أخيراًً، انفجر الصراع المزمن وغير المباشر بين إيران وإسرائيل، عبر ضربات إسرائيلية واسعة النطاق لمنشآت وقيادات عسكرية ونووية إيرانية، فجر يوم الجمعة الفائت، تبعها ردّ إيراني سريع نسبياً، بعد سرعة أكبر في تجاوز الصدمة وتعبئة فراغات القيادة التي أحدثتها الضربات الإسرائيلية.
لاحقاً، توالت الردود المتبادلة وتصاعدت مع تحوّل سريع في نوعية الأهداف، لتشمل البنى والمنشآت التحتية والحيوية لدى الطرفين المتصارعين، في إقرار واضح لقاعدة العين بالعين، والمطار بالمطار، والميناء بالميناء، ومنشأة الطاقة بمثيلتها. بين الضربات والردود، طغت الأحاديث والتصريحات الإعلامية الإسرائيلية عن تغيير النظام الإيراني على شمّاعة تدمير/ تفكيك البرنامج النووي الإيراني سلماً أو حرباً. وبذلك تسعى تل أبيب إلى حجز مقعد غير مرئي لها على طاولة المفاوضات الأمريكية الإيرانية التي سبقت الضربات الإسرائيلية، والتي تراها الإدارة الأمريكية ورقة ضغط قد تعيد طهران ذليلةً إلى طاولة التفاوض، وهو ما يكذّبه الواقع الحالي والسوابق التاريخية.
لغاية الآن، وبرغم دعمها ومشاركتها غير المباشرة في العمليات الإسرائيلية، تصرّ واشنطن على الحلّ الدبلوماسي وضرورة عودة طهران إلى مفاوضات دُفنت تحت ركام الدمار الحاصل، بالإضافة إلى إصرارها على الحياد وعدم الانجرار إلى الصراع، طالما بقيت قواتها ومصالحها الحيوية الإقليمية بعيدةً عن مرمى النيران الإيرانية.
يفصح المشهد الحالي عن رغبة واضحة لدى الطرفين المتصارعين في رفع مستوى التصعيد وتوسيعه، برغم الحسابات الإيرانية القاضية بالحفاظ على الحياد الأمريكي المعلن، لكسر إرادة الطرف الآخر، بما يؤدي إلى هيمنة إقليمية للفائز، وهو الهدف النهائي لهذا الصراع
لكن إلى متى هذا الحياد؟ هذا هو السؤال الذي سيحدد مصير الصراع الحالي، ويحدد أيضاً مستقبل المنطقة لعقود عدة، في ظل ضغوط قد تضعف رغبة سيد البيت الأبيض في الاستفادة من الصراع للتوصل إلى حلول دبلوماسية بدلاً من الانجرار إلى حروب يكرهها، وقد برمج حملته الانتخابية على وعود إنهائها، وأيضاً في ظلّ عجز إسرائيل عن حسم هذا الصراع وفق أهدافها المعلنة. بجانبهما، لم تُقدم طهران، لغاية الآن على الأقل، على استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة، في انضباط غير معهود في ردودها على العمليات الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة بحقها.
مردّ ذلك يعود إلى دقّةٍ وحذرٍ لدى صانعي السياسة في طهران في الرد على الضربات التي تستهدف بلادهم، تجنّباً لأيّ استفزاز قد يجرّ واشنطن إلى الصراع، بما يؤدي إلى خسارة محتومة. كما أنّ تطور العلاقات الإيرانية الخليجية، وحساسية توازنات المشهد السياسي العراقي، يكبّلان إيران ويمنعانها عن استهداف القواعد الأمريكية، كي لا تدفع هذه الدول للاصطفاف بجانب واشنطن، وتالياً بجانب إسرائيل.
مع ذلك، يبدو أن دخول الولايات المتحدة "مباشرةً" على الخط لن يطول كثيراً، فها هو الرئيس الأمريكي يقطع مشاركته في قمّة السبع ويعود إلى واشنطن. فالصراع الدفين قد انفجر، ويجب حسمه بالطريقة المناسبة للإستراتيجية الأمريكية الإقليمية والعالمية، بما فيها من بناء نظام أمن إقليمي تتولى فيه دول المنطقة مزيداً من المسؤولية، ويسمح لواشنطن بالتفرغ لمواجهة الصين، الساعية إلى تعديل النظام الدولي لصالحها. ويبدو أنّ إزاحة النظام الإيراني لصالح نظام هجين ومسالم يندرج طواعيةً مع السياسات الإقليمية، حلّ مناسب للإستراتيجية الأمريكية الإقليمية والعالمية (العالمية: إبعاد إيران عن الصين). الحلّ هذا يتماشى أيضاً مع مصالح دول المنطقة.
لكن ما مدى سلاسة تحقيق هذا الهدف، في ظلّ تطور العلاقات الثنائية الإيرانية مع كل من الصين وروسيا، والتي يقوم أساسها الأول على استخدام الأخيرتان للسلوك الإيراني لعرقلة الهيمنة الأمريكية على المنطقة؟ لعدم الذهاب بعيداً في المقال، يمكن إيجاز الموقف الروسي حالياً برغبة جدّية تُظهرها موسكو في إعادة تطوير العلاقة مع واشنطن، وبعدم تماهيها التام مع السياسة الخارجية الإيرانية، أو مع مراكز القوى في المشهد السياسي الإيراني. لذا، لن تبدي روسيا معارضةً تجاه احتمالية تغيير النظام الإيراني، شريطة عدم قدوم بديل معادٍ لها.
أما في ما يخصّ الصين، فالمعهود عنها لغاية اليوم هو تجنّب المواجهة المباشرة مع واشنطن خارج نطاقها الإستراتيجي، ولا سيما في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي يشكّل هاجساً مؤرقاً لبكين. بالإضافة إلى ذلك، تراجع ترتيب طهران في سلّم الأولويات الصيني مؤخراً، بعد التطور الواضح للعلاقات الصينية الخليجية تحديداً، والعربية عموماً. كما أنّ أيّ تصرّف طائش من قبل طهران، مثل إغلاق مضيق هرمز الذي لطالما هددت إيران بإغلاقه، سيقلب الحسابات الصينية رأساً على عاقب، ولغير صالح إيران.
يبدو أنّ إزاحة النظام الإيراني لصالح نظام هجين ومسالم يندرج طواعيةً مع السياسات الإقليمية، حلّ مناسب للإستراتيجية الأمريكية الإقليمية والعالمية (العالمية متمثّلة في إبعاد إيران عن الصين)، ما يتماشى أيضاً مع مصالح دول المنطقة
وبالعودة إلى صلب المقال، يفصح المشهد الحالي عن رغبة واضحة لدى الطرفين المتصارعين في رفع مستوى التصعيد وتوسيعه، برغم الحسابات الإيرانية القاضية بالحفاظ على الحياد الأمريكي المعلن، لكسر إرادة الطرف الآخر، بما يؤدي إلى هيمنة إقليمية للفائز، وهو الهدف النهائي لهذا الصراع. لكن، وبرغم فارق القوة النارية وحداثتها وحجم الإضرار بالآخر، والتي تميل لصالح إسرائيل، إلا أن بعض المؤشرات توحي بعجز الأخيرة عن حسم الصراع لصالحها ما لم تكن هناك مفاجآت على غرار تلك التي نفّذتها تل أبيب في حربها مع/ على حزب الله و"حماس"، بما في ذلك تصفية المرشد الإيراني الأعلى أو تفجير الشارع الإيراني، لإرباك الحسابات الإيرانية وتقييد حركتها.
في ظل ذلك، يحسُن بالدول الإقليمية النظر إلى صراع قوتين إقليميتين مزعجتين تتشابهان في العدائية والعدوان وسلوكيات زعزعة الاستقرار مع طموحات الهيمنة، على أنه صراع قد يكون مفيداً للدول الإقليمية، برغم الأضرار الجانبية ومخاطر تفجّر الصراع وتوسّعه، وذلك لقطف المكاسب المتأتية منه، بدلاً من دفع ضريبته، بجانب مراكمة جهودها لعدم خروج أيّ من الطرفين المتصارعين منتصراً، كي لا يفرض هيمنته الفجة على دول الإقليم. وفي هذا السياق، يُستحسن العمل على ضبط أي انخراط أمريكي محتمل ضمن حسابات تراعي مصالح هذه الدول بشدّة، بدلاً من ترك هذا الانخراط المحتمل يصبّ في المصلحة الإسرائيلية الخالصة، حيث أنّ ارتفاع احتمالية ولادة نظام إقليمي جديد نتيجة هذا الصراع، يتطلب العمل الحثيث على حجز مقعد وازن فيه، وهو نظام يرجّح أن يكون خالياً من الفواعل العسكرية غير الحكومية.
وعليه، لا بدّ من احتياط عملياتي تجاه سلوك وموقف الميليشيات الإقليمية الموالية لإيران من هذا الصراع واحتمالية توسعه، والتي طالتها العديد من الانكسارات القيادية والعسكرية والسياسية والبنيوية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتسعى جاهدةً إلى الانقلاب على هذا الوضع، ولا سيما على المحاولات الجدّية من حكومات بلدانها لتفكيكها وإعادة دمجها في الدولة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.