كيف استغلت إسرائيل وجود ترامب لضرب

كيف استغلت إسرائيل وجود ترامب لضرب "فوردو"؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 23 يونيو 202504:01 م

الضربة الأمريكية التي استهدفت "فوردو" ليست مجرّد تطور عسكري، بل لحظة فاصلة في مسار التعامل الدولي مع الطموحات النووية الإيرانية. فمنشأة كهذه، ببنيتها الهندسية العميقة وقدرتها على تسريع امتلاك اليورانيوم عالي التخصيب، لم تكن فقط هدفاً عسكرياً، بل كانت ركيزة كاملة لعقيدة الردع الإيرانية، وبالتالي مفتاحاً لمنع انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط.

تصريحات ترامب العلنية وتصريحات مسؤولين في البنتاغون، أكدت أن فوردو كانت دائماً على رأس قائمة "الأهداف غير القابلة للتفاوض"، وأن بقاءها كان يعني ببساطة تأجيل الانفجار لا منعه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل شكّلت هذه الضربة نهاية فعلية لسباق التسلّح النووي الإيراني؟ أم أنّها مجرد بداية لمرحلة أكثر غموضاً، عنوانها "إيران ما بعد فوردو".

في عمق التحليلات الإستراتيجية والعسكرية التي سبقت الضربة الأمريكية، برز رأي صارم، بدا وكأنّه تمهيد لما سيحدث: أي عملية عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني لا تنجح في تحييد منشأة "فوردو"، تُعدّ فشلاً إستراتيجياً كاملاً. هذا التقييم لم يصنّف "فوردو" كهدف ضمن قائمة الأهداف الإسرائيلية فحسب، وإنما عدّها مركز الثقل الإستراتيجي لطموحات إيران النووية، وتالياً المحدد الرئيس لأي حسابات عسكرية.

تجلّت هذه الحقيقة بوضوح في سيناريو الضربات الإسرائيلية التي أُطلق عليها اسم "عملية الأسد الصاعد" في حزيران/ يونيو الجاري، حيث أظهرت التقارير أنّ مواقع أخرى مثل "نطنز" قد تضررت، لكن منشأة "فوردو" الجوفية ظلّت صامدةً إلى حد كبير، ما كشف عن حجم التحدّي الهائل الذي تمثله، وفسّر أيضاً لماذا أصبح تدميرها المعيار الأوحد للنجاح.

منشأة "فوردو"، التي وُصفت بأنها "جوهرة تاج" البرنامج النووي الإيراني، لم تكن مجرد رمز للتحدي التكنولوجي الإيراني، بل هي تجسيد لمفارقة إستراتيجية كبرى. هذا التقرير يجادل بأن المزيج الفريد الذي تمتعت به "فوردو"، والذي جمع بين قدرات التخصيب المتقدمة والتحصينات شبه المنيعة، قد حوّلها من مجرد مكوّن في البرنامج النووي الإيراني إلى نقطة الارتكاز التي تمحور حولها مستقبل منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط.

تشريح منشأة "فوردو"

تُقدّم منشأة "فوردو" صورةً شاملةً عن الطموح والبراعة الهندسية الإيرانية، وتكشف في الوقت ذاته عن إستراتيجيتها القائمة على السرّية والتحصين المنيع.

تقع المنشأة على بعد نحو 30 كيلومتراً شمال شرق مدينة "قُم" المقدسة لدى الشيعة، وقد شُيّدت في قاعدة سابقة كانت تتبع للحرس الثوري الإيراني. يرى بعض المحللين أنّ اختيار هذا الموقع القريب من مدينة دينية مقدّسة لم يكن عشوائياً، وإنما يمثّل رادعاً إضافياً.

ظلَّ وجود المنشأة سرّياً حتى كشفته أجهزة استخبارات غربية، ما أجبر إيران على الإفصاح عنه للوكالة الدولية للطاقة الذرية في 21 أيلول/ سبتمبر 2009. أثار هذا الكشف المتأخر إدانةً دوليةً واسعةً، حيث أكد المسؤولون الغربيون أنّ بناء منشأة بهذا الحجم سرّاً يتعارض مع أي غرض سلمي معلن، مشيرين إلى أنّ الموقع كان تحت المراقبة بالفعل. وقد أدى هذا الأصل النووي السرّي إلى تعميق الشكوك حول النوايا الحقيقية للمنشأة، وجادل المحللون في أنها صُمّمت منذ البداية لتكون موقعاً سرّياً لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم في صناعة الأسلحة.

"فوردو" ليست مجرد منشأة تخصيب نووي، بل تمثل نقطة الارتكاز الاستراتيجي للبرنامج النووي الإيراني، إذ تجمع بين التقدّم التكنولوجي والتحصين شبه المنيع، ما يجعلها العقبة الأكبر أمام أي محاولة عسكرية لتفكيك قدرات إيران النووية

يكمن التحدي الأكبر الذي تفرضه "فوردو" في تحصيناتها التي لا مثيل لها. المنشأة محفورة في عمق جبل صخري على عمق يتراوح بين 80 و100 متر (260-328 قدماً)، تحت الأرض. هذا العمق يجعلها أكثر تحصيناً بشكل كبير من منشأة "نطنز"، التي تقع قاعاتها الرئيسية على عمق يتراوح بين 8 و20 متراً فقط تحت السطح. كما وصفت تقارير استخباراتية وعسكرية المنشأة بأنها "منيعة عملياً" ضد الضربات الجوية التقليدية.

ولتعزيز هذه الحماية، تم تزويد الموقع بشبكة دفاع جوي متكاملة ومتقدمة، تشمل أنظمة صواريخ روسية الصنع من طراز S-300 وأنظمة "باور-373" إيرانية الصنع، ما يجعل الاقتراب منها مهمةً محفوفةً بالمخاطر لأي قوّة جوية.

من التفاوض إلى التحدّي

يعكس تاريخ الأنشطة في "فوردو" بشكل مباشر إستراتيجية إيران النووية المتغيرة، والتي تتأرجح بين التفاوض والتصعيد كرد فعل على الضغوط الخارجية. فبينما كانت المنشأة في البداية ورقة مساومة، تحولت بعد انهيار الدبلوماسية إلى أداة تحدٍ وردع.

في البداية، أعلنت إيران أنّ هدف المنشأة هو إنتاج اليورانيوم المخصّب بنسبة 5%، لكنها سرعان ما غيّرت هذا الهدف في عام 2011، معلنةً أنها ستبدأ بإنتاج اليورانيوم المخصّب بنسبة 20%، وهو ما بدأته بالفعل في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، مقتربةً بذلك خطوةً كبيرةً من العتبة النووية.

بموجب الاتفاق النووي لعام 2015، وافقت إيران على تحويل فوردو إلى "مركز للفيزياء والتكنولوجيا النووية"، ووقف جميع أنشطة تخصيب اليورانيوم فيها لمدة 15 عاماً، بالإضافة إلى إزالة ثلثي أجهزة الطرد المركزي الموجودة فيها، والتي قُدّرت بنحو 1،044 جهازاً من طراز IR-1 أصبحت كلها غير نشطة. كان هذا التنازل الكبير دليلاً على استعداد إيران لاستخدام "فوردو" كورقة تفاوضية قوية عندما كانت الدبلوماسية تبدو خياراً مجدياً.

لكن بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018، وإعادة فرض العقوبات، لم تكتفِ إيران باستئناف الأنشطة في "فوردو"، بل صعّدت بشكل دراماتيكي. ففي عام 2019، استأنفت تخصيب اليورانيوم بنسبة 5%، ثم رفعت النسبة إلى 20% في عام 2021.

فشل الضربات الإسرائيلية في تدمير "فوردو" أظهر أنها المعيار الحقيقي لنجاح أي حملة عسكرية ضد إيران، مما يفسر إصرار تل أبيب على استهدافها وإغراء ترامب بالتحرك ضدها.

أما القفزة الأخطر، فجاءت في عام 2023، عندما اكتشف مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية جزيئات يورانيوم مخصبةً بنسبة تصل إلى 83.7%، وهي نسبة قريبة جداً من درجة النقاء اللازمة لصنع سلاح نووي، وذلك بعد تشغيل سلاسل مترابطة من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة من طراز IR-6. وبحلول 2024-2025، كانت إيران قد زادت عدد أجهزة IR-6 المتقدمة ثلاثة أضعاف، مسرّعةً بذلك إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وتراكم مخزونها منه بشكل خطير.

الأهمية الإستراتيجية لـ"فوردو"... مقامرة نووية

لم تعُد أهمية "فوردو" تكمن فقط في وجودها، بل في الدور الذي تلعبه ضمن الإستراتيجية النووية الإيرانية الشاملة. لقد تحولت من مجرد منشأة إنتاج إلى أداة ردع وضغط إستراتيجيين، ما جعلها حجر زاوية أي مواجهة.

لقد غيّرت "فوردو" بشكل جذري حسابات "زمن الانطلاق" النووي الإيراني. لم يعد الأمر يتعلق بفترة طويلة من التحضير، بل بسباق سريع نحو القنبلة. بفضل مخزونها المتنامي من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، قدّرت مؤسسات بحثية مرموقة مثل معهد العلوم والأمن الدولي (ISIS)، أنّ إيران -كانت- قادرة على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة "WGU" لقنبلتها الأولى في غضون يومين إلى ثلاثة أيام فقط، وما يكفي لتسعة إلى عشرة أسلحة في غضون أسابيع قليلة. هذه القدرة الهائلة حولت إيران من مجرد "دولة على العتبة النووية" إلى قوة نووية "عند الطلب"، ما قلّص بشكل خطير نافذة الوقت المتاحة لأيّ رد فعل دولي.

النسخة الاحتياطية الإستراتيجية التي لا غنى عنها

طبيعة "فوردو" المحصّنة تجعلها بوليصة التأمين المطلقة للبرنامج النووي الإيراني. ففي حين أن منشأة "نطنز" الأكبر حجماً، كانت أكثر ملاءمةً للإنتاج على نطاق صناعي، إلا أنها في الوقت نفسه كانت أكثر عرضةً للهجمات بسبب عمقها القليل. ورجّح محللون أنّ تدمير "نطنز" وحده لا يشلّ قدرات إيران على التخصيب طالما بقيت "فوردو" قيد التشغيل. هذا التكرار الإستراتيجي يضمن مرونة البرنامج وقدرته على الصمود في وجه أي ضربة أولى، وهو سبب رئيس لأهميتها القصوى.

وفي حوار سابق عن ضرب المنشأة من قبل القوات الأمريكية، رأى مارك فيتزباتريك، الخبير في البرنامج النووي الإيراني في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن، أنّ "فوردو هي بوضوح مناورة للحفاظ على أجهزة الطرد المركزي، في حال وقوع هجمات على منشآت نووية أكثر عرضةً للخطر، وتالياً تُعدّ بوليصة تأمين أو نسخة احتياطية إستراتيجية".

بينما أشارت نائبة مدير برنامج عدم الانتشار والدفاع البيولوجي، أندريا ستريكير، في حوار لها، بأنه طالما استمرت منشأة فوردر للتخصيب في العمل، فإنّ طهران ستحتفظ بالقدرة على صنع اليورانيوم المخصص لصناعة الأسلحة.

أما ديفيد أولبرايت، وهو فيزيائي وخبير في الأسلحة النووية، ومؤسس معهد العلوم والأمن الدولي، فلمّح سابقاً إلى أنّ مجمع أنفاق نطنز الجديد، الواقع في المنطقة الجبلية جنوب موقع تخصيب اليورانيوم الرئيسي، سيضمّ قاعات مدفونةً أعمق من موقع تخصيب اليورانيوم في فوردو، وهو نفسه مدفون بعمق، وكلاهما أعمق بكثير تحت الأرض من قاعات أجهزة الطرد المركزي المدفونة في موقع نطنز الرئيسي، والتي لا يتجاوز عمق كل منها ثمانية أمتار تحت الأرض. هذا يوضح الفارق في التحصين بين فوردو ونطنز، ويبرز مرونة فوردو.

مركز التكنولوجيا المتقدمة

لم تختر إيران "فوردو" لتكون مجرد موقع احتياطي، بل جعلتها مركزاً لنشر وتطوير أحدث تقنياتها في مجال الطرد المركزي. فقد تم تركيب أجهزة الطرد الأكثر تقدّماً وكفاءةً، مثل طراز IR-6، في هذه المنشأة. زيادةً على ذلك، فإنّ استخدام اليورانيوم المخصّب بنسبة 20% كمادة وسيطة لإنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 60% في "فوردو" يمثل قفزةً تقنيةً كبيرةً تزيد من معدلات الإنتاج بشكل كبير.

هذا التركيز على أحدث التقنيات في الموقع الأكثر تحصيناً يشير إلى أنّ "فوردو" هي قلب جهود البحث والتطوير والإنتاج الأكثر حساسيةً في إيران.

إنّ هذا التحول في دور "فوردو"، كشف عن تغيّر في العقيدة النووية الإيرانية نفسها. فبعد سنوات من الغموض الإستراتيجي، أصبح التخصيب عالي المستوى في "فوردو"، والذي لا يوجد له أي مبرر مدني موثوق، بمثابة رسالة ردع واضحة ومباشرة. من خلال تركيز هذه الأنشطة شبه العسكرية في منشآتها الأكثر أماناً، لم تكتفِ إيران بتطوير قدرة فحسب، بل راحت تستعرضها بجرأة.

القيادة والسيطرة

إنّ أصول المنشأة كقاعدة تابعة للحرس الثوري الإيراني واستمرار تأمينها المشدد يشيران إلى أنها كانت تخضع لسيطرة محكمة من قبل أقوى عناصر الدولة الإيرانية. ولأنّ المرشد الأعلى هو صاحب السلطة النهائية، فمن المرجّح أن يكون الحرس الثوري هو المسؤول عن أي ترسانة نووية مستقبلية.

حوّلت إيران "فوردو" من ورقة تفاوض إلى أداة ردع، إذ استخدمتها لتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% وتشغيل أجهزة IR‑6 المتقدمة، ما قرّبها من العتبة النووية وجعل قدرتها على امتلاك قنبلة مجرد مسألة وقت قصير، بحسب تقديرات غربية

الحتمية العسكرية

من منظور إسرائيل، التي تعدّ إيران المسلحة نووياً تهديداً وجودياً لها، فإنّ الهدف لم يكن يوماً مجرد تأخير البرنامج النووي الإيراني بل القضاء عليه تماماً. وبما أنّ "فوردو" تضمن بقاء البرنامج وقدرته على الصمود بعد أي ضربة أولى، فإن تدميرها سيصبح النتيجة الوحيدة المقبولة لأي حملة عسكرية ناجحة. لقد أظهر سيناريو "عملية الأسد الصاعد"، أنّ الضربات التي استهدفت "نطنز" ومواقع أخرى كانت مهمةً، لكنها غير كافية، لأنّ بقاء "فوردو" سليمةً يعني بقاء قدرة إيران على الانطلاق السريع نحو القنبلة النووية.

فجوة قنابل اختراق الملاجئ

كان عمق منشأة "فوردو"، الذي يتراوح بين 80 و100 متر، يفوق قدرة الاختراق لأقوى الذخائر التقليدية التي تمتلكها إسرائيل. لذا فالسلاح الوحيد القادر على تدمير المنشأة بشكل موثوق هو قنبلة GBU-57 الأمريكية الخارقة للتحصينات. وتزن هذه القنبلة الهائلة 30،000 رطل، وتحتوي على أكثر من 5،300 رطل من المواد شديدة الانفجار، وهي قادرة على اختراق ما يصل إلى 61 متراً من الخرسانة المسلحة، ويجب أن تُلقى بواسطة قاذفة شبح من طراز B-2، وقد تم استخدامها بالفعل.

التبعية الإستراتيجية لواشنطن

هذه الفجوة التكنولوجية كانت تعني أنّ إسرائيل غير قادرة على تنفيذ عقيدتها العسكرية المعلنة تجاه البرنامج النووي الإيراني بشكل أحادي. فقد احتاجت إما إلى تدخّل عسكري أمريكي مباشر، أو إلى خطوة غير مسبوقة تتمثل في تزويدها بقنابل GBU-57 وأنظمة إطلاقها، ما جعل أي عملية من هذا النوع قراراً سياسياً مشتركاً، بغض النظر عمن يضغط على الزناد.

إن هذه الديناميكية تحوّل "فوردو" من مجرد هدف عسكري إلى أداة دبلوماسية قسرية استخدمتها إيران ببراعة. فقد أدكت طهران أنّ إسرائيل تعدّ فوردو تهديداً وجودياً تجب إزالته، وأنّ إسرائيل تفتقر إلى القدرة على القيام بذلك بمفردها. هذا يخلق معضلةً ثلاثيةً: إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة للتحرك أو لتوفير الوسائل اللازمة، بينما تتردد واشنطن خوفاً من الانجرار إلى حرب إقليمية واسعة.

دروس من بيونغ يانغ… تحليل مقارن بين "فوردو" و"يونغبيون"

لفهم التحدّي الفريد الذي تمثّله "فوردو"، من الضروري مقارنة الإستراتيجية النووية الإيرانية بإستراتيجية كوريا الشمالية. تكشف هذه المقارنة عن اختلافات جوهرية في العقيدة والقدرات، وتوضح لماذا يُعدّ البرنامج الإيراني، على الرغم من تقدّمه، أكثر عرضةً لضربة حاسمة.

تعتمد الإستراتيجيتان على منطقين مختلفين تماماً للردع:

إيران والردع بالتحصين: تفتقر إيران إلى قدرة تهديد تقليدية مباشرة ضد مركز سكاني رئيسي لعدوّها الأكبر. لذلك، لجأت إلى إستراتيجية "الردع بالتحصين"، حيث استثمرت بكثافة في بناء موقع "منيع" مثل "فوردو" لحماية ردعها النهائي. وعليه، فإنَّ إيران تعتمد على صلابة المنشأة نفسها لردع أي هجوم.

كوريا الشمالية والردع بالقرب: في المقابل، تستخدم كوريا الشمالية "الردع بالقرب". إن نشرها الهائل للمدفعية التقليدية على طول المنطقة منزوعة السلاح يجعل العاصمة الكورية الجنوبية، سيول (التي يقطنها 10 ملايين نسمة)، رهينةً فعلياً، ما يخلق رادعاً تقليدياً فورياً ومدمّراً ضد أي هجوم على منشآتها النووية، بما في ذلك مجمع "يونغبيون". هذا الدرع التقليدي الذي يحمي برنامج كوريا الشمالية النووي هو ما تفتقر إليه إيران.

العزلة الإستراتيجية مقابل الرعاية من قوة عظمى

إيران والعزلة الإستراتيجية: تعمل إيران في عزلة إستراتيجية نسبية. على الرغم من أنّ لديها شركاء مثل روسيا ووكلاء في المنطقة، إلا أنها تفتقر إلى معاهدة دفاع رسمية مع قوة عظمى مسلحة نووياً تضمن أمنها.

كوريا الشمالية والرعاية الصينية: تتمتع كوريا الشمالية بتحالف أمني رسمي مع الصين، شريكتها الاقتصادية الرئيسية وصاحبة القوة النووية. وبرغم أنّ دعم بكين لها محدود، فإن هذا الضمان الأمني يغيّر بشكل أساسي حسابات المخاطر لأي دولة تفكر في شنّ هجوم عسكري على كوريا الشمالية.

المسارات التقنية وتاريخ الانتشار

اتّبعت الدولتان مسارين تقنيين متوازيين نحو القنبلة (البلوتونيوم وتخصيب اليورانيوم). "يونغبيون" هو مجمع مترامي الأطراف يضمّ مفاعلات لإنتاج البلوتونيوم وقاعات منفصلةً لتخصيب اليورانيوم. أما "فوردو" فهي منشأة أكثر تخصصاً وتركيزاً على التخصيب عالي المستوى لليورانيوم. بالإضافة إلى ذلك، لدى كوريا الشمالية تاريخ موثق في الانتشار النووي، بما في ذلك مساعدة سوريا في بناء مفاعل نووي، وهو سجلّ يثير مخاوف مختلفةً عن دعم إيران لوكلائها من غير الدول.

وجود "فوردو" المحصنة يجعل من تدميرها مهمة شبه مستحيلة من دون دعم أمريكي مباشر أو استخدام قنابل خارقة متطورة مثل GBU‑57، ما خلق تبعية إسرائيلية لواشنطن في قرار توجيه الضربة، وأدخل المنشأة في صلب المعادلة الدبلوماسية والعسكرية الإقليمية

تكشف هذه المقارنة عن مفارقة إستراتيجية: البرنامج النووي الإيراني، على الرغم من أنه أكثر تهديداً على المدى القصير بسبب قدرته على الانطلاق السريع وموقفه الإقليمي العدواني، إلا أنه -في مجمله- في الوقت نفسه أكثر عرضةً لضربة عسكرية حاسمة من برنامج كوريا الشمالية. فسيناريو "سيول كرهينة" والتحالف مع الصين يخلقان رادعاً مزدوجاً قوياً يجعل الهجوم العسكري على كوريا الشمالية أمراً شبه مستحيل. في المقابل، تفتقر إيران إلى هذه الروادع؛ حمايتها الرئيسية هي الصلابة المادية لـ"فوردو". وبرغم أن تدمير "فوردو" لم يكن سهلاً، إلا أنها ظلت مشكلةً عسكريةً "قابلةً للحل" من قبل الولايات المتحدة. هذا يفسر لماذا أصبح الخيار العسكري ضد إيران "مطروحاً على الطاولة" بطريقة لا تنطبق إلى حد كبير على كوريا الشمالية، ويفسر التركيز المستمر والمحموم على برنامج إيران ومنشآت مثل "فوردو".

السيناريوهات والعواقب ونهاية اللعبة الدبلوماسية

الهجوم العسكري على "فوردو" لن يكون نهاية الصراع، بل بداية لمرحلة جديدة وأكثر خطورةً. استكشاف العواقب المحتملة يكشف عن شبكة معقدة من ردود الفعل التي ستعيد تشكيل المشهد الأمني في الشرق الأوسط والعالم.

إن الضربة العسكرية على "فوردو" ليست حلاً نهائياً، بل هي بداية لحالة صراع جديدة ودائمة. تظهر السيناريوهات الحالية والتحليلات الإستراتيجية أنّ النتيجة الأكثر ترجيحاً هي أنّ إيران، التي تشعر بأنّ بقاءها مهدد وجودياً، ستكون أكثر تصميماً من أي وقت مضى على امتلاك رادع نووي، الأمر الذي قد يؤدي إلى حلقة مفرغة من حربٍ يمكن تصنيفها بـ"الاستنزافية"، حيث ستضطر إسرائيل أو الولايات المتحدة إلى شن ضربات دورية ضد منشآت نووية إيرانية يمكن أن يُعاد بناؤها أو يمكن أن تكون أكثر تخفياً وسرّية. وعليه، فإنّ "حلّ" الضربة العسكرية يحوّل المشكلة من تحدٍ يمكن إدارته في إطار منع الانتشار (برغم صعوبته)، إلى حالة عداء دائم مع إيران نووية تسعى للانتقام.

وبرغم حجم العملية العسكرية والدعاية المحيطة بها، فإن ما حدث في "فوردو" لا يزال يكتنفه الغموض. فقد امتنعت إيران حتى الآن عن الإدلاء بأي تصريح رسمي يؤكد حجم الضرر أو ينفيه، ولم تسمح لوسائل الإعلام أو الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالوصول إلى المنشأة، ما يفتح الباب واسعًا أمام التأويلات: هل أُصيبت القلعة المحصّنة فعلاً؟ أم أن الصمت الإيراني جزء من استراتيجية أعمق تحفظ توازن الردع؟

في غياب المعطيات الميدانية المؤكدة، لا يمكن الجزم بنتائج الضربة، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط دخل من بوابة "فوردو" إلى عصر نووي جديد، لم تعُد فيه الخطوط الحمراء واضحة، ولا قواعد الاشتباك تقليدية. عصر تتقدم فيه التكنولوجيا على الدبلوماسية، وتختلط فيه الضربات العسكرية بالتكتيك السياسي والرسائل الغامضة. وإذا كان تدمير "فوردو" قد حصل بالفعل، فقد دخلنا مرحلة ما بعد الردع الإيراني. وإن لم يحصل، فإن الضربة نفسها أصبحت إعلاناً صريحاً عن نهاية الرهان على التفاوض وحده، وعودة منطق القوة في رسم حدود البرامج النووية.

ما نعرفه حتى الآن هو أن فوردو لم تتكلم. وأن الصمت، في السياسة كما في الحرب، لا يقل خطورة عن الانفجار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image