك. في هذا المجتمع، يصبح الشاعر صوت القبيلة لا ضميرها، ويصبح الفكر امتداداً للسلطة لا سلاحاً في وجهها.
المثقف الموالي للسلطة لا يتغيّر، بل يتلوّن. من شاعر في جهاز أمني إلى كاتب مقالات تخوينية، يواصل تقديم فروض الولاء تحت غطاء الوطنية أو الدين أو الأخلاق، بينما جوهر فعله هو الخوف من الحرية، والخوف من سؤال: "أين كنت حين كنا نكتب الحلم؟"
مرّت السنوات، وسقط النظام، وتبدّلت الرايات، لكنّ الرجل لم يتغيّر. عاد من جديد، بالخطاب نفسه، والاتهامات ذاتها: "أنتم أجناس شرّ، أنتم من دمّر الوطن، لو كنتم مسلمين لاحترمتم العيد!"، في محاولة يائسة لإعادة إنتاج العار بلغة القداسة. هو لا يملك ما يقوله، فيتوسل ما يُحظر الكلام عنه: الدين، الوطن، والعرض. يستدعيها لا من الإيمان بها، بل من الحاجة إلى حمايته من السؤال الصعب: أين كنتَ؟ وماذا كنتَ تفعل حين كنّا نطالب بالحق؟
الحقيقة أن هذا النوع من المثقفين لم يزل يرتدي المعطف نفسه، ويقف في المكان نفسه، لكنه رفع رايةً جديدةً واختبأ خلف شعار مغاير.
نحن نكتب لأننا لا نحتمل الصمت. نكتب لأننا نعرف أن اللغة ذاكرة مقاومة. أما هم، إنما يكتبون ليبقوا في الصورة، ليحافظوا على علاقة دافئة مع القمع، حتى لو تغيرت ألوانه.
لقد وقفنا نطالب بحق الإنسان في لغته، في كرامته، وفي أن يُرى. أما هم، فاختاروا أن يُخاطبوا دوائر الأمن من خلف الستار، ثم يتزيّنوا على منابر الشعر، وكأنهم كانوا يوماً منّا.
حين يفقد البعض القدرة على الحوار، لا يجدون إلا الشتيمة. وحين يفقدون الشجاعة، يختبئون في "الأعياد" و"الحرمات"، لا ليحترموها، بل ليستخدموها كدروع يرمون منها الآخر بحجارة الكراهية.
لكن من يكتب ليُحرّر، لا يخاف. ومن يُخَوِّن، لا يُحاوَر. ولذلك، يبقى الفارق بيننا جوهرياً: نكتب ما لا يجرؤون على التفكير فيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.