على عكس ردودها السابقة المتأنّية، جاء الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية على منشآت وقيادات عسكرية ونووية سريعاً، مساء الجمعة 13 حزيران/ يونيو الجاري، وذلك بعد انكسار حاجز الخوف من تبادل الضربات بين الطرفين من أراضيهما. غاب التأنّي المعهود من إيران في الرد، جرّاء قوة الضربات الإسرائيلية وكثافتها وتكرارها مع تركيزها على أهداف حيوية وقادة بارزين.
وأطلقت طهران قرابة 200 مقذوف صاروخي، مساء أمس الجمعة، رداً على ضربات إسرائيلية غير مسبوقة، استهدفت على نطاق واسع منشآت وقيادات عسكريةً ونوويةً اعتباراً من فجر اليوم نفسه.
مع ذلك، لا يمكن قراءة الهجوم الإسرائيلي على أنه "إعلان حرب شاملة"، بل هو أقرب إلى رسالة شديدة اللهجة، تهدف إلى إجبار النظام الإيراني على مراجعة مساراته قبل توجيه ضربات تقّوض الدولة من جذورها، حسب الباحث والناشط الأحوازي المعارض للنظام الإيراني، رحيم حميد.
رسالة تحذيرية وخياران لا ثالث لهما
يضيف حميد، لرصيف22، أنّ "الهجوم الإسرائيلي لم يكن سوى ضربة تحذيرية شديدة، وضعت النظام الإيراني أمام خيارين: الانزلاق إلى مواجهة قد تطيح بإيران كدولة، أو الدخول في اتفاق يحفظ بقاء النظام مع تنازلات إستراتيجية". ويرجّح حميد -بالنظر إلى براغماتية النظام الخارجية- السيناريو الثاني، لافتاً إلى أنّ نظاماً جديداً يتم التمهيد لتشكيله في إيران.
هذا النظام المتوقّع لا مكان فيه للمعارضة الإيرانية المعتدلة المقيمة في الخارج منذ عقود. بل قد يولد من رحم النظام القائم نفسه، وربما يخرج من داخل بيت المرشد الأعلى، علي خامنئي، تحالف إسلامي قومي فارسي، ينتج نظاماً سياسياً هادئاً ومروَّضاً بالكامل، على حد قوله.
ما هي أهداف إسرائيل ومكاسبها من الهجمات المفاجئة على إيران؟ وعلامَ يدلّ الموقف الأمريكي من هذا التصعيد؟ وأي خيارات تمتلك طهران بعد الرد الانتقامي السريع على غير عادتها؟
"الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لا تعدو كونها مشهداً متقدّماً في سياق الإعداد والترتيب لهذا النظام الجديد، عبر تصفية قيادات الحرس الثوري، والتخلّص من مشروع التسليح النووي ومكوّناته الأساسية"، يُردف حميد.
يتماهى مع هذا الرأي، الباحث في التاريخ والعلاقات الدولية وخبير الشؤون الأوراسية، أحمد دهشان، الذي يرى أنّ "الهجمات الإسرائيلية كانت متوقعةً، ولا سيّما في ظلّ الاستعصاء الحاصل مؤخراً على طاولة التفاوض النووي بين واشنطن وطهران، والذي تنظر تل أبيب إلى نتيجتَيه الإيجابية والسلبية بتوجّس، نظراً إلى عدم تقّبل تل أبيب أي اتفاق أمريكي إيراني قد يعيد طهران إلى المشاركة في رسم سياسات المنطقة بصورة أو بأخرى، أو على الأقل يؤسّس لعلاقة غير عدائية بين واشنطن وطهران، أو بين إيران وبعض أو كلّ الدول العربية، وهو ما تعدّه تل أبيب حسماً من رصيدها على الصعيدين الإقليمي والأمريكي".
وتعارض إسرائيل دمج إيران في المنظومة الإقليمية والدولية من دون إخضاعها. لذا، بادرت إلى الهجوم للضغط على طهران للتوصّل إلى اتفاق بـ"صيغة الاستسلام"، بما يحرمها من تخصيب اليورانيوم على أراضيها، أو يدفعها إلى ردّ قاسٍ، تستغلّه تل أبيب لجذب واشنطن إلى عملية عسكرية مشتركة تنتهي بالقضاء على النظام الإيراني، حسب ما يقول دهشان، لرصيف22.
غياب الضوء الأمريكي الأحمر
تصاعدت التوترات الإقليمية بشكلٍ حادّ بعد تشكيك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علناً في قدرة واشنطن وطهران على التوصل إلى اتفاق نووي. لاحقاً، صبّ قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم امتثال إيران بالتزاماتها، المفروضة بموجب معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، الزيت على النار، وفقاً لمركز صوفان الذي لم يستبعد تصاعد التوتّرات في الوقت الذي تعمل إيران فيه على الانتقام.
وفيما نُشر تقرير المركز قبل الردّ الإيراني والردّ الإسرائيلي المضاد، فقد تكهّن بأن يشمل الرد الإيراني أهدافاً أمريكيةً وإسرائيليةً، نتيجة الإعلان عن علم ترامب المسبق بالضربات الإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، وعدم ممارسته أي ضغط لوقف الهجوم.
لكن الأزمة في مرحلة التصعيد تتمثّل في مباغتة الهجوم الإسرائيلي إيران وإذلاله إياها وتخطّيه خطوطها الحمراء، وفق اللواء السعودي المتقاعد ومدير مركز الدراسات والبحوث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)، أحمد الميموني، الذي يلفت إلى أنّ "طهران ترغب في إعادة توازن الردع من خلال الرد الذي تم سابقاً ولم يحقق نتائج تعيد الهيبة للنظام الإيراني، فيما ترى إسرائيل من جانبها أن هذه الهجمات مرحلة تمهيدية ضرورية لتحجيم القدرة النووية الإيرانية، التي وُصفت بالمتسارعة، واستغلال حالة الإرباك في وحدات الدفاع الجوي الإيرانية بعد الهجمات الإسرائيلية المكثّفة.
"لن تترك إسرائيل أيّ فرصة تساعد إيران في ترتيب صفوفها وقراراتها، لذا من المتوقع أن نرى المزيد من الهجمات المتبادلة"، يتابع الميموني في حديثه إلى رصيف22، مشيراً إلى أنّ مسألة العودة إلى المفاوضات لم تعد أمراً سهلاً بالنسبة لإيران. مع ذلك، يرى الميموني أنّ هناك حراكاً دبلوماسياً من قبل السعودية لاحتواء تداعيات التصعيد في حدوده الدنيا، عبر التواصل مع الجانب الإيراني والتنسيق مع أطراف عربية أخرى، للنفاذ إلى قرار أمريكي بتهدئة النزعة الهجومية الإسرائيلية.
في هذا السياق، يرجّح المجلس الأطلسي غضب حكومات عربية من التحركات "الأحادية" الإسرائيلية، برغم غياب أي تعاطف من هذه الحكومات مع طهران، وذلك بسبب قلقها من ردود الفعل السلبية المتوقعة لشعوبها، بجانب قلق هذه الحكومات من ردود إيرانية قد تضعها في الخطوط الأمامية لحرب لا ترغب في الانخراط فيها. وعلى ذلك، تربط دول عدة في المنطقة التحركات الإسرائيلية بالولايات المتحدة وتلقي جزءاً من اللوم على واشنطن في أي تبعات سلبية.
فضلاً عمّا سبق، تفتقد دول الخليج، ولا سيّما السعودية والإمارات وقطر، الرغبة في نشوب حرب إقليمية تجعلها جميعاً مضطرةً إلى الاختيار بين إسرائيل وإيران، والتخلّي عن رؤيتها الاقتصادية المبنية على الاستقرار الإقليمي وتحقيق التوازن لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، حسب المدير المشارك في مبادرة "سكوكروفت" لأمن الشرق الأوسط، جوزي بيلايو، الذي يلفت إلى الدور الناشئ لدول الخليج كوسيطة والذي عزّز دورها الجيو-سياسي ونفوذها الدبلوماسي. وهذا الدور، المعرّض للخطر الآن بفعل التصعيد الحالي، يعتمد على الاستقرار لأغراض بناء الثقة عند التعامل مع جهة فاعلة مثل إيران.
تشير تسوكرمان، لرصيف22، إلى أنّ الهجمات الإسرائيلية أعادت تعريف الحسابات العسكرية والإستراتيجية في المنطقة، فبالنسبة لإيران، لا يُعدّ القضاء على قيادتها العليا مجرد هزيمة تكتيكية، بل هو صدع وجودي. أما بالنسبة لواشنطن، فهي مؤشر على نفاد صبرها، وعلى أن الدبلوماسية المستقبلية ستُفرض بالإكراه لا الإجماع
وبالعودة إلى حميد، فهو يرى أنّ الموقف الخليجي، خاصةً السعودي، يبدو أكثر ميلاً نحو الاستقرار مع وجود نظام ضعيف في طهران، بدلاً من مغامرة إسقاطه والدخول في فوضى إعادة بناء دولة جديدة في إيران. وهذا موقف قائم على دروس التجربة الإقليمية، حيث أظهرت الوقائع أن إسقاط الأنظمة لا يُفضي بالضرورة إلى ولادة أنظمة أكثر استقراراً أو اعتدالاً. ولهذا السبب، تميل الرياض وأنقرة، وحتى أبو ظبي، إلى دعم اتفاق نووي جديد يضبط طموحات إيران دون إسقاط النظام.
"دبلوماسية الإكراه"
يتردّد صدى الضربات الإسرائيلية ضد إيران في أسواق الطاقة العالمية، لكن بطرق أكثر تقييداً مما توحي به المخاطر، حسب مدير أول ورئيس مورنينغستار لأمن الطاقة العالمي، لاندون ديرينتز. فعلى الرغم من ارتفاع خام برنت بأكثر من 10%، لا يزال سعر البرميل أقلّ من 80 دولاراً، وهو أقل كثيراً من مستويات الأزمة. وعليه، لدى صانعي السياسات مجال أكبر للتصعيد، ولا سيّما مع ترجيح عدم إغلاق إيران مضيق هرمز، خشية انخراط واشنطن في الصراع.
لكن الهجمات الإسرائيلية على إيران تمثّل تصعيداً إستراتيجياً غير مسبوق، وفق محلل الشؤون الشرق أوسطية المقيم في واشنطن، عبد الله الحايك، الذي يرى أنّ الرد الإيراني المباشر شكّل مطلباً داخلياً لا محيد عنه، مضيفاً لرصيف22، أنّ الرد الإيراني يحتوي على ضوابط للحجم والتوقيت لضمان الردع، دون الوصول إلى حدود المواجهة الشاملة، لكن تأثيره، نفسياً وسياسياً، سيكون بالغاً.
ويضيف الحايك، أنّ إيران "تعي أنّ الرد المباشر ضروري لتعزيز هيبة الردع داخلياً، ولقلب المعادلة الإستراتيجية، إذ إنّ الرد عبر الوكلاء لم يعد يُشكل قوةً كافيةً أمام الضربة الإسرائيلية الضخمة. والنتيجة المتوقعة لاحقاً هي استمرار دوامة الردّ والردّ المضاد ضمن مستويات إستراتيجية محدودة تدار بحذر، بحيث توفّر لطرفي الصراع خيارات للتهدئة المؤقتة أو للتخلي عن بعض التصعيد في اللحظة المناسبة. مع ذلك، تحمل المرحلة القادمة مؤشراً على تحول في طبيعة الصراع، قد يفضي إلى دور أعلى في حجم الردود ومداها، وهو ما سيشكل اختباراً كبيراً لقدرة الأطراف على ضبط مستوى التصعيد، لتفادي خروج الصراع عن السيطرة.
لكن القيادة الإيرانية وجدت نفسها عالقةً بين ضرورات متعددة ومتعارضة، حسب المحللة الإستراتيجية الأمريكية، إيرينا تسوكرمان، التي تضيف أنّ عليها الرد لمنع انهيار كامل لمصداقيتها الرادعة إقليمياً وداخلياً. ومع ذلك، هي تدرك أنّ أيّ رد فوري أو واسع النطاق يُنذر بهجمات مضادة أكثر تدميراً، واستهدافاً إضافياً للقيادة، وتدميراً محتملاً لأصولها النووية.
تشير تسوكرمان، في حديثها إلى رصيف22، إلى أنّ الهجمات الإسرائيلية أعادت تعريف الحسابات العسكرية والإستراتيجية في المنطقة، فبالنسبة لإيران، لا يُعدّ القضاء على قيادتها العليا مجرد هزيمة تكتيكية، بل هو صدع وجودي. وبالنسبة لإسرائيل، أثبتت العملية أنّ الردع من خلال الهيمنة لا يزال ممكناً، وأنّ المفاجآت الإستراتيجية لا تزال قابلةً للتحقيق حتى في أكثر البيئات عدائيةً. أما بالنسبة للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، فهي مؤشر على نفاد صبرها، وعلى أن الدبلوماسية المستقبلية ستُفرض بالإكراه لا الإجماع. لذا، فإنّ إعادة تقييم الوضع من قبل طهران، أو حتى الوصول إلى تسوية تفاوضية، قد يكونان السبيل الوحيد لبقاء النظام.
والسؤال الملحّ هنا: هل يتجه الشرق الأوسط نحو حقبة جديدة من الردع متعدد الأقطاب غير المستقرّ؟ أم أننا نشهد تفككاً بطيئاً، ولكنه نهائي، لقدرة إيران على البقاء لاعباً محورياً في هيكل القوة الإقليمي؟
إيران ضعيفة لكنها كبيرة جداً
تهدف إسرائيل من استهداف المنشآت والعلماء النوويين الرئيسيين إلى الحطّ من قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية وتأخيرها، فيما سعت عبر مهاجمة المنشآت الصاروخية والطائرات من دون طيار، فضلاً عن استهداف شخصيات قيادية عسكرية، إلى الحد من قدرة طهران الانتقامية. ومن خلفهما، تأمل تل أبيب قطع رأس النظام، حسب الزميلة الأولى غير المقيمة في برنامج الدفاع الأمامي في مركز "سكوكروفت" للإستراتيجية والأمن، راشيل ويتلارك، وذلك بالنظر إلى ما توحي به الهجمات الواسعة ضد القوات العسكرية والحرس الثوري من هدف أكبر على مستوى النظام.
وفق الضمور، فإنّ هذه الهجمات لا تشكّل حرباً، أو حتى بداية حرب، بل هي عملية مخصصة، وضربة فنية، يحتاجها نتنياهو لإعادة تسويق نفسه وشعبيته في الشارع الإسرائيلي من جديد. كما يمكن عدّها جزءاً من الضغوط الأمريكية غير المباشرة على إيران لانتزاع اتفاق جديد معها، في الشقّ النووي وسواه
في المقابل، يرى مدير عام مركز "ستراتيجكس" البحثي، حازم الضمور، أن الضربات الاستباقية الإسرائيلية كانت تطمح إلى ثلاثة أهداف، أولها محاولة على القضاء على البنية التحتية للبرنامج النووي الخاصة بالتخصيب، وثانيها القضاء على البنية التحتية للبرنامج الصاروخ مع ضرورة التركيز على وصف "البنية التحتية"، كون القضاء على البرنامجين المذكورين كلياً صعباً جداً في ضربة واحدة، وغير منطقي أو معقول، فيما يتشابه ثالث الأهداف مع ما جرى في غزة ولبنان من اغتيال قيادات الصف الأول والثاني، على حد قوله لرصيف22.
في المحصلة، لا تشكل هذه الهجمات حرباً، أو بداية حرب، بل هي عملية مخصصة، وضربة فنية، يحتاجها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإعادة تسويق نفسه وشعبيته في الشارع الإسرائيلي من جديد. كما يمكن عدّها جزءاً من الضغوط الأمريكية غير المباشرة على إيران لانتزاع اتفاق جديد معها، في الشقّ النووي وسواه، حسب الضمور.
لكنه يشدّد في الوقت نفسه على أن ما لم يفكّر فيه الجانبان الأمريكي والإسرائيلي، هو أن إيران دولة كبيرة جداً، صحيح أنها منهكة اقتصادياً وعسكرياً، ويمكن إضعافها، واستنزافها، وضرب منشآت عسكرية وغير عسكرية فيها، لكن في النهاية يجب الأخذ في الحسبان أنها دولة تمتلك قدراتها وأدواتها، وتعمل وتنشط في المجال الاستخباري، كما تنشط في العمق الحيوي والجغرافي.
ختاماً، تبقى السيناريوهات كافة مفتوحةً في الظروف الحالية، حسب دهشان، ما لم يتم التوصّل إلى تسوية أو تهدئة خلال الأسبوع الأول من هذا الصراع، بما في ذلك انخراطاً إيرانياً أكبر يستجرّ مؤازرة الحوثيين وربما فصائل عراقية موالية لطهران وغيرهما، بجانب خطر توريط سوريا في ضرب الفصائل العراقية، مع توسيع دائرة الحرب بطريقة تفرض تدخّل بعض الدول الخليجية لوقف التصعيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ يومالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة بنكبر بقدر الأحداث البنعيشها قصف و انسحاب و مجاعة و حصار...
Mohammed Alamir -
منذ يومالوقت في الحرب م طبيعي اليوم يساوي سنة
Tayma shreet -
منذ يوميالله يا رماح !!
Gmal -
منذ يوم?
Gmal -
منذ يوم?
Gmal -
منذ يوم? هلا بالقلب