فرضت المواجهات الإيرانية الإسرائيلية واقعاً سياسياً جديداً على دول الجوار العربية والآسيوية. ففي ظل تصاعد حدّة الضربات والضربات المضادة، تبرز تهديدات متزامنة من الطرفين باستهداف مواقع نووية، وهو ما قد يفتح النار على جميع سكان المنطقة، الأمر الذي استدعى تحرّكات جماعيةً تهدف إلى وقف التصعيد العسكري، وتبنّي مواقف قد تعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية، وترسم من جديد خريطة تحالفات غير تقليدية في المنطقة.
في هذا التقرير، نستشفّ التبعات المحتملة لهذه المواجهة المتصاعدة، والسيناريوهات المحتملة لانتهائها بالنظر إلى مصالح كافة الأطراف المعنية بالصراع.
هندسة جديدة للتحالفات
بين الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، والمواقف الصينية والروسية التي لم تتجاوز حد الإدانة، تقف المنطقة على فوهة بركان مضطرب، على حد وصف الباحثة اللبنانية، تمارا برّو، الأستاذ في الجامعة اللبنانية والمتخصصة في الشأن الآسيوي.
تقول برّو، إنّ خسارة إيران هذه المواجهة تعني السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الإقليم، وإعادة رسمه وفق الرؤى والمصالح الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما قد يُحدث خللاً في موازين القوى والتحالفات الإقليمية.
من "الدبلوماسية الوقائية" إلى "الدبلوماسية النووية النشطة"... إلى أي مدى قد تؤدّي المواجهة المتفاقمة بين إيران وإسرائيل إلى إعادة تشكيل التحالفات السياسية في الشرق الأوسط والعالم؟
تضيف برّو، في تصريحات لرصيف22، أنّ هذه الحرب التي تراها إسرائيل وجوديةً، بينما تنظر إليها طهران على أنها مصيرية، قد تقود إلى أشكال جديدة من التحالفات، وأيضاً إلى مظاهر جديدة من التفكّك بالنسبة إلى الأحلاف القائمة حالياً، كما حدث في بعض البلدان خلال الفترة الأخيرة، مشيرةً إلى أن موقف القوى الآسيوية الفاعلة، بما فيها الصين وباكستان، من غير المرجح أن يصل إلى الانخراط العسكري المباشر في المواجهة العسكرية.
انخراط صيني بالوكالة
وعلى الرغم من دعوة وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف، الدول الإسلامية جميعها، قبل أيام، إلى الاتحاد ضد إسرائيل، إلا أنّ برّو ترى أنّ الدعم الباكستاني لن يصل إلى حد الانخراط العسكري المباشر أو توظيف الترسانة النووية الباكستانية للدفاع عن إيران.
وتشير برّو إلى أنّ الدعم الباكستاني أو حتّى الصيني إن حدثا، فإنهما قد يكونان من خلال صفقات تسليح، مؤكدةً أنّ الصين تحديداً ربما لا تُقدم حتى على هذه الخطوة علانيةً، وإن رأت ضرورة تقديم دعم عسكري للإيرانيين فسيكون الأمر عبر دولة ثالثة، وربما تلعب باكستان هذا الدور.
وتوضح الباحثة اللبنانية أنه من المتوقّع ألّا تتوقّف هذه المواجهة قريباً، ولا تستبعد أن تشهد الأيام المقبلة زيادةً في التصعيد بين الطرفين، مشدّدةً على أن الضربات والضربات المضادة ستظلان مستمرّتين ما لم تقُم القوى الكبرى بلعب أدوار تفاوضية حقيقية تُجبر الطرفين على خفض التصعيد، علماً أنها لا تستبعد أن تكون المفاوضات قد بدأت بالفعل برعاية روسية أمريكية.
وتنبّه برّو إلى أنّ الصين قد تدخل على خط الأزمة بسبب خشيتها من التدخلات الروسية التي قد تربط الصراع الإيراني الإسرائيلي بالحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني إطالة أمد المواجهة واتساع رقعة الأضرار لدول الجوار الآسيوية.
روسيا قد تتخلّى عن إيران
يتفق مع هذا الطرح الباحث المصري، هاني الجمل، مدير وحدة الدراسات الدولية في مركز العرب للأبحاث، إذ يقول إنّ المواجهات الراهنة بين إسرائيل وإيران ستعيد تشكيل التحالفات الاقليمية والدولية بشكل كبير، ولا سيّما أن المشهد يبدو متشابكاً ومعقّداً إلى درجة قد تُجبر بعض الأطراف على الانخراط في الصراع حتّى إذا لم تكن راغبةً في ذلك.
ويوضح الجمل في تصريحات لرصيف22، أنه في الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة إسرائيل بشكل مطلق، ليس من المتوقّع أن تلعب روسيا دوراً مماثلاً مع إيران برغم أنهما طوال الفترة الماضية شكّلا تحالفاً إستراتيجياً، وكان للمسيّرات الإيرانية حضور بارز في الحرب الروسية الأوكرانية.
يتابع الجمل بأن المتغيّرات الجديدة على الجبهة الأوكرانية بعد الضغوط التي شكّلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاتحاد الأوروبي، تصبُّ في صالح الروس، وهو ما قد يجعل موسكو تفكر مليّاً قبل الانخراط في حرب جديدة قد تؤثِّر على حربها المفتوحة منذ سنوات، مشيراً إلى أنّ العلاقة بين روسيا وإيران قد تتحوّل من تحالفٍ إستراتيجي إلى مجرّد دعم لتحرّكات طهران.
الدفع نحو عالم متعدد الأقطاب
كما يشير الجمل إلى أن روسيا، ومعها الصين، قد تستغلان هذه الأزمة للدفع نحو تشكيل عالم متعدد الأقطاب بدلاً من الوضع الحالي الذي تتسيّد فيه واشنطن القرار العالمي، مشيراً إلى أنه على المستوى الإقليمي، فإنّ الأوضاع الحالية قد تفرض على دول مثل مصر وإيران وتركيا وكذلك السعودية، إعادة رسم تحالفاتها، ودعم مطلب التحوّل نحو عالم متعدد الأقطاب، وإعادة هندسة التحالفات بناءً على ذلك.
يقول تشانغ إنّ الصين تخسر وكيلها الأهم في المنطقة، وإنّ انهيار إيران يعني خسارة فادحة لبكين، ويمكن أن تفعل أي شيء لحمايتها، ولا سيّما أنها تحصل على 90% من نفط إيران، مشيراً إلى أن إيران دأبت على تحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية بالوكالة منذ فترة طويلة
الصين في مواجهة أمريكا
على العكس مما سبق، يرى الباحث في معهد "غيتستون" الأمريكي، والمتخصّص في السياسة الخارجية، غوردون تشانغ، أنّ الصين مرشّحة بقوة للانخراط في هذا الصراع، لافتاً إلى أنها "قد توجّه ضربةً للمصالح الأمريكية في أي وقت".
وفي تصريحات لـ"فوكس بيزنس"، أكد تشانغ أنّ الصين تخسر وكيلها الأهم في المنطقة، ويمكن أن تفعل أي شيء لحمايته، ولا سيّما أنها تحصل على 90% من نفط إيران وهي شريك عسكري حيوي لها، مشيراً إلى أنّ إيران دأبت على تحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية بالوكالة منذ فترة طويلة، وعليه فإن انهيار إيران يعني خسارة فادحةً لبكين.
وعليه، تكهّن تشانغ بأنّ بكين لن تقبل ذلك بسهولة، وقد تدعم توجيه ضربة إيرانية للمصالح الأمريكية، أو تدفع طرفاً ثالثاً للقيام بهذه المهمة.
الخليج والقوات الأمريكية في قلب الأزمة
في غضون ذلك، يعتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون، دانيال بايمان، أنّ الصراع الإسرائيلي الإيراني مرشحّ بقوة للتوسّع، وأن إيران قد تستنتج من التنسيق الأمني الأمريكي الطويل الأمد مع إسرائيل، ودعم الدفاعات الجوية الإسرائيلية، أن واشنطن تستخدم إسرائيل كوكيل عنها، وتالياً تعدّ أمريكا جزءاً فاعلاً في الحرب عليها.
كما يلفت، في تحليل للوضع الراهن، إلى أنه عندما تكون دولتان في حالة حرب، وعندما تتضمّن تلك الحرب التحليق فوق أراضي دول أخرى لخوضها، فليس من الصعب تخيّل سيناريوهات لانتشار الصراع، مشيراً إلى أنّ احتمالات اتساع هذا الصراع كبيرة للغاية، وأنه من غير المستبعد أن تلجأ الجماعات التابعة لإيران، على اختلافها، إلى مهاجمة دول الخليج أو القوات والمنشآت الأمريكية في العراق كون ذلك أسهل من مهاجمة إسرائيل.
محور التهدئة قد يكون خليجياً
وفي اتجاه معاكس للطرح السابق، يرى الباحث السعودي، الدكتور فواز كاسب العنزي، المتخصص في الشؤون الإستراتيجية والأمنية، أنّ المنطقة بالفعل تشهد مرحلةً جديدةً من هندسة التحالفات وإعادة رسم موازين القوى، إلا أنّ المواجهات الأخيرة قد تفرض - برأيه - دوراً جديداً بالغ الأهمية على دول الخليج لتفادي الانزلاق نحو مزيد من التصعيد أو التورط في صراع مفتوح.
ويشرح العنزي، في تصريحات لرصيف22، أن موقف دول المنطقة من هذه المواجهة ومدى قدرتها على لعب أدوار مؤثّرة في ضبط التوازن الإقليمي، سينعكسان على شكل تحالفات المستقبل، مبرزاً أن الدول التي تنجح في جمع التناقضات على طاولة واحدة ستخرج بوصفها "قوى محور التهدئة"، بينما قد تُهمَّش الدول التي تُظهر انحيازاً كاملاً لطرف دون آخر.
كما يؤكد أن دول مجلس التعاون الخليجي تحتل موقعاً إستراتيجياً فريداً يمكّنها من أن تكون جسراً بين العواصم المتنازعة، وصمام أمان للمنطقة بأسرها، إذا ما أحسنت توظيف أدواتها الدبلوماسية، والاقتصادية، والأمنية، منبّهاً إلى أنها قد تساهم في ضبط ميزان القوى الإقليمي، عبر مسارات عدة أولها "الدبلوماسية الوقائية" من خلال تحريك قنوات الحوار الإقليمي وتكثيف الجهود عبر المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والجامعة العربية، لتفادي عسكرة الأزمة ومنعها من التمدد.
ويردف بأنّ ثاني هذه المسارات هو "تعزيز التواصل الأمني متعدد الأطراف عبر بناء منصّات تنسيق مع الدول الكبرى، خاصّةً الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، لتقليل مساحة المفاجآت وتعزيز التنبّه المشترك لأي تصعيد قد يطال الأمن الخليجي والعربي".
أما ثالثة هذه الخطوات، فهي تحقيق التوازن في المواقف من خلال تجنّب الانحياز العلني لأي طرف من أطراف الصراع، وهو ما يعزّز من صورة الخليج كفاعل عقلاني قادر على استضافة الحلول لا تأجيج النزاعات.
تتقاطع هذه التوقعات مع تحرّكات عربية وخليجية بدأت تتشكّل في الأيام الأخيرة إذ أصدرت 20 دولةً عربيةً وإسلاميةً بياناً طالبت فيه بوقف الحرب وأدانت الاعتداء الإسرائيلي، ومن بينها دول كانت لديها مواقف صارمة من المشروع النووي الإيراني، في مقدمتها السعودية.
يتوقّع العنزي أن تكون دول مجلس التعاون الخليجي جسراً بين العواصم المتنازعة، وصمام أمان للمنطقة بأسرها، إذا ما أحسنت توظيف أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، منبّهاً إلى أنها قد تساهم في ضبط ميزان القوى الإقليمي عبر مسارات عدة أولها "الدبلوماسية الوقائية"
يُضاف إلى ذلك، ما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، عن مطالبة دول خليجية بينها السعودية وقطر وعُمان، الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
ثلاثة سيناريوهات للأزمة
إلى ذلك، يتوقّع العنزي أن تنتهي المواجهة الحالية بأحد ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها، أوّلها أن يعود التصعيد إلى شكله المحدود على فترات قبل بدء الحرب الراهنة، مع استمرار المواجهات على نمط الضربات المتبادلة بالوكالة في سوريا ولبنان والعراق. والثاني أن تستمر المواجهات كما هو الوضع حالياً في مرحلة الانفجار الشامل عبر مواجهة مفتوحة بين الجانبين، وهو ما قد تكون له تداعيات كارثية على أمن الطاقة العالمي، وسيدفع الدول الإقليمية لإعادة النظر في تحالفاتها وأولوياتها الأمنية.
وثالث السيناريوهات، التي يتوقّعها العنزي، هو أن تُقدم الأطراف المتصارعة على تهدئة مشروطة بوساطة دولية خليجية، مقابل ضمانات أمنية متبادلة، مشيراً إلى أن دول الخليج قد تستثمر هذا السيناريو في بناء تحالفات أكثر اتزاناً تشمل قوى إقليميةً من بينها تركيا ومصر.
تهديد نووي غير مستبعد
وبخصوص تلويح الطرفين بتوظيف الورقة النووية في الصراع، يقول العنزي إن التهديد النووي، وإن كان حتّى اللحظة محكوماً بتوازنات الردع ومحدّدات القانون الدولي، إلا أنه لم يعد مستبعداً نظرياً في ظل ازدياد الانفلات الإقليمي، مؤكداً أنه يمكن لدول الخليج ودول الجوار الآسيوي التصدّي لهذا التهديد عبر تعزيز أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الصاروخي، وتطوير شراكات إستراتيجية مع قوى عالمية تمتلك منظومات دفاعيةً متقدّمةً (مثل "ثاد" THAAD، و"باتريوت" Patriot).
ويوضح أنه من الضروري لدول المنطقة تفعيل "الدبلوماسية النووية النشطة"، وذلك عبر دعم إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، والسعي إلى حشد تأييد دولي لإخضاع جميع الأنشطة النووية في المنطقة، بما في ذلك الإسرائيلية والإيرانية، للرقابة الدولية.
ووفق دراسة نشرتها مجلة Conflict and Health، المتخصّصة في القضايا الصحية الناجمة عن الصراعات والكوارث، فإنّ اندلاع حرب نووية بين إيران وإسرائيل سيكون كارثياً، إذ من المحتمل في حال انتقلت المواجهات إلى المستوى النووي أن تخلّف ملايين القتلى بشكل غير مسبوق، مع افتقار ملايين المصابين إلى الرعاية الطبية الكافية، وسلسلة واسعة من المشكلات المتعلّقة بالصحة النفسية، وخسارة فادحة للبنية التحتية، وتعطيل طويل الأمد للأنشطة الاقتصادية والتعليمية في المنطقة، على أن تكون إيران وإسرائيل ضمن قائمة أكبر الخاسرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.