لا شيء يدعو للفرح سوى أنّ هذه الإبادة ستموت حتماً، ريثما تفرغ من لحمنا.
نتساءل نحن أهل غزة، بعيداً عن أسئلة الموت التي لا إجابة عنها سوى العبث: لماذا نبحث الآن عن الطحين؟ لماذا نبحث عن ملعقة سكّر؟ لماذا يطالبون مؤسسات الإغاثة والمنظمات باستئناف إدخال المساعدات إلينا؟
أولئك الذين سلّموا للإبادة، لماذا يريدون لنا موتاً بطيئاً؟
تمخّض العالم بتجاربه وحروبه السابقة كلها، ومؤسساته وقوانينه جميعها، ليجلب لنا موتاً دون جوع، موتاً… دون… جوع.
فتحت أمي آخر كيس طحين لدينا. خضنا الشقاء لئلا نصل إلى اليوم الذي نحدّق فيه في كيس الطحين وهو ينقص كأنّ أعمارنا فيه، أو نمضغ أرغفة الخبز كمن يضع حياته تحت مقصلة.
أودّ إخباركم بأنّ الجوعَ قاسٍ، عشته قبل ذلك طويلاً، وهو يشبه أن تقيم في صدرك صحارى وزنازين.
أيها الغارقون في بحار الوهم، وجبال الهناء، يحصل أن تأتي إليكم مواسم السواد والوجع، لا تأخذوا معكم ماضياً ولا ذكريات، لا شيء يشفي أوجاع الحنين.
أيها الغارقون في بحار الوهم، وجبال الهناء، أعيرونا أحزانكم قليلاً، كي نحلّي بها أيامنا التي من مرار.
*وقفة ضرورية
(طائرة حربية تتسلّق السماء، صوتها يشي بأنها ستغير على مكان ما. أنا أكتب إليكم. أمي في البيت تدعو: "الله يرحم اللي هلقيت عايش وحيموت بعد لحظة").
نتساءل نحن أهل غزة، بعيداً عن أسئلة الموت التي لا إجابة عنها سوى العبث: لماذا نبحث الآن عن الطحين؟ لماذا نبحث عن ملعقة سكّر؟ لماذا يطالبون مؤسسات الإغاثة والمنظمات باستئناف إدخال المساعدات إلينا؟
أبقى في البيت دائماً
لا أخرج من البيت، محظوظٌ أنني أكتب هذه الجملة. الحظّ وحده جعل نافذتي منتصبةً مثل قلب يرتجف.
لا أخرج من البيت، هكذا أقلل احتمالات موتي، برغم أنّ قريباً لي تبنّى هذه الفكرة، وقُتل وهو نائم، بين أبنائه، تحت غطائه المفضل وفوق سريره الوثير. دخلت رقبته شظية عبر النافذة من قصف مجاور، جعلته جثةً في قبرٍ جرفه الاحتلال في ما بعد.
لا أخرج من البيت. أظلّ أياماً طريح قلبي. كيف يعيش الواحد طريح قلبه؟ ينصت إلى كل وجع مهما صغر، ويعيشه كما لو كان مأتماً أبدياً.
هذا يكلفني الوضوح. أعني أنني لا أفهم السعادة من الحزن؛ أن تمارس الحياة كفعل ميكانيكي تمارس فيه لعبة بقاء بيولوجي مفرغ، تؤجل فيه البكاء لما هو بعد، وتؤجل فيه الفرح إلى وقت يليق به، بينما تنتظر خبر الخلاص على منصة أعلنت للتو عن مجزرة جديدة.
في الغالب أحمل هاتفي، وأتصل بمحمود، جاري وصديقي الذي ينتظر مكالمتي، ليقول "نعم" على أيّ مشوار أقرره. يعرف أنه نافذة، ويعرف كم أختنق في البيت.
يعرف أنّ مجرد مهاتفته تعني أنني في حالة ميؤوس منها، وأنّ "لفّةً" معه في السوق تكشط بعض الحزن الثقيل عن قلبي.
أرتدي ملابسي، فتقول أمي إنها تليق بواحد "رايح يخطب"، لا بشخص "رايح لفّة عالسوق"، خصوصاً أنني مغرم بقميصي الأبيض.
ليكن في الخزانة ما يكون، القميص الأبيض أولاً، ثم أي شيء بعده.
تخبرني كم يصير قلبها جرحاً ونحن في الخارج، وأنها تغضب في كل مرة أنسى فيها هاتفي في وضع الصامت. تقول حينها إنها تتخيل سيناريوهات عديدة لطريقة موتي، وتسأل: هل ركنوا جسدي في زاوية في مشفى وكتبوا على رأسي: مجهول؟ هل ظلّ جسدي كاملاً أو تفتت؟
الهاتف يرنّ، ولا يعني ذلك بالضرورة أنني حي.
حين يكون هاتفي صامتاً، تدخل رصاصة في صدر أمي بعد كل محاولة اتصال فاشلة، لا يخرجها سوى صوتي.
تتأكد أمي من هاتفي، وتوصيني بالعودة.
تخبرني أمّي كم يصير قلبها جرحاً ونحن في الخارج، وأنها تغضب في كل مرة أنسى فيها هاتفي في وضع الصامت. تقول حينها إنها تتخيل سيناريوهات عديدة لطريقة موتي، وتسأل: هل ركنوا جسدي في زاوية في مشفى وكتبوا على رأسي: مجهول؟ هل ظلّ جسدي كاملاً أو تفتت؟
جولة قصيرة في شوارع غزة تورثك حزناً أبدياً، وتعلّمك كيف تصير الحياة العادية توقاً وأمنيةً، حين تقف الأيام كلها على حافة كل شيء.
في طريق الذهاب والعودة، لا بدّ أن أمرّ من مقبرة مفتوحة على مصراعيها بلا أسوار. آخر قبر على امتداد الأفق يلامس زرقة السماء. لا أفهم كيف يمكنني غداً أن أراقص حبيبتي تحت مطركِ أيتها السماء.
يسكن النازحون في المقبرة، حيث نصبوا خيامهم، وثبّتوها بأحجار المقابر. للأموات هنا عمل آخر، أقسى من الموت.
من خلف الخيام تصعد طائرة ورقية، يقف خلفها طفل بملابس متسخة، أقف، أخبره بأنني سأصوّره، يتشجع ويطيّر الطائرة ويرخي لها الحبل. في رأسي يكتب النص نفسه:
"قبل أن تسقط الأشجار والبيوت
كان الحزن معروفاً لدينا
للصغير والكبير
للأكاديمي وشغّيل القهوة
حتى جاءت أعوام غريبة لا نفهمها
ترسم الحزن
على شكل طائرة ورقية في مقبرة
يطيّرها طفل يضحك".
الإبادة الأقذر ليست حجةً للانهيار
يزعجني أنني أفكر، ويروق لي أولئك الذين يعيشون لحظتهم بمعزل عن كل شيء. أسأل نفسي وأنا أحمل كتاب الجامعة، وأنا أسمع محاضرةً مسجلة: لماذا عليّ أن أدرس؟
في لغة الشعار يظهر ذلك أسطورياً ومقاومةً للتجهيل، وفي لغة ذاتي: هل هناك غد؟
يبدو هذا السؤال مصاحباً لأي توقيت في أي مكان، لحتمية الموت، لكنه يصير ملحّاً حين تصير نزهة قصيرة على باب البيت، أو نوم قصير تحت النافذة، محاولتين حقيقيتين للانتحار.
إن عشت، سأكمل تعليمي، ولا أعرف إلى أي مدينة سأسافر. أتخيل أنني فقدت الثقة بهذا العالم. لن أعيش حياةً سويّةً بعد الآن. ستكون فلسطين ذلك الشرط الذي يحدد كيفية تعاملي مع أي أحد.
سجّلت فصلاً كاملاً في الجامعة. شعرت بأنّ وقتاً يسحل من يدي بلا فائدة. أول اختبار نصفي قدّمته إلكترونياً، صاحبته أخطاء تقنية فادحة في الأسئلة. أربك ذلك الطلاب والطالبات. إحدى الطالبات تقول على مجموعة الواتساب إنها تجلس في الشارع تحت الشمس منذ ساعة، في نقطة إنترنت، بعيداً عن مكان نزوحها، وإن هذا الخطأ كلّفها كثيراً.
لا بأس، ما دام أنّ شعار التعليم يعمل برغم الإبادة.
إن عشت، سأكمل تعليمي، ولا أعرف إلى أي مدينة سأسافر. أتخيل أنني فقدت الثقة بهذا العالم. لن أعيش حياةً سويّةً بعد الآن. ستكون فلسطين ذلك الشرط الذي يحدد كيفية تعاملي مع أي أحد.
إن عشت، سيكون مجازفةً أن أنجب طفلاً.
ربما أتخلى عن حب أن يناديني أحد "بابا" لصالح ألّا يخبرني طفلي بأنه جائع، وأعجز عن فعل شيء، أو أن يصير ملاكاً متقاعداً ويُبتر. آمل ألا أكون أنانياً.
في هذه اللحظات، أريد انهياراً. هذا يساعدني على أن أكون أكثر حقيقيةً في كتابتي، ويراكم صفة الإجرام على الاحتلال، ويصقل رواية الوجع الذي نعيشها، والمظلمة.
خسرت معاركي كلها
قلت إنني في البيت. طويلاً أظلّ دون رفاق، وطويلاً أعيش في رأسي. أستيقظ باكراً، قبل الجميع، وأكتب قلبي. أغتسل. من السيئ أن تكون حالتك النفسية بل يومك كله رهن اغتسالك، في مدينة يشحّ فيها الماء. وأدرس. الانهيار ليس خياراً حتى في الإبادة الأقذر. وأقرأ. وأقف على النافذة. أصير شخصاً آخر عند النافذة، "وشخصاً آخر" هذه تعني في أسوأ الأحوال، أنا، أنا الذي أريد، وأفتقد.
لا تطلّ نافذتي على حقول وبيّارات، أو على شاطئ البحر، بل تطلّ على كتل الإسمنت مثل أي نافذة في المدينة. على أي حال، تظلّ نافذةً.
يعجبني الأفق، لذا أحفظ البيوت البعيدة، وأشكالها، وأعطيها قصصاً، وأخمّن حال سكانها، وأسماءهم. أقول إنني هنا، حزينٌ ومحبط، وربما يوجد هناك حزين ومحبط آخر، وكلانا نحدّق في الأفق، وننتظر الفرح.
نحن آفاق لغيرنا.
تعودت أن أحافظ على فقرة النافذة، حتى قبل أن تصير الفسحة الوحيدة التي أمتلكها، في ضوء العزلة التي أعيش، فلقد تعودت سابقاً أن أكتب قصائدي عليها، وأسمع الأغنيات، وأتابع خطو الغيوم.
قبل أيام، فوجئت بحدثٍ كسر قلبي، وأعلن هزيمتي الأخيرة.
لم أعد أطيق الوقوف على النافذة كما أفعل وفعلت طوال حياتي القصيرة، صرت أعيش أوقاتي بنقّ وعصبية، وأخبر أولئك الذين ينتصرون من بعيد، من خارج حدود غزة ومرمى النار، أنني هُزمت. لا أحد يصدق أنني هُزمت. لماذا لا يصدّق أحد أنني هزمت؟
بينما أحدّق في الأفق، وأعدّ البنايات التي بقيت، بعيداً عن مرمى النظر والوضوح، رأيت تلالاً رمليةً، ورافعة بناء، وعلماً فوق سارية طويلة، يحتلّ الهواء بشموخ مصطنع، كان بإمكاني أن أحدد هوية هذا العلم، ولأنني تمكنت من ذلك، صار قلبي حقلاً كبيراً كبيراً ومسوّراً، تركل الفزاعات عنه العصافير، وأجنحة الحمام، وتصادر من الشمس شهوتها لعروق النعنع وورد المصادفة. ولم أعد أطيق الوقوف على النافذة كما أفعل وفعلت طوال حياتي القصيرة، صرت أعيش أوقاتي بنقّ وعصبية، وأخبر أولئك الذين ينتصرون من بعيد، من خارج حدود غزة ومرمى النار، أنني هُزمت. لا أحد يصدق أنني هُزمت. لماذا لا يصدّق أحد أنني هزمت؟
ربما لأنهم لو طلبوا مني لوحةً أتخيل فيها الهزيمة، سأرسم تلالاً رمليةً، رافعةً، وعلماً حقيراً، خلف نافذة مورّدة.
ولن
يفهم
أحد
منهم
معنى
ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mohamed hatem hussein -
منذ يومجميل، فكرنى بعرض مسرحي للمخرج الفرنسي / المغربى محمد الخطيب اسمه la vie secrète des vieux
Nezar Kheder -
منذ يومالفقر ، الجوع لا فضيلة لهم ، انهم الطريق الى العدم و الانحلال من كل شيء حتى الحلم
Nezar Kheder -
منذ يومالفقر ، في هذا المسار
Africano Maro -
منذ يومينالله يكون فى العون
Mohammed Alamir -
منذ 3 أيامالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة بنكبر بقدر الأحداث البنعيشها قصف و انسحاب و مجاعة و حصار...
Mohammed Alamir -
منذ 3 أيامالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة