عندما توجه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إلى سوريا عام 1958، في خضم إعلان الوحدة العربية، استقبلته الجماهير السورية استقبال الفاتحين. خلال الزيارة زار قبر صلاح الدين الأيوبي (1137-1193م)، في خطوة بدت كتتويج رمزي لخلافته للقائد التاريخي، الذي يحظى بمكانة أسطورية وملحمية في الوجدان العربي والإسلامي. وكما عبّر الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل: "ذهب عبد الناصر وبويع كخليفة لصلاح الدين، إذ كانت الأمة تبحث عن بطل، ظهر هذا البطل كالنبي أو المهدي المنتظر، إيذاناً ببدء الزحف المقدس".
لم يكن استقبال عبد الناصر مجرد موقف سياسي، بل كان طقساً جماهيرياً يستدعي الأسطورة من أعماق المخيّلة. بدا أن الجماهير، من تلقاء نفسها، قررت بعث أسطورة صلاح الدين في شخصية عبد الناصر، كمنقذ جديد يوحّد "العرب" في مواجهة التمزق والانقسام.
لم تنبع أسطورية عبد الناصر من مشروعه التحرري، بل من تطلّعات الناس الذين نصّبوه في تلك المكانة عبر محاكاة تلقائية لأساطير الخلاص والبطولة. كانوا يبحثون عن بطل يُجسّد آمالهم ويعيد إليهم الثقة بأنفسهم وهويتهم المتخيلة، فأسبغوا عليه رمزيةً تتجاوز شخصه. بهذا المعنى، فإنّ عبد الناصر لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل تحوّل إلى "أسطورة دنيوية" تعكس حاجة المجتمعات العربية العميقة إلى معنى جماعي ورمز موحد.
لم تنبع أسطورية عبد الناصر من مشروعه التحرري، بل من تطلّعات الناس الذين نصّبوه في تلك المكانة عبر محاكاة تلقائية لأساطير الخلاص والبطولة. بهذا المعنى، لم يكن عبد الناصر مجرد زعيم سياسي، بل "أسطورة دنيوية" تعكس حاجة المجتمعات العربية العميقة إلى معنى جماعي ورمز موحد
في منعطف تاريخي حاسم، حيث خيّمت ظلال الإمبراطوريات الآفلة على الشرق، بزغت فكرة "الأمة العربية" كقوة سياسية وثقافية جديدة. لم تكن ولادتها عفويةً، بل جاءت في سياقين متداخلين: الأول، تمثل في انحدار الإمبراطورية العثمانية وتصاعد التوترات الداخلية، ولا سيما مع سياسات "التتريك" القسرية التي استهدفت الشعوب غير التركية، والتي بلغت ذروتها في "الثورة العربية الكبرى" عام 1916. قاد هذه الثورة الهاشميون، بزعامة الشريف حسين، مدعومين بوعود بريطانية غامضة لتأسيس دولة عربية كبرى في الحجاز والهلال الخصيب، وهي الوعود التي خلدتها "مراسلات حسين-مكماهون" الشهيرة. أما السياق الثاني، فكان تأثّر النخب والمراكز الثقافية في الشام ومصر بأفكار "الدولة القومية" الصاعدة بقوة في أوروبا.
لم تقتصر الجهود على البناء السياسي، بل امتدت لتعزيز "الأيديدولوجيا العربية" عبر خلق سردية تاريخية، اتخذت في كثير من الأحيان طابعاً أسطورياً. هدفت هذه السردية إلى تأكيد تفوّق العرب وأسبقيتهم التاريخية والحضارية على الأتراك، الذين صُوِّروا كـ"حالة طارئة ودخيلة". اللافت في عملية بناء الذات هذه، أنها غالباً ما بدأت بتعريف الآخر. فوفقاً للمفكر عبد الله العروي، عندما تساءل العرب "من نحن؟"، انصرفت السردية الناشئة أولاً لتعريف "من هم الآخر"، وتحديداً الغرب، في استمرار لجدلية العلاقة المعقدة مع القوى الأوروبية.
قد يبدو غريباً أن تعاود الأسطورة الظهور بقوة في عصر شهد ثورةً علميةً وأفكاراً تنويريةً أحدثت، نظرياً، "قطيعةً مع التفكير الأسطوري". لكن الواقع، كما يحلله مفكرون مثل بندكت أندرسن، يشير إلى أن أي أمة حديثة، بوصفها "جماعةً متخيلةً"، تستلزم بالضرورة إعادة إنتاج مستمر للتخيل حول هويتها المشتركة. وتزداد هذه الحاجة إلحاحاً في فترات الأزمات والانحدار.
يصبح إضفاء الروح الأسطورية، في هذا السياق، سمةً بارزةً في مجابهة ما يُنظر إليه كـ"عقلنة للعالم" قد تكون مفتتةً أو مهددةً للهوية. تتجلى هذه الحاجة في الاحتفاء بالنجاحات الاستثنائية التي تبرز جوانب الهوية المأزومة، سواء في الرياضة أو الفن أو السياسة، كصور منعكسة لـ"الحلم المفقود" أو الهوية المنشودة.
وفي صميم هذا التوظيف المستمر للأسطورة، تتجلى حاجة "الدولة الوطنية الحديثة" نفسها إلى تأسيس رموز وسرديات تؤطر من خلالها تصوراً موحداً للأمة. فالدولة الحديثة، التي تختلف جذرياً عن السلطنة أو الإمبراطورية التقليدية، لا تُبنى فقط على مؤسسات وقوانين، بل أيضاً على عقد اجتماعي وهوية وطنية تتطلب دعماً رمزياً ومخيالياً مستمراً، خاصةً لتعويض غياب الشرعية الدينية التقليدية التي استندت إليها الأنظمة السابقة. من هنا، تنبع الحاجة الملحة إلى "أساطير دنيوية" جديدة تجسّد قيم البطولة، الشهادة، التضحية، لاستمرار الأمة. فالأسطورة، في سياق بناء الدولة القومية، ليست مجرد تزييف للتاريخ، بل هي وسيلة لتخيله وتأطيره، وترسيخ سردية قومية جامعة تعيد تعريف الذات الجماعية في مواجهة تحديات الاستعمار، التمزق الداخلي، أو حتى الحداثة المقلقة.
لذا يمكننا التساؤل أكثر عن المستويات الأعمق الذي تلحّ لخلق الأساطير مراراً حتى لو بصيغ دنيوية؟
الأسطورة في عالم علماني
تأتي أيديولوجيا الزحف المقدس، وفقاً للمؤرخ شريف يونس، باعتبارها "تجسيد الشعب الواحد في شخص". يمكننا فهم ذلك بأنّ طلب الأسطورة الناصرية كان حركةً جدليةً بين توق الشعب إلى المخلص وبين تشكّل مفهوم الشعب أيديولوجياً من قِبل السلطة، ومنها تولدت تصورات الدمج بين الشعب والسلطة، فما تريده السلطة هي إرادة الشعب التي حددتها السلطة! فالشعب هو الذي يقود الثورة، والذي يرغب في حل الأحزاب، ويطالب بتحقيق الوحدة.
بدأت أسطرة عبد الناصر، مع حادثة المنشية 1954، "فقد جعل الناس يتحدثون عنه كأسطورة... فجاؤوا به بطلاً"، وصولاً إلى ناصر 1956، كما نشرت عنه الأخبار آنذاك: "فعلى غرار أبطال السيرة الشعبية الذين يأتون بالمعجزات، أصبح عبد الناصر وكأنه يحكم العالم، ويأتي للشعب بحقوقه بقدراته الخاصة".
هكذا نُصّت علاقة روحية أسطورية بين عبد الناصر وقطاعات شعبية... كأنما أصبح الروح المطلقة للأمة. لا يبدو ذلك غريباً أو اعتباطياً، بل إنه يمثل بعمق المخزون الثقافي والنفسي للمجتمع. فإذا كانت الثقافات الأوروبية مولعةً بأسطورية الملاحم المتجذرة في أعمال هوميروس، فإنّ الثقافات العربية تستلهم السير الشعبية من فنون السيرة النبوية، التي تعتمد على البعد الأسطوري والخارق في بنائها. ولا يثري الشخصية ببعد فني ودرامي للحكاية فحسب، بل ينسج مضامين للمعاني والتصورات والأفكار والواقع.
من إنسان الكهف الذي رسم ظلّه على الجدران، إلى المزارع الأول، ثم العامل في قلب الثورة الصناعية، وصولاً إلى الإنسان الرقمي العالق بين الشاشات، ظلّ كل عصر ينسج أسطورته الخاصة، تلك التي تعبّر عن أحلامه ومخاوفه الجماعية. ومع أن هذه الأساطير قد تفقد بريقها أو قداستها، فإنها تبقى حاملةً لبصمة الإنسان وقلقه الوجودي المشترك: من أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟
ضمن هذا الإطار، يُعاد التفكير في الأسطورة في نطاق ما تحمله وتكرّسه من معنى. وذلك في ضوء الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية، حيث تطرح التساؤلات أمام الذات، التي تبدو بحاجة ماسة إلى محاكاة أسطورية جديدة أكثر إلحاحاً. أساطير قادرة على تأطير الوجدان العام وربط الحاضر بمخزون رمزي حي، بعدما فقدت القديمة بريقها.
من إنسان الكهف الذي رسم ظلّه على الجدران، إلى المزارع الأول، ثم العامل في قلب الثورة الصناعية، وصولاً إلى الإنسان الرقمي العالق بين الشاشات، ظلّ كل عصر ينسج أسطورته الخاصة، تلك التي تعبّر عن أحلامه ومخاوفه الجماعية. ومع أن هذه الأساطير قد تفقد بريقها أو قداستها، فإنها تبقى حاملةً لبصمة الإنسان وقلقه الوجودي المشترك: من أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟
وفقاً لليفي بريل، في كتابه "العقلية البدائية"، لا تهدف الأسطورة إلى تقديم تفسيرات منطقية أو علمية للظواهر، بل تعكس تجربةً جماعيةً تُعاش وتُحس. وعليه، الأسطورة ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي وسيلة لفهم العالم والتفاعل معه من خلال التماهي والمشاركة. وفي المعنى نفسه، ذهب الأنثروبولوجي ليفي شتراوس، في كتابه "الأسطورة والمعنى"، إلى أن المعنى لا يكمن في القصة نفسها بل في الطريقة التي تنظّم بها الأسطورة التناقضات. فهي ليست مجرد سرد أو حكاية لتفسير ظاهرة، بل هي شكل من أشكال التفكير الذي يعكس البنية العقلية الجماعية.
ربما تكون فكرة الترميز للأسطورة وربط المعاني بأحداث قريبة من التصورات الحسية، هي المدخل لفهم حاجتنا الملحة إلى إعادة إنتاج "محاكاة أسطورية".
تبوأت الأسطورة مكانةً استثنائيةً في مسيرة الإنسان، بالأخص منذ "الإنسان العاقل Homo sapiens"، حتى العصر الراهن الذي يتسم بسيادة العلم والعقل. وبرغم توغل المنهج العلمي وتقدُّم الفلسفة، فإنّ الأسطورة لم تفقد وظيفتها الرمزية داخل الأديان والمعتقدات الحديث،. حتى أنّ إنزواء الأسطورة أمام توغل المنهج العلمي والفلسفات، يُعدّ من قبيل تنازل الجدّ الأكبر عن بعض وظائفه لأحفاده. فالأسطورة، كالفلسفة والعلم، جزء من الجهد الثقافي لفهم العالم، لكنها تفعل ذلك من خلال نظام رمزي وخيالي يتجاوز البرهان والتجربة، وتُفعّل الانفعال والحدس، للدمج بين الإنسان والكون. وكما أشار الباحث السوري فراس السواح، فإنها تقوم على حثّ الانفعال على النظر إلى كل الظواهر بعين إرادة العاطفة، وبذلك تفتح مساحةً واسعةً للخيال والرمز في ربط الوعي باللاوعي، والعقلانية باللاعقلانية. فالإنسان بكونه كائناً ثقافياً يؤنسن الكون عبر الأسطورة، "يأمل في الوحدة، لحل مسائل الوعي بالوجود والبداية والموت والخلق والكون".
في عالم اليوم، لا تزال جذور الأسطورة حيّةً، وإن تجلت في صور معاصرة تُعوّض غيابها التقليدي في بنية الحداثة. فكما انبثقت العلوم والفنون من رحمها في العصور القديمة، فإنّ غيابها ترك فراغاً حاولت بعض الظواهر ملأه، في ما يسمّى بـ"الأسطورة الدنيوية"، وهي تلك الرموز الحديثة التي اكتسبت طابعاً شبه أسطوري: نجوم الفن والرياضة، الأبطال الخارقون، وحتى بعض الزعماء السياسيين والدينيين. ولا يقتصر ذلك على الثقافة الشعبية، بل يمتد إلى العلم ذاته، الذي يستعين بفروض ونماذج تجريدية تُشبه الكائنات الأسطورية في وظيفتها التفسيرية، كما يرى الفيلسوف ويلارد كواين، الذي يرى أنّ الأشياء الفيزيائية لا تختلف جوهرياً ومعرفياً، عن آلهة الأولمب، والتفاوت يكون في التفاوت والملاءمة للواقع.
عند النظر إلى الأسطورة من منظور أنثروبولوجي، يتسع نطاق فهمنا لها بعيداً عن تصنيفها كمجرد خرافات ميتافيزيقية أو حكايات مقدسة، لنراها كنظام رمزي وثيق الصلة بتجربة الإنسان الثقافية والاجتماعية، وبأسئلته الوجودية حول الحياة والخيبة والمصير. ومن هنا، تبرز أهمية الانتقال من الأسطورة السماوية، التي تتمحور حول الآلهة والمقدسات، إلى الأسطورة الأرضية، حيث تتجسد التطلعات والآلام البشرية في سرديات تُعبّر عن المعاناة والانتصار، وتعيد تشكيل الواقع بلغة الرمز والتخييل.
فالأسطورة، في كلتا صورتيها، لا تكتفي بتفسير العالم بل تمنح الإنسان وسيلةً للتأويل العاطفي والرمزي لما يعجز الواقع عن التعبير عنه. وهي بهذا المعنى، تقدم أدوات لفهم المجتمعات التي أنتجتها، وتُظهر لنا كيف تُبنى الأنظمة الرمزية التي تُحدد سلوك البشر ومعتقداتهم. كما تفتح المجال لفهم أعمق للعطب في الذات الجمعية، من خلال قراءة الأسطورة كمرآة لهويات مأزومة، تبحث عن خلاصها في الحكاية، أكثر مما تجده في الواقع.
البحث عن المخلص... من حكاية مقدسة إلى مخيال ثقافي
في الأخير، يتم تداول القصص الأسطورية، دينيةً كانت أو دنيويةً، في مضمار أيديولوجي، إذ تحمل اتجاهاً فاعلاً في مجريات التاريخ. فالانتقال من هزيمة العروبة القومية إلى صحوة الإسلاموية، كان انتقالاً بالأسطورة أيضاً، من الأسطورة الشاهدة إلى الغائبة، فدائماً ما تأخذ الأساطير الدنيوية طابعاً تراجيدياً في حلقات التاريخ تجاه المخلّص الغيبي، أو بشكل مخفف إلى الطوباوية الإيمانية، لذلك فإنّ التوق دائم إلى ميلاد الأساطير التي تتوّج غالباً بثوب الشهادة، مثلما نسج الخيال أيقونات لسير أبطال مقاومة مثل عمر المختار وعز الدين القسام، حيث استقرت في المخيال الإسلامي المعاصر، باعتبارهم على شاكلة مآثر الصحابة. ولا عجب أن تخلصت أمريكا من جثة أسامة بن لادن في البحر، حتى لا يصبح له مقام ومزار، وللتقليل من فرص تشكّل سردية أسطورية. لذا فالأيديولوجيا والأسطورة في علاقة وطيدة، تعيد إنتاج الرموز وتتجلى في قصة بطولية مثل "استشهاد يحيى السنوار" الدرامي على يد العدوان الإسرائيلي، حيث برزت فيها معالم تشكّل الأسطورة التي ترسّخ صورةً ذهنيةً بعينها.
وعلى تلك الشاكلة، ننظر إلى الأسطورة كونها بمثابة المُثُل في الذهن، تُحاكى على إثرها أساطير اجتماعية وسياسية، من سير الأبطال الشعبية إلى كرامات الأولياء الصوفية....إلخ. لذلك لا يمكن حصر الأسطورة في اتجاه رأسي إلى السماء فحسب، بل إنها حركة أفقية على الأرض أيضاً.
بالنظر إلى أنّ الأسطورة مكوّن رئيس وفاعل ومشترك بين الأديان، حيث ترتبط مع الطقوس والمعتقدات، بشكل بنيوي ووظيفي في تشكيل وبلورة السلوك الديني على مستوى الفرد والمجتمع، فإنها على ذلك المستوى لها وظائف عديدة تكمل بعضها بعضاً، فهي بحسب الأنثروبولوجي برونسلاو مالينوفسكي، "مسألة ثقافية بالغة التعقيد، تُظهر مفعولها في روايتها في سياق اجتماعي".
في أعماق التاريخ البشري، كانت الأسطورة أكثر من مجرد سرد لحكاية مقدسة يتناقلها الناس عبر الأجيال. لم تكن زمناً مضى وانقضى، بل هي وفق هذا الفهم ليست مجرد "حدث جرى في الماضي وانتهى، بل حدث ذو حضور دائم". إذاً الحدث الأسطوري، لا يُروى كذكرى، بل يُعاش كحقيقة دائمة تُحاكي واقع الإنسان وتلبي حاجاته.
تتمركز الأسطورة في قالب حكاية تخاطب الإنسان في مختلف جوانب حياته: السياسية، الاجتماعية، والثقافية، بلغة مجتمعها ومفردات زمنها. إنها نمط حيّ يعكس كيف يرى الإنسان القديم نفسه والعالم من حوله، وكيف يعيد تشكيل معانيه ومفاهيمه من خلالها.
ومع دخول العصر الحديث، وتقدّم العلوم الطبيعية والإنسانية، بدا في الظاهر أنّ مكانة الأسطورة تراجعت، واقتصرت -كما قيل- على مهمة "تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حيّة". غير أنّ هذا التبسيط لا يصمد أمام الدراسات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية، التي أثبتت أنّ للأسطورة دوراً مركزياً في الثقافات التقليدية، بوصفها أداةً شاملةً لفهم العالم وتنظيمه.
في هذا السياق، وبالعودة إلى دراسات مالينوفسكي الميدانية، التي درس خلالها الثقافة الميلانيزية في نيو غينيا، تبيّن أنّ الأسطورة هناك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل مناحي الحياة: الشعائر، الأخلاق، والسلوك الاجتماعي. يقول مالينوفسكي: "تلبي الأسطورة في الثقافة البدائية وظيفةً لا غنى عنها: إنها تعبّر، تعزز، وتقنن الاعتقاد. إنها تحمي وتدعم الأخلاق، وتشهد على فاعلية الشعائر، وتحتوي القواعد العملية لإرشاد الإنسان. (...) ليست قصةً تافهةً، بل قوة نشطة شاقة، إنها ليست تفسيراً ذهنياً أو خيالياً فنياً، لكنها عقد براغماتي للإيمان البدائي والحكمة الأخلاقية."
بهذا الفهم، لا تعود الأسطورة مجرد حكاية مقدسة قديمة، بل تُصبح مخيالاً ثقافياً حيّاً يعيش مع الإنسان، ويواكب تطلعاته وتحدياته. إنها تقدم للبشر تفسيراً رمزياً لأسئلة وجودية عميقة، من قبيل: لماذا يوجد الشر؟ ما معنى الموت؟ وما موقع الغريزة الجنسية في الوعي والسلوك البشري؟
للأسطورة أبعاد متعددة، لا تُفهم فقط باختزالها في الفضيلة أو نقيضها، فإذا كانت الأسطورة ضرورةً وجوديةً في نظر الإنسان القديم، فلأنها تزوّده بالقصص الأصلية التي تفسر له كيانه، وتضيء له مسار تجربته في العالم. إنها الرابط الذي يجمع بين البشر، والحيوانات، والطبيعة، والآلهة، في شبكة رمزية موحّدة
لكن الأدوار التي تؤديها الأسطورة لا تقف عند حدود الفلسفة أو المعتقدات، بل تمتد إلى الحقول الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية. فهي تؤطر التصورات الجمعية، وتُسهم في بناء الهوية الثقافية، وتلعب دوراً خفيّاً في تنظيم العلاقات داخل المجتمعات. ومن ذلك تكون الحاجة إليها، خاصةً في المجتمعات الشرقية.
الأسطورة إذاً ليست ذكرى ماضٍ مندثر، بل هي كائن حي، ينبض في وجدان الإنسان وثقافته، ويوجه سلوكه، ويمنحه أدوات رمزيةً لفهم نفسه والعالم.
الملاذ الأخير... أسطورة العرب أمام الفوضى
سطّرت الكثير من النصوص، أسطورة البطل "ناصر"، مثل احسان عبد القدوس وغيره... لكن حينما حاكى جمال الغيطاني، في روايته "الزيني بركات"، واقع هزيمة الفترة الناصرية في سردية ميتا تاريخية، ابتعد عن تفكيك الأسطورة وجذورها، وركز بدلاً من ذلك على نزع الصورة الأخلاقية للبطل القومي، من خلال نموذج شخصية "الزيني بركات" التاريخية الذي صار عزيز مصر الذي يتحدث بالفضيلة والعدل بينما يفعل العكس في الخفاء. وذلك في خضم حالة الهزيمة إبان سقوط الدولة المملوكية على يد الاحتلال العثماني.
لكن كما أشرنا سابقاً، يبدو أنّ للأسطورة أبعاداً متعددةً، لا تُفهم فقط باختزالها في الفضيلة أو نقيضها، فإذا كانت الأسطورة ضرورةً وجوديةً في نظر الإنسان القديم، فلأنها تزوّده بالقصص الأصلية التي تفسر له كيانه، وتضيء له مسار تجربته في العالم. إنها الرابط الذي يجمع بين البشر، والحيوانات، والطبيعة، والآلهة، في شبكة رمزية موحّدة. من هنا، جاءت "أسطورة الأصل"، كتجلٍّ واضح لهذه الوظيفة؛ فهي سردٌ لتكوين الشيء المعين، خاصة عندما يكون موضع ضرر أو خطر. وما يحدث في الأسطورة يمكن أن يتكرر، لتُصبح وسيلةً للسيطرة أو العلاج. فمن دون معرفة "أصل" الشيء، لا يستطيع الفرد أو الجماعة التحكم فيه أو مواجهته.
تؤدي الأسطورة إذاً وظيفةً مركزيةً في المجتمعات القديمة، حيث تشكّل جسراً بين الدنيوي والمقدّس، وتمنح الحياة معناها وقيمتها. فبحسب مارسيا إلياد، فإنها تُخبر الإنسان أنّ "التاريخ له قيمة ونموذج يُحتذى به. فهي تفسر وتبرز وتقنن الاعتقادات (...) وهي الكشف عن نماذج مثالية لجميع الطقوس وجميع أوجه النشاط البشري المحملة بالمعنى، كالغذاء والزواج والعمل والتعليم والفن والحكمة."
بهذا المعنى، يمكن مقاربة الأسطورة الدنيوية، المعاصرة، إذ تُعدّ أيضاً وسيلةً ممكنةً للبقاء في عالم فوضوي مليء بالمخاطر والحروب والمرض والموت، عبر منح كل ذلك بنيةً رمزيةً تُمكّنه من الصمود والاستمرار.
ومن هذا المنظور الثقافي، تؤدي الأسطورة دوراً عميقاً في مقاومة العدم، كما تُبيّنها لنا كارين أرمسترونغ: "الأسطورة توقظ فينا النشوة الروحية حتى في وجه الموت واليأس اللذين يتولدان من تصور العدم والفناء، ومتى توقفت الأسطورة عن هذا التأثير، فإنها تموت وتصبح عديمة الفائدة، وتوقف التحفيز على أن نعيش حياتنا بغنى أكثر."
لكن الأسطورة لا تُقرأ فقط عبر عيون الماضي، بل يُمكن النظر إليها أيضاً من زاوية بيولوجية عصبية حديثة. فوفقاً لهذا التصور، تستجيب الأسطورة لاستعدادنا البيولوجي العميق لتكوين المعنى. وفي هذا السياق، يقول الميثولوجي الأمريكي جوزيف كامبيل، إنّ غاية الأسطورة "سبر هذه الأعماق الداخلية وإخبارنا من خلال الرموز والاستعارات عن جوهر أنفسنا، حيث الوعي يفرض أسئلته الكثيرة والمُلحّة؛ لماذا وُلدنا إذا كنا سنموت؟".
تشير الدراسات العصبية الحديثة في مجالي "الدين والأسطورة"، إلى أنّ نشأة الأسطورة ارتبطت بتطور الدماغ البشري، خصوصاً الفص الجداري المسؤول عن التفكير السببي، والثنائية، واللغة. هذا التطور مكّن الإنسان من إدراك العالم على نحو رمزي، وتحليل التجارب الحياتية بنماذج تفسيرية عالية التعقيد. ومن هنا، انطلقت الأسطورة كوسيلة بيولوجية-ثقافية لمواجهة القلق والتهديدات الوجودية.
في الحالة العربية، ظلت فلسطين منوالاً رمزياً تُنسَج عليه الأساطير دون أن يُصنع الواقع. تحوّلت إلى ملاذ للمشاريع الفاشلة في الأقطار العربية، باعتبارها مصنعاً رمزياً للحكايات الجماعية والمشاعر الجمعية.
في المقابل، عندما يواجه الحيوان الخوف كردّ فعل مباشر على مثير خارجي، فإن الإنسان، المميز تطورياً، يعيش خوفاً مركباً يشمل التفكير المجرد في الاحتمالات، والمجهول، والموت. وهنا تظهر الحاجة إلى "ابتكار" الرموز، والقوانين، والقصص، والأساطير، كأدوات للتكيّف النفسي والثقافي. وعليه، فإنّ استمرار الأسطورة في أطوارها المتعددة لم يكن مجرد إرث ثقافي، بل ضرورة عصبية تفرضها الحاجة إلى ترتيب الفوضى وتحويلها إلى انتظام.
هكذا، يُمكن القول إنّ استدعاء الأسطورة في الحياة النفسية والاجتماعية والسياسية ما هو إلا حيلة تطورية-ثقافية قديمة، لتجسيد اللحظة التاريخية في صورة رمزية تمنحها المعنى وتُضفي عليها طابعاً من القداسة. غير أنّ الحكاية لا تنتهي هنا، إذ إن المخيال الحديث، بما يحمله من مكتسبات التفكير النقدي في شتى العلوم الاجتماعية والسياسية، يدفعنا إلى التساؤل عن عالم اليوم، إذ لا تزال المجتمعات تصنع "أساطيرها"، وإن ارتدت ثوباً عصرياً.
لكن المعضلة لا تكمن في استمرار الأسطورة، بل في تحولها إلى بديل عن الفعل الواقعي. فكما شهدنا في عقود الحلم العروبي، صُنعت أساطير الأمة العروبية الكبرى، وانتهت تلك السردية بمأساة، وما زلنا حتى اليوم نعيش تداعياتها، ونُكرّر القصة نفسها، وننتظر "المخلّص" القادم، كما لو أننا ما زلنا نعيش داخل أسطورة المهدي المنتظر.
وفي ظل هذا الانهيار، ظلت القضية الفلسطينية تمثّل آخر رابط رمزي في أسطورة "العرب"، وآخر حكاية جماعية لم تُغلق بعد. تحولت فلسطين إلى خشبة مسرح تتكرر عليها سرديات البطولة والخسارة والشهادة والتراجيدية. ولم تعد الحكاية محض تضامن سياسي أو قضية أرض، بل تحوّلت إلى ما يشبه "أسطورة الأصل"؛ طقس يُعاد باستمرار لتذكير الذات العربية بالمشكلة الأبدية: تحرير الأقصى.
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال أنّ إسرائيل نفسها قامت على أساس قصص أسطورية؛ "الأساطير اللاهوتية"، وهي ثلاثة أساطير رئيسية: أسطورة الوعد، وأسطورة الشعب المختار، وأسطورة يشوع (التطهير العرقي). فقد بُني مشروعها السياسي والاجتماعي على سرديات الأرض المقدسة، والوعد الإلهي، والتاريخ الديني لبني إسرائيل. لكن الفارق الجوهري أن تلك الأساطير لم تظل مجرّد روايات، بل تجسّدت في بنى مادية وتشريعية ومؤسسية للسياق التاريخي، حتى أصبحت واقعاً ممأسساً يخدم المشروع القومي الاستيطاني.
أما في الحالة العربية، فقد ظلت فلسطين منوالاً رمزياً تُنسَج عليه الأساطير دون أن يُصنع الواقع. تحوّلت إلى ملاذ للمشاريع الفاشلة في الأقطار العربية، باعتبارها مصنعاً رمزياً تُنتَج فيه الحكايات الجماعية والمشاعر الجمعية، لكن دون ترجمتها إلى خطوات سياسية فاعلة. إنها السردية الأخيرة التي لا تزال تحكي عن "أمة"، كحتمية تاريخية للوعد الإلهي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.