هذه المرة، أخطأ حائك السجاد الإيراني بحسابات الوقت. أمضى أكثر مما ينبغي في حياكة سجادة ردّه على الطرح الأمريكي في ما خص ملفّه النووي. عادةً، شهران وأسبوع ليسا بالوقت الطويل في قضية مثل هذه القضية المعقدة والمصيرية بالنسبة إلى إيران وإلى كامل الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة كان التوقيت على ساعة الرئيس الأمريكي النَزِق دونالد ترامب.
سبق أن عبّر ترامب عن إحباطه من المسؤولين الإيرانيين وبطئهم في الرد على الرسائل، كما اشتكى فريقه من صعوبة التأكد مما إذا كان محاوروهم الإيرانيون يتمتعون بأية صلاحية تخوّلهم التحدث باسم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
مهلتان قال ترامب إنه منحهما للإيرانيين، الأولى مدتها 60 يوماً، والثانية كانت أقصر بكثير.
في 13 حزيران/ يونيو، مباشرة بعيد بدء الهجمات الإسرائيلية على إيران، كتب ترامب على موقع "تروث سوشال": "قبل شهرين، أعطيت إيران مهلة 60 يوماً لإبرام صفقة. كان ينبغي عليهم التوصل إليها! اليوم هو اليوم الـ61...".
تضع الولايات المتحدة إمكانية قيام إيران بالرد ضمن حساباتها بالتأكيد، وجهّزت عسكراً كثيراً لهذا الاحتمال في الأيام الأخيرة. رغم ذلك، لا يزال يُرجَّح أن ترامب لا يرغب في الانخراط في معركة طويلة لإسقاط القيادة الإيرانية، حسبما أبلغ مستشاريه ومعارفه
وفي 19 حزيران/ يونيو، أطلّت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت لتلقي رسالة مقتضبة من ترامب مفادها أنه سيتخد قراره في ما خص المشاركة أو عدم المشاركة في قصف إيران "خلال أسبوعين"، ما أعطى أملاً بإمكان التوصل إلى حل عبر المسار التفاوضي.
ولكن ترامب نزق وقليل الخبرة. "فور توليه المنصب في كانون الثاني/ يناير، شرع ترامب في مساعٍ للتوصل إلى حل سلمي للحرب في أوكرانيا وإنهاء حرب إسرائيل في غزة. لكن توقعاته كانت أعلى من المعتاد: بدا أنه يظن أنه سيتمكن من حل هذه الصراعات بجهد قليل نسبياً وخلال أسابيع، لا سنوات"، كانت الباحثة في "مركز ستيمسون"، والأستاذة المساعدة في جامعة "جورجتاون" إيما آشفورد، قد كتبت في مقال بعنوان "ترامب يفتقر إلى الصبر اللازم لتحقيق السلام"، نُشر في 20 حزيران/ يونيو، في مجلة "فورين بوليسي".
قدّرت آشفورد أن "الجداول الزمنية القصيرة- ونفاد صبر الرئيس نفسه- تجعل من الأسهل كثيراً على أولئك الذين يريدون فشل الدبلوماسية أن يستغلّوه". ربما هذا ما حصل، وربما كان كل الأمر مجرّد خدعة لاستكمال الولايات المتحدة الترتيبات العسكرية اللازمة، وهو ما ذهبت إليه صحيفة "واشنطن بوست" في افتتاحية باسم هيئتها التحريرية قالت فيها: "بات من الواضح الآن أن الرئيس دونالد ترامب كان يضلّل العالم- بما في ذلك الرأي العام الأمريكي- عندما أعلن يوم الخميس أنه سيستغرق ما يصل إلى أسبوعين لاتخاذ قرار بشأن قصف إيران".
على أي حال، لم يمرّ اليوم الثالث من مهلة الأسبوعين إلا وكان ترامب قد اتخذ قراره بضرب إيران والنتيجة: ألقت ست قاذفات من طراز "بي تو" 12 قنبلة خارقة للتحصينات من نوع "جي بي يو 57" تزن كل منها 13.6 أطنان على منشأة فوردو، وأطلقت غواصات تابعة للبحرية الأمريكية 30 صاروخ كروز من طراز توماهوك على منشأتي نطنز وأصفهان، حسبما قال مسؤول أمريكي لصحيفة "نيويورك تايمز" مضيفاً أن إحدى طائرات "بي تو" ألقت أيضاً قنبلتين خارقتين للتحصينات على نطنز.
خيارات النظام الإيراني ليست كثيرة. ويله إذا ردّ من تبعات توسيع أمريكا لضرباتها، وويله إذا لم يردّ من خسارته لشرعيته في أعين مواليه داخل إيران وخارجها.
هل سرّع "اختفاء خامنئي" بالضربة؟
يروي الصحافي باراك رافيد في مقال نشره موقع "أكسيوس"، في 21 حزيران/ يونيو، قبل شنّ أمريكا ضربتها على إيران، بعنوان "القناة الخلفية لترامب مع إيران فشلت بعد أن اختفى المرشد الأعلى عن الأنظار"، أن ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان سعيا هذا الأسبوع إلى ترتيب لقاء بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين رفيعي المستوى في إسطنبول، ولكن "انهارت المحاولة بعدما تعذر الوصول إلى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، الذي يُعتقد أنه متوارٍ عن الأنظار خشية اغتياله، للموافقة على الاجتماع".
حسب رواية رافيد، تلقى ترامب يوم الاثنين، في 16 حزيران/ يونيو، مكالمة هاتفية من أردوغان اقترح فيها الأخير عقد اجتماع في إسطنبول في اليوم التالي بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين لمناقشة حل دبلوماسي للحرب، وذلك بحسب ثلاثة مسؤولين أمريكيين ومصدر مطّلع مباشرة على المسألة. وافق ترامب، وأبدى استعداده لإرسال نائبه جي دي فانس والمبعوث الرئاسي ستيف ويتكوف، بل وحتى السفر بنفسه إلى تركيا للقاء الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إذا لزم الأمر للتوصل إلى اتفاق.
بعد ذلك، نقل أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان المقترح إلى بزشكيان ووزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي، فحاولا التواصل مع خامنئي للحصول على ضوء أخضر منه، لكنهما فشلا في الوصول إليه، فأبلغا الأتراك بالأمر ما دفع أنقرة إلى الاتصال مجدداً بواشنطن وإبلاغها بأن الاجتماع ألغي.
ماذا بعد الضربة؟
في الكلمة التي ألقاها وتحدث فيها عن العملية العسكرية الأمريكية، قال ترامب إن إيران "عليها الآن أن تصنع السلام"، وأرفق ذلك بتهديد واضح: "إما أن يكون هناك سلام، أو ستكون هناك مأساة لإيران تفوق بكثير ما شهدناه خلال الأيام الثمانية الماضية"، مهدداً بضرب "العديد من الأهداف المتبقية... إذا لم يتحقق السلام بسرعة". وأتبع ذلك بمنشور على منصة "تروث سوشال" كتبه بالأحرف الكبيرة وقال فيه إن "أي رد انتقامي من إيران ضد الولايات المتحدة الأمريكية سيُقابل بقوة تفوق بكثير ما شُهد عليه الليلة".
تضع الولايات المتحدة إمكانية قيام إيران بالرد ضمن حساباتها بالتأكيد، وجهّزت كثيراً لهذا الاحتمال في الأيام الأخيرة. فقد عززت القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط دفاعاتها الجوية، ونُقلت طائرات مقاتلة إضافية من طراز "أف 22" و"أف 35" و"أف 16" تابعة لسلاح الجو الأمريكي من قواعد في أوروبا لتتمركز في الشرق الأوسط، كما أرسلت نحو ثلاثين طائرة للتزوّد بالوقود إلى أوروبا لتكون جاهزة بحال الحاجة إليها.
عدا ذلك، تستقر حاملة الطائرات "كارل فينسون"، التي تحمل على متنها 60 طائرة، من بينها مقاتلات "أف 35" في بحر العرب حالياً، وبعد أيام قليلة ستنضم إليها حاملة الطائرات "نيميتز"، هذا عدا تمركز ثلاث مدمّرات بحرية ("ذا سوليفانز"، "توماس هادنر" و"آرلي بيرك") في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
رغم ذلك، لا يزال يُرجَّح أن ترامب لا يرغب في الانخراط في معركة طويلة لإسقاط القيادة الإيرانية، حسبما أبلغ مستشاريه ومعارفه في الأيام الأخيرة.
في المقابل، من الجانب الإيراني، توجّه خامنئي إلى الأمريكيين في 18 حزيران/ يونيو قائلاً إن "عليهم أن يعلموا أن إيران لن تستسلم وأن أي هجوم أمريكي ستكون له عواقب وخيمة لا يمكن إصلاحها". هذا كلام الرجل الأول والمُطاع في إيران. وبعد تنفيذ الضربات الأمريكية قال الحرس الثوري: "الحرب بالنسبة إلينا بدأت الآن"، وبث التلفزيون الإيراني رسالة مفادها أن "كل مواطن أمريكي وكل عسكري متواجد في المنطقة هو الآن هدف".
هل صار توسّع الحرب حتمياً؟ هل ستقوم إيران باستهداف بعض القواعد الأمريكية الكثيرة المنتشرة في دول مجاورة وتضم حالياً نحو 40 ألف جندي أمريكي، وتقع تحت مرمى صواريخ حرس الثوري؟ هل ستندلع "حرب النفط" فتغلق إيران مضيق هرمز وتطلب من الحوثيين عرقلة الملاحة في البحر الأحمر؟
حتى لو كانت إيران في موقف ضعيف، يقول الكاتب الإيراني-الأمريكي وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة "جونز هوبكنز" فالي نصر إنها لا تزال قادرة على إيذاء القوات والمصالح الأمريكية في المنطقة، وبرأيه "يُدخلنا ضرب إيران في مجهول واسع".
"العديد من خيارات إيران تُعادل، من الناحية الاستراتيجية، عملية انتحارية" و"بإمكانها أن تُلحق أضراراً هائلة بالآخرين"، يقول كريم سجادبور، الخبير في السياسات الإيرانية في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، حتى لو أنها "قد لا تنجو من تبعات ذلك".
"إذا أعقبت إدارة ترامب الهجوم على إيران بعرض مغرٍ، مثل رفع واسع النطاق للعقوبات أو تقديم ضمانات للسلام، فلا يزال هنالك احتمال أن تنظر إيران في تقديم تنازلات. السؤال هو: هل هناك عرض مطروح يمكن أن يلتف حوله الشعب الإيراني في هذه اللحظة؟ إذا كان العرض مجرد عصا دون جزرة، فسوف يقاتلون"
خيارات النظام الإيراني ليست كثيرة. ويله إذا ردّ من تبعات توسيع أمريكا لضرباتها، وويله إذا لم يردّ من خسارته لشرعيته في أعين مواليه داخل إيران وخارجها.
في المقابل، هنالك مَن يعتبر أن ضربة أمريكية مركّزة ومحدودة قد لا تؤدي إلى اتساع الحرب لأن من ضمن حسابات النظام الإيراني حالياً المحافظة على ما تبقى لديه من قوة والحؤول دون تدحرج الأمور إلى عمل واشنطن على إسقاطه.
من بين هؤلاء المبعوث الأمريكي الخاص السابق إلى الشرق الأوسط دنيس روس. سبق أن قدّر أنه "قد يكون بالإمكان احتواء الحرب" إذا وَجهت الولايات المتحدة ضربة لمنشآت إيرانية نووية بغرض شلّ قدرة إيران على إنتاج قنبلة نووية وجرى إيضاح ذلك لها.
أما إذا قررت الولايات المتحدة توسيع نطاق القصف وإعلان أهداف من نوع تغيير النظام، "فقد يشعر القادة الإيرانيون أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وأن أفضل رد بالنسبة إليهم هو إثبات قدرتهم على جعلنا ندفع ثمناً باهظاً. في ظل هذه الظروف، لا أستبعد أن تلجأ إيران إلى استهداف منشآت النفط الخاصة بحلفائنا في المنطقة، وربما إلى فرض حصار على مضيق هرمز، ما من شأنه أن يرفع أسعار النفط بشكل كبير"، بحسب روس.
ومن بين هؤلاء أيضاً فالي نصر نفسه. يعتبر أنه "إذا أعقبت إدارة ترامب الهجوم على إيران بعرض مغرٍ، مثل رفع واسع النطاق للعقوبات أو تقديم ضمانات للسلام، فلا يزال هنالك احتمال أن تنظر إيران في تقديم تنازلات". وبالتالي، برأيه، "السؤال هو: هل هناك عرض مطروح يمكن أن يلتف حوله الشعب الإيراني في هذه اللحظة؟ إذا كان العرض مجرد عصا دون جزرة، فسوف يقاتلون".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.