نهاية العولمة… هل تفكّك الحرب الصينية الأمريكية نظام التجارة الدولية؟

نهاية العولمة… هل تفكّك الحرب الصينية الأمريكية نظام التجارة الدولية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 29 مايو 202509:57 ص

لم تكن الشرارة الأولى في الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، سوى إعلان صاخب لصراع كان يختمر منذ سنوات. فالتوتر لم يولد بالأمس، بل كان يتصاعد بهدوء تحت سطح الأرقام. خلال الأعوام الماضية، تراجع التبادل التجاري بين العملاقين من 700 مليار إلى 500 مليار دولار سنوياً، وانخفضت صادرات الصين إلى أمريكا من 20% إلى 15% من مجمل صادراتها. أرقام تبدو جافّةً، لكنها تخفي خلفها تحوّلاً أعمق في موازين القوى، ومواجهةً تتجاوز الرسوم الجمركية إلى ما يشبه صراع بقاء بين نموذجين اقتصاديين يتنافسان على قيادة العالم.

في عام 2018، أظهرت استطلاعات الرأي أنّ أكثر من 30% من الصينيين كانوا يؤيدون تسوية الخلافات التجارية مع الولايات المتحدة، ما عكس رغبةً شعبيةً في تفادي التصعيد. وبالفعل، تم التوصل إلى اتفاق تجاري بين البلدين في العام التالي، 2019. 

أما في الداخل الأمريكي، فقد عارض نحو 70% من المواطنين الرسوم الجمركية، نتيجة آثارها السلبية المباشرة على الاقتصاد، بدءاً من تراجع سوق الأسهم، مروراً بارتفاع معدلات التضخم والانكماش، وصولاً إلى تراجع قيمة الدولار. كما قوبلت تلك الإجراءات برفض دولي واسع، ما جعل الولايات المتحدة تواجه عزلةً في هذا المسار التجاري العدائي.

ومع إعلان ترمب، علناً، فرض حزمة جديدة من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، جاء الردّ الصيني سريعاً وحادّاً: "سنقاتل حتى النهاية". أكدت بكين أنها تمتلك بدائل وأسواقاً جديدةً حول العالم تمكّنها من تجاوز تلك الإجراءات، ووجّهت دعوةً واضحةً إلى واشنطن لإلغاء الرسوم بالكامل. هكذا دخل الصراع التجاري بين العملاقين مرحلةً أكثر سخونةً، مع تصاعد حدّة المواجهة بين الاقتصادين الأكبر في العالم.

تراكمات ما قبل الانفجار… هل كانت الصين خصماً عادلاً؟

بحسب المحلل السياسي والاقتصادي الأمريكي عقيل عباس، لرصيف22، فقد كان هناك شبه إجماع أمريكي من الإدارات الديمقراطية والجمهورية السابقة، على أنّ الصين متجاوزة ومجحفة في تعاملها التجاري مع الولايات المتحدة، وأنّ هذا الميزان التجاري لصالح الصين لا يقوم على أساس تجارة حرّة ونزيهة. 

وكانت واشنطن قد اشتكت بكين، سابقاً، لدى منظمة التجارة العالمية، وهي الشكوى ذاتها التي قدّمها الأوروبيون للصين، وبالاتهامات نفسها، ومفادها أنها تدعم شركاتها، بمعنى أنها تمنحها ميزةً في التنافس مع الشركات الأجنبية، خاصةً في مجال الملكية الفكرية مع الشركات الغربية التي تأتي إلى الصين وتجبرها الحكومة الصينية على الدخول في شراكات مع شركات صينية مملوكة للدولة، أي أنّ الدولة تدعم شركاتها، وهذا ضدّ قواعد التجارة العالمية، التي تنصّ على أنّ الدولة لا تتدخل لأنّ الشركات تتنافس منافسةً عادلةً.

ويضيف: "هناك غياب للحوكمة في الصين، وعندما تشتكي الشركات من شيء، لا تستطيع أن تذهب إلى المحاكم الصينية، لأنّ الحكم سيكون لصالح الصين نظراً إلى غياب النزاهة. فهناك مجموعة شكاوى تاريخية بخصوص الصين، والتصوّر كان أنّ الصين ستبدّل سلوكها تدريجياً، فضلاً عن أنّ الشركات الأمريكية والغربية كانت الأرباح التي تحصّلها تجعلها تتعايش مع تلك السلوكيات. لذلك فإنّ فرض رسوم جمركية جديدة على البضائع الصينية لا يوجد عليه خلاف أمريكي داخلي، ولكن المشكلة أنّ الرسوم فُرضت على شركاء الولايات المتحدة بهدف تعديل الميزان التجاري، أي عكس التجارة الحرّة".

في خضم صراخ ترامب التجاري وصمت العالم، نكتشف أن النظام التجاري الدولي ليس إلا نادياً خاصاً بالكبار، يقفزون فيه على القوانين متى شاؤوا. أمريكا، صانعة منظمة التجارة العالمية، قررت ببساطة خرق قواعدها حين لم تعد تخدم مصالحها. فهل كانت العولمة يوماً سوى كذبة لتمرير الهيمنة تحت غلاف التجارة الحرة؟

وبحسب رأيه، فإنّ ما يقوم به ترامب هو خرق لقواعد منظمة التجارة العالمية، التي كانت الولايات المتحدة شريكةً أساسيةً في إنشائها. ويهدف ترامب، بذلك، إلى إجبار الدولة الصينية على أن تعدّل الميزان التجاري، وهذا من الممكن أن يحدث، والسبب أنّ كثيراً من الشركات الأمريكية تأثرت لأنها تنتج في الصين وتوقفت عمليات الاستيراد، لأنّ واشنطن تستورد الكثير من الصين. ولأنّ ترامب فتح الجبهة على الجميع، على أوروبا وكندا والمكسيك والصين، فهذه السياسة أقلقت الجمهوريين مع اقتراب الانتخابات النصفية الأمريكية، وانعكس ذلك سلباً على شعبية ترامب والحزب الجمهوري. ولكن الاتفاق الجديد القاضي بوقف التعريفات لمدة 90 يوماً، أوقف هذا التخوف والقلق، وهذه هدنة في انتظار التفاوض ونتائجه. 

يضيف عباس: "ترامب يريد اتفاقاً تجارياً على غرار الاتفاق مع بريطانيا، بمعنى التدخل في السلع التي يتم استيرادها. ومن الممكن أن تتجدد خلال هذه الأشهر الثلاثة الـ90 يوماً إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، وذلك خوفاً من التأثير والتبعات الاقتصادية على اقتصاد الدولتين والاقتصاد العالمي. فالرئيس الأمريكي يتعرض لضغط كبير من الشركات، وتحديداً من أنصاره الذين يدعمونه في الانتخابات، لأنّ زيادة أسعار السلع الاستهلاكية ستُغضب المواطن. وهدف ترامب هو أن يجبر الشركات الأمريكية على أن تعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من أن تنتج في الصين وتُصدّر للولايات المتحدة الأمريكية. وبعض الشركات الأمريكية كانت تذهب إلى فيتنام لتجنّب الرسوم الجمركية على الصين، ولكن الآن ترامب فرض تعريفات جمركيةً عاليةً على فيتنام أيضاً، ليس لعودة المصانع الأمريكية إلى أمريكا فحسب، بل كذلك لاستقطاب شركات أجنبية أخرى للاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية حتى تنتج فيها وتبيع في السوق الأمريكي وتُصدّر للخارج، وهذا من الممكن أن يحدث، ولكنه بحاجة إلى وقت طويل".

انعكاسات الحرب التجارية على الاقتصاد العالمي

الصين تتأثر كثيراً، لأنّ اقتصادها في جزء أساسي منه يقوم على التجميع، وليس على الإنتاج والابتكار والتصنيع، فهي تتأثر أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن عموماً، هذه الحرب التجارية تؤثر على الاقتصاد العالمي عموماً، لأنّ أمريكا والصين هما عملاقا الاقتصاد العالمي وتشكلان نحو 40% من اقتصاد العالم، والطرفان لا يريدان لهذه الحرب أن تستمر. ولكن علينا أن ننتظر لنرى ما سيحدث، وإذا استمرت هذه الحرب، فإنها قد تساهم في حدوث ركود اقتصادي عالمي. 

الشكوى الأمريكية ضد ممارسات الصين ليست جديدة، لكنها اليوم تُستخدم كذريعة لحرب تجارية تُغلف بكلام عن "العدالة"، بينما الحقيقة أنها محاولة سافرة لعرقلة صعود اقتصادي لم تستطع واشنطن احتواءه.

ويقول عباس: "نعم، ترامب تراجع بسرعة بسبب الاقتراب من الانهيار في البورصة، وتواصل معه أصحاب الشركات الأمريكية، وقدّموا احتجاجهم له، وقالوا إنّ هذه مشكلة أعادت مخاوف الكساد الاقتصادي الكبير في العام 1929، والذي بدأ أيضاً بمشهد شبيه: انهيار البورصة ثلاثة أيام إلى أن بدأ الانخفاض السريع في ما عُرف بـ'الثلاثاء الأسود'، وبدأت أزمة الكساد الاقتصادي العالمي. كثيرون كانوا يستعيدون في أذهانهم هذا السيناريو، بأنّ ترامب قد يدفع الأمور دون أن يعرف نحو هذا الاتجاه".

فقد اشتعلت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتاريخ 2، و8، و9 نيسان/ أبريل 2025، عدداً من الأوامر التنفيذية حملت الأرقام 14،257، 14،259، و14،266، وتقضي بفرض رسوم جمركية إضافية على البضائع الواردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من عدد من دول العالم، ومن بين تلك الدول الصين، إذ بلغت نسبة الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة منها 145%.

في المقابل، أعلنت وزارة المالية الصينية، بتاريخ 11 نيسان/ أبريل 2025، فرض رسوم جمركية مماثلة على البضائع الأمريكية. وقالت لجنة التعريفات الجمركية في مجلس الدولة الصيني، إنّ "فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركيةً مرتفعةً بشكل غير طبيعي على الصين ينتهك بشكل خطير قواعد التجارة الدولية والقوانين الاقتصادية الأساسية"، وحمّلت الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية الكاملة عن الاضطراب الحادّ في الاقتصاد العالمي وفي أنظمة التبادل التجاري. وردّاً على ذلك، تقدّمت الصين بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد التعريفات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية.

وجولة مفاوضات جنيف

أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالمحادثات الأمريكية الصينية في جنيف، واصفاً إياها بأنها "جيدة جداً"، وعدّها "إعادة ضبط شاملةً تم التفاوض عليها بطريقة ودّية ولكن بنّاءة". 

وفي بيان صادر عن البيت الأبيض، بتاريخ 12 أيار/ مايو 2025، بشأن الاجتماع الاقتصادي والتجاري بين الولايات المتحدة والصين في جنيف، جاء أنّ "كلاً من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة جمهورية الصين تؤكدان على مدى أهمية العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين الدولتين، وانعكاس ذلك على الاقتصاد الدولي، وتُدركان مدى أهمية العلاقات التجارية بينهما على المدى البعيد، وتسيران قدماً نحو الانفتاح الاقتصادي والتعاون والاحترام المتبادل، وتلتزمان باتخاذ إجراءات سريعة بحلول 14 أيار/ مايو 2025، لتعليق الرسوم الجمركية بينهما التي قام الجانبان بفرضها في شهر نيسان/ أبريل 2025، ولمدة 90 يوماً".

ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، صرّح وزير الخزانة سكوت بيسنت، والممثل التجاري الأمريكي جيميسون جري، بعد المحادثات في جنيف مع الوفد الصيني برئاسة نائب رئيس الوزراء هي ليفينغ، بأنّ الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الصينية ستُخفض إلى 30% بدلاً من 145%. وأضاف بيسنت: "توافقت آراء الوفدين هذا الأسبوع على أنّ أياً من الجانبين لا يريد فكّ الارتباط، وأنّ ما حدث مع هذه الرسوم الجمركية المرتفعة للغاية كان بمثابة حظر تجاري، ولا يريد أيّ من الجانبين ذلك. نريد تجارةً أكثر توازناً، وأعتقد أنّ كلا الجانبين ملتزمان بتحقيق ذلك"، مضيفاً أنّ إدارة ترامب، ستدفع الصين إلى زيادة انفتاحها على السلع الأمريكية". من جانبها، أعلنت الصين أنها ستخفض رسومها الجمركية الشاملة على المنتجات الأمريكية من 125% إلى 10%.

يحذر كثيرون من أن فرض الرسوم على الصين، ثم على فيتنام، ثم على شركاء أمريكا أنفسهم، ليس سياسة اقتصادية بل مقامرة شعبوية تهدف فقط لاسترضاء الناخب الأمريكي. والنتيجة؟ انفجار التضخم، تآكل الدولار، احتجاجات من الشركات، وانهيارات بورصوية تعيد إلى الأذهان "الثلاثاء الأسود"، والكساد العظيم

وبحسب وكالة "شينخوا" الصينية، فقد أعلنت الصين بتاريخ 14 أيار/ مايو 2025، أنها ستلغي الرسوم الجمركية الإضافية المعدّلة على السلع الأمريكية لمدة 90 يوماً، والتي كانت قد رُفعت إلى 84% ثم إلى 125%، على تلك المنتجات التي فُرضت بموجب الإعلانين رقم (5) و(6) الصادرين عن لجنة التعريفات الجمركية في مجلس الدولة الصيني بتاريخ 9 و11 نيسان/ أبريل 2025، مع الإبقاء على معدل الرسوم الجمركية الإضافي المتبقّي والبالغ 10% على تلك السلع.

تراجع ترامب نحو هدنة اقتصادية وترقّب حذر

تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً ستكون له انعكاسات إيجابية مؤقتة على الاقتصاد العالمي، ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ 

من الواضح أنّ كلا الدولتين لا تريدان الذهاب إلى الحرب التجارية. فما حصل ليس تراجعاً كلياً من قبل ترامب، ولكنه إدراك بأنّ هذه الطريقة سوف تؤدي إلى قتل الشركات الأمريكية، وقد شاهدنا هذا الهبوط في أسهم الشركات الأمريكية بنحو 20% من وقت وصوله، ولكن اليوم عادت الأمور لتعويض هذه المكاسب، وأُخذت الأمور بطريقة أكثر جدّيةً، وتالياً فإنّ أداء الاقتصاد الأمريكي سيكون أضمن وأقوى بعد وقف تلك الرسوم، وسوف تكون هناك رؤية واضحة خلال الأشهر الثلاثة القادمة، وممكن أن يكون هذا حجر زاوية لنظام تجاري جديد ما بين واشنطن وبكين، بحسب خبير الأسواق المالية، نديم السبع.

يقول السبع، لرصيف22: "إنّ تلك الخطة لن تؤدي إلى عزل الصين ولن تشكل انتصاراً للرئيس الأمريكي، فالصين لديها سياسة تتمثل في محاولة تجنّب الصدام مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتالياً ستحاول استبعاد كل ما يؤدي إلى ذلك. هذا بالإضافة إلى المشكلة الاقتصادية الحالية للصين مع تايوان".

إعادة تموضع إستراتيجي

من جانب آخر، يقول المستشار الاقتصادي لشركة "آي بي إس" للاستشارات في لندن، علي متولي، إنّ ما يحصل الآن بين واشنطن وبكين ليس تراجعاً عن الرسوم، بل محاولة لإعادة التموضع الإستراتيجي، لأنّ ترامب يرى أن الضغط على الصين من خلال الرسوم الجمركية يخدم الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها، وهي استعادة الوظائف الصناعية، وتقوية سلاسل التوريد، وجذب الاستثمارات. ولكن في الوقت ذاته، بدأ الاقتصاد الأمريكي مرحلةً من المعاناة، وتوقعات بالركود في النصف الثاني من العام 2025، وهذا ما فرض على واشنطن الدخول في مفاوضات مع الصين من أجل إيجاد حلّ واقعي لتلك المشكلة.

لم تكن العولمة يوماً نظاماً عادلاً. لكنها اليوم، وبعد صعود الصين، تحوّلت إلى سباق تسليح اقتصادي، وأصبحت مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية مجرد "ديكور" في مسرح تهيمن عليه صفقات ثنائية.

ويضيف لرصيف22: "في ما يتعلق بالتفاهم والوصول إلى اتفاق، يبدو أنّ المشهد معقّد، ومع ذلك توجد نيّة مشتركة من الطرفين لتفادي الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، والتوصل إلى اتفاق بين الجانبين ستكون له آثار وانعكاسات إيجابية على البلدين وعلى الاقتصاد العالمي، ويُقلل مخاطر الركود في البلدين، ويُعزز الثقة بالاقتصاد العالمي. أما في حالة الفشل، فسوف يؤدي ذلك إلى تصاعد في الحماية التجارية، وليس بين الصين وأمريكا فحسب، بل أيضاً من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى مثل البرازيل وإندونيسيا، التي بدأت فعلاً بفرض قيود على البضائع الصينية، وهذا سوف يؤدي إلى زيادة الضغط على الطلب العالمي، ويُضعف الأسواق، ويزيد معدلات البطالة والتضخم في أكثر من منطقة في العالم".

سياسة واشنطن في الشرق الأوسط

ويقول نديم السبع: "إنّ سياسة أمريكا في الشرق الأوسط نحو تخفيف وإنهاء بؤر التوتر والمواجهة هي من أجل التفرغ للمواجهة المستقبلية مع الصين. فالرئيس الأمريكي يريد شرق أوسط خالياً من النزاعات، لأنّ وجود أي مشكلات ونزاعات في الشرق الأوسط سوف يؤدي حتماً إلى استنزاف الخزينة الأمريكية، بوضع قواتها في المنطقة. لذلك، يحاول ترامب أن يعمل على 'زيرو مشكلات' في الشرق الأوسط من أجل التفرغ لمواجهة الصين. فهو يرغب في إيقاف تقدّمها، لأنه يرى أن 'المحتال الصيني' يتقدم بقوّة على مستوى الاقتصاد العالمي. وفي حال استمرار تورط واشنطن في حروب في الشرق الأوسط، سواء مع إيران أو الحوثيين أو لحماية إسرائيل، بينما تستمر الصين في طريق التقدم اقتصادياً وتجارياً، فسوف تصل أمريكا إلى مرحلة تصبح فيها غير قادرة على احتواء الصين. لذلك، ترامب يريد الهدوء في الشرق الأوسط للتفرغ للصين".

أما متولي، فيرى أنّ تأثير ذلك سيكون غير مباشر على دول الشرق الأوسط، وسوف تتأثر سلباً من تراجع الطلب العالمي على النفط والسلع، حتى لو كانت مستثناةً نسبياً من الرسوم الأمريكية. فالنمو في المنطقة تراجع إلى 3.2% في 2025، بسبب ضعف الصادرات، خصوصاً من دول الخليج التي تعتمد على الاستهلاك الصيني والأمريكي للنفط والغاز. 

وعلى صعيد مفاوضات واشنطن وطهران، فإنّ واشنطن تعمل على حرمان الصين من مصادر الطاقة البديلة، خاصةً من إيران، كجزء من إستراتيجية أوسع لمحاصرة النفوذ الاقتصادي الصيني، وهذا يتضح من خلال تشددها في مفاوضات الاتفاق النووي مع طهران، وعدم رغبتها في رفع العقوبات بسهولة. بمعنى آخر، إنّ إدارة ترامب تستخدم أدوات الضغط في الشرق الأوسط كجزء من معركة أكبر مع الصين، وليس كملف منفصل عنها.

مرحلة جديدة من التوازن الاقتصادي العالمي

يقول المحلل الاقتصادي الصيني نادر رونغ، في حديثه إلى رصيف22: "هذا الاتفاق يمثّل تراجعاً مهماً، لأنّ الطرفين أدركا أهمية الشراكة التجارية بين الدولتين، الهادفة إلى المنفعة المتبادلة للجانبين، وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي واستقرار سلاسل التوريد. وسوف يتجه النظام الاقتصادي العالمي إلى حالة من التوازن نحو التجارة الحرة والنظام التجاري متعدد الأطراف. ويُعدّ هذا نجاحاً كبيراً ومهماً، وسيعمل بشكل قوي على حماية الاقتصاد العالمي".

ويختم: "لقد أكدت الصين مراراً وتكراراً أنه لا منتصر في الحرب التجارية. لذلك فإنّ نجاح تلك المفاوضات يُعدّ إفادةً ونجاحاً للجانبين الصيني والأمريكي، وسوف ينعكس إيجاباً على التجارة العالمية والاقتصاد الدولي. هذا الاتفاق يُعدّ هدنة لتهدئة التوتر التجاري بين الدولتين، ويُثبت أسساً لحلّ الخلافات التجارية بينهما من خلال الحوار المستمر لإنهاء تلك الأزمة". 

لقد كشفت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، هشاشة النظام الاقتصادي العالمي كما عرفناه منذ نهاية الحرب الباردة. فعلى مدى ثلاثة عقود، رُوّج للعولمة بوصفها السبيل الأنجع لتحقيق الازدهار المشترك، وارتبطت باتساع الأسواق، وتدويل الإنتاج، وتراجع الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات. غير أنّ ما يجري اليوم من فرض للرسوم الجمركية، وتقييد للتجارة، وتسييس للعلاقات الاقتصادية، يعيد تعريف هذا النموذج بشكل جذري.

الصراع الحالي ليس مجرد خلاف حول فائض تجاري أو حقوق ملكية فكرية، بل هو اختبار عميق لقدرة العولمة على الصمود أمام منطق الهيمنة الوطنية الجديدة، وهو ما يتجسد في صعود التيارات الشعبوية والحمائية في الغرب، وفي تحوّل الصين من "مصنع العالم" إلى لاعب طامع في رسم قواعده.

إذا استمرت هذه السياسات التصادمية، فقد نشهد فعلياً تفككاً تدريجياً للنظام التجاري متعدد الأطراف، وتراجعاً في مكانة مؤسسات كمنظمة التجارة العالمية، وعودةً إلى التفاهمات الثنائية المغلقة، وربما حتى إلى تكتلات اقتصادية متصارعة تتبادل الاتهامات وتفرض الحواجز. وهو سيناريو قد يفضي إلى انكماش النمو العالمي، وزيادة معدلات البطالة، وتدهور الثقة بالأسواق.

لكن من جهة أخرى، هذا التحول لا يخلو من بعض الإيجابيات، على الأقل من زاوية مراجعة نموذج العولمة نفسه، الذي كثيراً ما وُصف بأنه يخدم الكبار على حساب الصغار، ويتجاهل العدالة البيئية والاجتماعية. فربما تؤدي هذه المواجهات إلى دفع الدول الكبرى لإعادة النظر في سلاسل التوريد، وتعزيز التصنيع المحلي، والحدّ من الاعتماد المفرط على اقتصاد واحد أو منطقة واحدة، وهو ما يُمكن أن يخلق فرصاً جديدةً لدول الجنوب إذا أحسنت التموضع.

العالم اليوم أمام لحظة مفصلية: إما عولمة جديدة أكثر توازناً وإنصافاً، أو انكفاء يهدد الاستقرار الاقتصادي الدولي. وفي ظلّ هشاشة التعافي من تداعيات جائحة كورونا، واضطرابات أسعار الطاقة والغذاء، تبقى الكلفة الحقيقية لأي انهيار في منظومة التجارة العالمية أكبر من أن تتحملها دولة بمفردها... حتى وإن كان اسمها الولايات المتحدة أو الصين.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image