ربما لا ينطلي على سجلات التاريخ تطرّف العداء بين إيران وإسرائيل؛ فبينما لا تعترف أدبيات السياسة بعدوّ دائم ولا صديق محتوم، يؤشر الواقع على مدّ وجزر العلاقات بين الجانبين؛ فالمدّ عنوان عريض عند تلاقي المصالح، والجزر بيت القصيد حال تنافرها. ولا تغيب القاعدة البراغماتية ذاتها عن "رقعة شطرنج" العلاقات، إذ لا تختلف إيران الشاه، عن إيران الخميني، في العلاقة مع إسرائيل. الفارق الوحيد بينهما علنية علاقات ما قبل الثورة الإسلامية، وتموضعها تحت الطاولة إلى فترة من الزمن بعد هيمنة نظام الخميني على السلطة عام 1979.
تعرّجت العلاقات بين إيران وإسرائيل منذ قرار الأمم المتحدة المعروف بـ"خطة التقسيم" عام 1947؛ ففي حين صوَّتت طهران ضد إقامة إسرائيل، كانت من أوائل الدول التي اعترفت بها على الساحة الدولية في آذار/ مارس عام 1950، وثاني دولة شرق أوسطية تعترف بها، حتى أنها فتحت مكتباً تمثيلياً لها في تل أبيب، لكنها تراجعت في 11 تموز/ يوليو 1951، لتعلن إلغاء اعترافها بإسرائيل وإغلاق مكتبها هناك، وحصر تمثيل الشؤون الإيرانية خلال سنوات لاحقة في السفارة السويسرية في إسرائيل.
وتحكمت المصالح المعلنة وغيرها بين الجانبين في بوصلة تقارب العلاقات وانحسارها، لكنها وصلت إلى ما يمكن وصفه بـ"العصر الذهبي" تحت مظلة "تحالف الطوق"، وهي إستراتيجية ابتكرها السياسي رؤوفين شيلو، المستشار المقرب من أول رئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون. وفيما انطوت الإستراتيجية على أبعاد أمنية، قولبتها حكومة تل أبيب الوليدة في نسق دبلوماسي، ودعت من خلالها إلى هندسة تحالفات إستراتيجية دافئة مع دول منطقة الشرق الأوسط، ووضع إيران في طليعة الدول المستهدفة، بالإضافة إلى خلق تحالفات مماثلة مع أقليات غير عربية في مقدمتها الأكراد، وتحديداً أكراد العراق.
تدريبات "عملية السجادة" و"الزهرة" بالتعاون مع إسرائيل
تلقَّفت إيران الشاه فكرة "تحالف الطوق" الإسرائيلية، وأثار المكوِّن الكردي في الإستراتيجية شهية طهران، لا سيما في ضوء ثلاثية مصالح مركَّبة بين إيران، وإسرائيل، والأكراد. وتمهيداً لتفعيل لغة المصالح، عيَّنت إسرائيل عام 1960 ضابط الموساد (العراقي الأصل)، يعقوب نمرودي، في منصب أول ملحق عسكري إسرائيلي لدى طهران، وساهم نمرودي كثيراً في توطيد العلاقات العسكرية والاقتصادية بين إيران وإسرائيل.
تحكمت المصالح المعلنة وغيرها في بوصلة تقارب العلاقات بين إيران وإسرائيل وانحسارها، لكنها وصلت إلى ما يمكن وصفه بـ"العصر الذهبي" تحت مظلة "تحالف الطوق"، وهي إستراتيجية ابتكرها السياسي رؤوفين شيلو، المستشار المقرب من أول رئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون
وتوَّج باكورة التعاون الاقتصادي حينها بين إيران وإسرائيل تدشين شركة خطوط أنابيب النفط والغاز "إيلات–عسقلان" (Ktsa)، عام 1969، وهي مجموعة شركات إيرانية–إسرائيلية، ينقل من خلالها الطرفان النفط والغاز الإيرانيين إلى أوروبا؛ وبينما كانت تحمل ناقلات النفط والغاز الإيرانية حمولتها عبر البحر الأحمر إلى ميناء إيلات، تتدفق الحمولات عبر أنابيب إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي شرق البحر المتوسط، ومنه عبر ناقلات بحرية إلى أسواق أوروبا.
ولم تغِب العلاقات العسكرية بين طهران وتل أبيب خلال تلك الفترة، ففي العقد الأخير من حكم الشاه، وصلت واردات إيران العسكرية من إسرائيل إلى الذروة، حتى أن الجانبين طوّرا مشروع "الزهرة"، الذي ترجم محاولات إيران وإسرائيل لتطوير صاروخ جديد، فضلاً عن بيع إسرائيل أسلحةً مختلفةً لإيران، مثل الرشاش "عوزي". وعقد الجانبان أيضاً اجتماعات على أعلى مستوى أمني بين جهاز الاستخبارات الإيراني "السافاك"، ونظيره الإسرائيلي "الموساد".
ويرى العميد الإسرائيلي المتقاعد تسوري ساجي، نفسه شاهداً على متانة العلاقات الأمنية والعسكرية في حينه بين إسرائيل وإيران، مشيراً في كتاب تحت عنوان "معاركي إلى جانب الأكراد في العراق"، إلى أنه انتقل في شهر تموز/ يوليو 1966، ومعه عدد كبير من الضباط المظليين إلى إيران، وكان الهدف من الزيارة تدريب القوات الإيرانية الخاصة. ويضيف، في كتابه الصادر في 2017: "أعددنا دورةً تدريبيةً خاصةً، حملت الاسم الكودي 'عملية السجادة'. ومع بداية الدورة جرت عملية استطلاع في كافة أنحاء إيران، تم خلالها رصد أهداف يمكن استغلالها في التدريب على المداهمة، ونصب الكمائن، وتدريبات أخرى على زرع مواد متفجرة؛ كما تم تحديد وسائل تأمين منشآت النفط الإيرانية في أبادان، وفي قطاع خوزستان".
عناق المصالح تحت مظلّة الإستراتيجية الإسرائيلية
وبجانب المحورين الاقتصادي والأمني، تعانقت المصالح الإيرانية الإسرائيلية تحت مظلة "تحالف الطوق" في نقاط تماس بالغة الحساسية. ففي حين سعت إسرائيل من خلال إيران إلى اختراق طوق الدول العربية، عدّ شاه إيران الرئيس المصري حينئذ جمال عبد الناصر، عدوّه الأول في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وأنه هدد مصادر النفط في خوزستان، التي كانت شريان حياة إيران الاقتصادي. في المقابل، كان عبد الناصر أيضاً عدوّ إسرائيل الأول خلال الفترة ذاتها؛ وعلى هذه الحالة انطبق المثل القائل: "عدوّ عدوّي صديقي".
أما علاقات إسرائيل مع الأكراد، التي أضحت إيران البوابة الوحيدة للانفتاح عليهم، واختراق العمق العراقي من خلالهم، فاعتمدت هي الأخرى على مصالح مشتركة بين طهران وتل أبيب، لكن الطرفين عنوناها في الظاهر بـ"التضامن مع الشعب الكردي"، واستغلّا واقع تلك الأقلية العرقية، التي تناضل من أجل استقلالها، لتحقيق أهداف سياسية وإقليمية خاصة.
وتعترف إسرائيل بدورها في ثلاثية المصالح بين إيران وإسرائيل وأكراد العراق إبّان تلك الفترة، إذ تشير دوائرها إلى أن حركات التمرد التي أدارها الأكراد ضد العراق، تناغمت ومصالح إسرائيل، التي اعتبرت العراقيين أعداء، يشاركون دائماً في المعارك التي تستهدفها. وبينما كانت إيران هي الأخرى معنيّةً بإذكاء قتال الأكراد للعراقيين، لإنهاك الجيش العراقي، وإبعاد الدولة العراقية عن مناطق النفط الإيرانية، اهتمت في المقابل أيضاً بإضعاف الأكراد، للحيلولة دون إقامة دولة لهم على حدودها.
الأكراد الذين كانت مصالحهم الجوهرية تنضوي في الخلاص، وجدوا في إيران شريكاً في مصلحة قتال الجيش العراقي، وعدّوا إسرائيل أيضاً "شريكاً مخلصاً"، تتطلع هي الأخرى إلى إضعاف الجيش العراقي، وكشفت عن تضامن مع الشعب الكردي، حتى لو في إطار تبادل المصالح.
وفيما كان الأكراد العراقيون يعيشون في كتلة جبلية شمال العراق، كانت معاركهم مع الجيش العراقي تدار على وجه الخصوص فوق تلال عالية في المنطقة الجبلية الواقعة بين العراق وإيران. وفي هذه المنطقة، كان الأكراد يعانون فقراً مدقعاً، وسفك دماء لا يتوقف في حربهم مع نظام البعث العراقي، الذي تلقّى جيشه تسليحاً جيداً من الاتحاد السوفياتي، بينما اعتمد الأكراد على جيش قبلي فقير، يقتصر تسليحه على بنادق قنص ألمانية الصنع من طراز "ماوزر"، كان يحصل عليها من الإيرانيين، حسب مؤلف الكتاب سابق الذكر.
بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، لم يتوانَ نظام الخميني في الحفاظ على معادلة المصالح، حتى إذا اقتضت الحاجة التعاون مع إسرائيل التي نعتها بـ"الشيطان الأصغر"، بينما وصم الولايات المتحدة بـ"الشيطان الأكبر"، ولم تتردد إيران الخميني في شراء الأسلحة من إسرائيل خلال الحرب العراقية الإيرانية
دور إسرائيلي تحت عيون أجهزة الأمن الإيرانية
من خلال الأكراد، وتحت عيون أجهزة الأمن الإيرانية، لعبت إسرائيل دوراً عسكرياً في إجهاض واستنزاف الجيش العراقي عبر تدريب وتسليح وقيادة مقاتلي "البشمركة" في ميادين قتال شمال العراق. وبإشراف الإيرانيين أيضاً، توطدت العلاقة بين كوادر الموساد الإسرائيلي وزعيم الأكراد في حينه الملا مصطفى البرزاني. وفي كتابه، يكشف الضابط الإسرائيلي المتقاعد تسوري ساجي، رسالة البرزاني له بعد حرب 1967، وتحديداً في 23 تموز/ يوليو 1967، والتي تلقّاها عبر الملحق العسكري الإسرائيلي لدى طهران، وجاء نصها كالتالي، حسب الرواية الإسرائيلية:
"حضرة الأخ العزيز تسوري المحترم؛ بعد تقديم السلام والاحترام. نقبِّل عيونكم، ونسأل عن صحتكم وأحوالكم، ونتمنى لكم من الله أن تكونوا متمتعين بأحسن الصحة، وأن تكونوا بخير دائماً. إذا سألتم عنّا، فنحن والحمد لله بخير وصحتي جيدة؛ أما عن الوضع فهو متوتر، وتحدث تطورات جديدة باستمرار. إننا نأمل أن تذكرونا دائماً وتساعدوا على الحالة التي يعانيها شعبنا؛ وإننا في اشتياق للفرصة الجديدة، التي نتمكن فيها أن نراكم. هذا مع تمنياتنا القلبية لكم بالصحة والتسعادة والتوفيق. المخلص، مصطفى البرزاني".
بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، لم يتوانَ نظام الخميني في الحفاظ على معادلة المصالح، حتى إذا اقتضت الحاجة التعاون مع إسرائيل التي نعتها بـ"الشيطان الأصغر"، بينما وصم الولايات المتحدة بـ"الشيطان الأكبر"، ولم تتردد إيران الخميني في شراء الأسلحة من إسرائيل خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. وعلى خلفية المصلحة المشتركة بين إيران وإسرائيل الرامية إلى احتواء العراق، اشترت إيران أسلحةً بقيمة 2.5 مليارات دولار من إسرائيل عبر وسطاء، حسب موقع "ميدا" البحثي.
خلال التحقيقات مع رجل الأعمال الإسرائيلي ناحوم منبر الذي أدين بإبرام صفقات تجارية سرّيّة مع إيران، تكشّفت معلومات مثيرة عن علاقات وصفقات بين مئات الشركات الإسرائيلية وإيران.
علاقات وطيدة مع إسرائيل لم توقفها الثورة الإسلامية
ووفق تقرير لجنة الكونغرس الأمريكي التي حققت في قضية "إيران كونترا"، وهو تقرير نُشر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، "بدأت عمليات بيع الأسلحة الأمريكية لإيران عبر إسرائيل في صيف عام 1985، بعد الحصول على موافقة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان". وتضمنت صفقة الأسلحة ما يلي: 2،800 صاروخ من طراز "تاو"، و235 حزمة صواريخ من طراز "هوك"، وجاء ذلك بعد إحباط وزارة العدل الأمريكية شحنات أسلحة إضافية من إسرائيل إلى إيران، بقيمة تصل إلى ملياري دولار، تحتوي على 18 طائرة "فانتوم"، و46 طائرة "سكاي هوك"، ونحو 4،000 صاروخ؛ ووفقاً لتقارير أخرى، وافقت إسرائيل على بيع إيران صواريخ جوّ-جوّ من طراز Sidewinder، بالإضافة إلى منظومات رادارية، وذخائر لقذائف الهاون والرشاشات، وأجهزة اتصالات ميدانية، ومحركات وقذائف دبابات من طراز M60، فضلاً عن قطع غيار لطائرات نقل من طراز C-130.
وفيما وضعت صحيفة "واشنطن ريبورت"، تقديرات تشير إلى أن "حجم مبيعات الأسلحة من إسرائيل إلى إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية بلغ 500 مليون دولار سنوياً"، قالت مجلة "تايم" الأمريكية، إنه "خلال عامي 1981 و1982، فتح الإسرائيليون حسابات مصرفيةً في سويسرا للتعامل مع حسابات صفقاتها العسكرية مع إيران".
وفي عام 1998، قضت محكمة إسرائيلية بالسجن 16 عاماً لرجل الأعمال الإسرائيلي ناحوم منبر، على خلفية إدانته في إبرام صفقات تجارية سرّيّة مع إيران؛ وخلال التحقيقات التي جرت في القضية، تكشفت معلومات مثيرة، تؤكد جميعها أن مئات الشركات الإسرائيلية تقيم علاقات وتبرم صفقات غير قانونية مع إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه