النطق بكلمات مثل "جنس"، "مضاجعة"، و"نكاح"، وإن بلغات أخرى أجنبية، أمر مقبول لا يثير حرجاً كبيراً وابتذالاً. غير أنّ الأمر لا يسير هكذا حين تُقال هذه الكلمات بالعامية المغربية أو الأمازيغية، حيث تفقد فجأةً براءتها وتتحول إلى كلمات فظّة، صادمة، فاحشة، وأحياناً تبعث على الضحك، وتفتح أبواب "العيب" و"الحشمة".
حين أتلفظ بكلمة جنس، بلغتنا، لا تُسدِي إليّ تحصيناً طبقياً أو علمياً، عكس العربية والفرنسية والإنكليزية. وكأنّ اللفظة تنتمي إلى حقول نخبوية معقمة من الشهوة، والجنس لا يباح إلا بلغة بعيدة، لا تدخل في خانة "موبقات الأخلاق"، فتكون اللغة مهذبةً ظاهرياً، ليس لأننا نخجل من الجنس في حدّ ذاته، فهو في كل اللغات ممارسة لفعل واحد، إنما لأننا نتكلمه بلغة نسيجنا اليومي.
هذه الهوّة تفصح عن علاقة مشوّشة بأجسادنا، واللغة التي تعبّر عنها، والسلطة التي تقرر متى وكيف وأين وبأيّ لسان يُسمح أن نسمّي الأشياء بأسمائها، والأمر نفسه ينطبق على أسماء أعضائنا التناسلية كلها.
تصنيفات غير بريئة
يكشف ميشيل فوكو، في "تاريخ الجنسانية"، أنّ الكلمات التي نعبّر بها عن الجنس، بمختلف تلويناتها: علمية، طبية، دينية، عامية، وأدبية، ليست متساويةً من حيث القيمة والشرعية. ثمة دوماً فصل بين ما يُصنَّف لغةً علميةً، وما يُنظر إليه كلغة مبتذلة، واللافت أنّ هذا التصنيف ليس بريئاً، حيث تتدخل فيه السلطة لتحدد من يملك شرعية القول، ومن يُحرم منها.
يعزو الفيلسوف الفرنسي ذلك، إلى أنّ الخطاب الذي تم إنتاجه لا يُحرّر، بقدر ما يضبِط ويُخضِع، إذ تصبح فيه المفردة الجنسية حين تُقال في لغة اليومي أو لهجة الأمّ أكثر فظاعةً، ليس لأنها أكثر فحشاً، بل لأنها تُهدد ترتيباً رمزياً يُريد للجنس أن يكون "مؤدّباً"، "عاقلاً"، و"نظيفاً"، يَحول دون جسدانية القول.
النطق بكلمات مثل "جنس"، "مضاجعة"، و"نكاح"، وإن بلغات أخرى أجنبية، أمر مقبول لا يثير حرجاً كبيراً وابتذالاً. غير أنّ الأمر لا يسير هكذا حين تُقال هذه الكلمات بالعامية المغربية أو الأمازيغية
السلطة الرمزية وهي تعيد إنتاج الكلام الجنسي، تنصفه في مقام، وتشيطنه حين ينبثق من نسيجنا اليومي، ليُفسَح المجال لكلمة زئبقية، تلاحقنا في كل أنشطتنا اليومية والتداولية، هي: "حشومة"، أحياناً تعبّر عن العيب أو الحرام، وأحياناً تلبس لباس الخجل والحياء.
كل استدعاء لـ"حشومة" لا يبرره ما يأتي بعده. وكل كلام يُفتتح بها إقصاء للمعنى باسم الحياء. هي مساهمة آلية لحكم أخلاقي مسبق، وهي إدانة رمزية ومساهمة قمعية للتفكير وتحجيم الأفعال في حدود مسبقة.
نظام أبوي قاسٍ
في هذه السوق القبلية للكلمات، أعجز عن تحمّل ألفاظ منمّطة، تحدد ترتيب الأفراد، بين من هو مُنزّه وبريء ومن هو سيئ السمعة: "وُلْد الناس" و"بنت الناس"، وهما مصطلحان يطلقهما مجتمع يهرب فيه أفراده من الواقع لبناء متخيّلهم الجنسي.
لا يحيل هذان التعبيران سوى على "متمنّيات" أفراد لا يخططون إلا لتلبية رغبات معيّنة. "ولد ناس" و"بنت ناس"، ما هما إلا تمثّلات لأشخاص غارقين في أوحال النقاء الاجتماعي. الشاب المغربي، يمكن أن يفعل أي شيء في حياته، وقد يعيش متحرراً من كل قيد، وحينما يقرر الزواج، يبحث عن "بنت الناس" (العفيفة، الطاهرة، والمتدينة)، ليتخذها مظلّةً تضفي عليه شرعية أنه "ولد ناس"، ليعيد تشكيل ذاته، وفق صورة ثنائية: "الابن الصالح والمرأة الصالحة".
المرأة هنا يُنظر إليها على أنها مجرد قطعة وظيفية، ترمّم هويةً مكسورةً، وليست فرداً حرّاً، إنما رهينة محكومة بمقاييس العفة والتربية الجيدة والحِشْمَة. قد تبدو عبارة "بنت الناس" للوهلة الأولى إطراء، لكنها ليست سوى أداة ضبط اجتماعي، وإسقاط لذوات تتوق إلى خلاص رمزي، في ما تفتقده وجودياً.
للأسف، ينظر البعض إلى المرأة في مجتمعاتنا وكأنها تشتغل مثل ريموت، كل أزرارها مستجيبة ومطيعة، لا تتعطل ولا تعارض، يتم التنقل بها بين المسموح والممنوع: في اللباس والكلام وأسلوب الحياة، وكل انزياح لها ينزع اللقب منها. كيف لا وهي شاشتنا جميعاً، والشاشة لا يمكن إلا أن تكون شرفاً جماعياً موهوماً؟!
إيّاها أن تكون ناقصةً أو متعثرةً أو حتى في طور التكوين. عليها أن تكون مهيّأةً دائماً لتوضع في جدول "بنت الناس"، المؤهلة في أي وقت للزواج، لا لشيء سوى لتؤدي غطاء أخلاقياً لـ"ولد الناس"، الذي أراد إعادة هندسة سمعته. أما هو، أي "ولد الناس"، فلا يُساءل بالصرامة نفسها، بل إن أخطاءه وتجاربه كلها مبررة، لأنها "رجولية".
هذا التوزيع الطبقي للأدوار، تجسيد لنظام أبوي قاسٍ، يُقنّن الاختيارات والحريات، ويجعل من علاقاتنا الإنسانية، تبادلاً لمصالح أخلاقية تخفي هشاشة قيم مستعارة وهشاشة خيال جمعي يسكن في اللغة. إنه إخفاق في التفاوض مع الواقع والعالم.
"للأسف، ينظر البعض إلى المرأة في مجتمعاتنا وكأنها تشتغل مثل ريموت، كل أزرارها مستجيبة ومطيعة، لا تتعطل ولا تعارض، يتم التنقل بها بين المسموح والممنوع: في اللباس والكلام وأسلوب الحياة"
وتتلاشى الرقابة كلها، وتُزعزَع هيبتها الرمزية في النكتة الجنسية، التي نكون فيها مولَعين بشهوة الكلمة، ونعطل فيها المسكوت عنه. قد نخلق فيها مسافةً بيننا وبين معاناتنا مع الصور الهشّة عن أنفسنا، لكنها انتصارٌ للحرية وتحرّرٌ لحظي من جميع الأنساق السياسية والدينية والاجتماعية.
قوة النكتة، في مدى قوتها الشبقية، وهي تعبّر عن ثورية مقنّعة، تجعل السلطة تنمحي أمامنا، فتكون ميداناً لتصريف الرغبة، وتمدّنا بشعور جميل بالتواطؤ والاعتراف المتبادل.
لا أظن أنّ خالق الكون سيغضب من مرادفات لغتنا ولهجاتنا، هو الذي من آياته اختلاف ألسنتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ 23 ساعة❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 6 أيامWow !