في كثير من دول العالم العربي، تحمل الحجارة رموزاً وأبعاداً، حتى أنها قد تتحول إلى "سلاح" مقاومة. أما في سوريا، فقد حمَّل السوريون الحجارة أحلاماً وأمنيات تفوق قدرتها، فلم تعد مجرد مواد مترسبة طالتها عوامل النحت والتعرية، إنما أصبح لكلّ حجرة قصة مختلفة، ولكلّ حجر رمز يتمّ تفكيكه من قبل متخصّصين تارةً، ومشعوذين تارةً أخرى لغرض "الوصول إلى الكنز".
في هذا التقرير، نتتبّع حالات الحفر والتنقيب بحثاً عن الكنوز والدفائن (كل ما يُعتقد أنه مال أو قطع أثرية أو كنوز مدفونة تحت الأرض، وغالباً ما تكون قد دُفنت في زمن قديم لغرض الإخفاء أو الحفظ)، الموجودة تحت الأرض، والتي باتت متكرّرةً في سوريا على نحو خاص في ظل الظروف الأمنية الاستثنائية التي تعيشها البلاد منذ إسقاط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024.
كما نفصّل كيف تتمّ هذه العملية وعلاقة رجال الدين بـ"كشف المرصود"، وتفاصيل تجارتهم الجديدة؟
حضارات مدفونة وكنوز تنتظر "المخلّصين"
هناك الكثير من الحضارات التي مرّت على أرض سوريا، ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر: تل مرديخ التي كانت جزءاً من مملكة إيبلا، ورأس شمرا أو أوغاريت، ومملكة زنوبيا، ومملكة ماري المعروفة بتلّ الحرير، والحضارة الكلدانية والآرامية، وغيرها.
هذه الحضارات وغيرها تمثّل قيمةً تاريخيةً وأثريةً كبيرةً للعديد من المناطق المحلية، وهو ما يشجّع العديد من السوريين اليوم على التنقيب في أراضيهم، وتحت أبنيتهم، عن كنوز ماضٍ غنيٍّ يعتقدون أنها مدفونة تحت الأرض علَّها تنقذهم من فقر الحاضر.
وحسب ما يتم تداوله على السوشال ميديا، ووفق عدد من الأشخاص الذين يقومون بهذه المحاولات، وتواصلنا معهم، فإنّ عمليات البحث والتنقيب عن الآثار اليوم في البلاد تتم بطرائق ممنهجة لا تتوقف على الرغم من أنها في معظم الأوقات لا تقود إلى نتيجة مرضية. ويتمّ التنقيب عادةً بواسطة فريق يتألّف من حفّارة وباحث آثار لفكّ الرموز والشفرات حال العثور على أيّ "دفينة"، وجهاز للكشف عن الآثار، و"شيخ".
"الرسم المثلث على الحجر يعني وجود محراب في مكان الحفر، والبصمة تدلّ على وجود دفين قريب جداً، أو في اتجاه البصمة"... جولة في عالم البحث عن الكنوز والدفائن وخبايا "فك الرصد" في سوريا
التنقيب… من السرّ إلى الفوضى العلانية
وكما جرت العادة مؤخراً، تُقسم المواضيع في الشأن السوري على مرحلتين؛ أولاهما قبل إسقاط الأسد، والثانية بعد إسقاطه. أيضاً يمكن الحديث عن موضوع الحفر والتنقيب عن الآثار والكنوز في هاتين المرحلتين.
فقبل إسقاط الأسد، كان التنقيب يخضع لقبضة أمنية صارمة، وأيّ عملية حفر لأيّ جهة عامة، كانت تُعدّ جريمةً يتمّ التشدّد في العقاب عليها.
مع ذلك، كانت تتم بعض عمليات الحفر والتنقيب السرّية تحت إشراف بعض المتنفذين والضباط ولصالحهم، فيما كانت عمليات التنقيب الأساسية والشرعية في قبضة المديرية العامة للآثار والمتاحف، بوصفها الجهة الوحيدة المخولة الحفر، وحتى حيازة أجهزة البحث والتنقيب كانت تُعدّ تهديداً مباشراً للدولة.
لكن اندلاع الحرب الأهلية في البلاد وانهيار القبضة الأمنية في مناطق عدة، ساهما في حدوث الفوضى في التنقيب عن الآثار، وتزايدت معهما حالات التنقيب الشعبي والجماعي أحياناً، خاصةً في المناطق غير التابعة لسيطرة النظام، عدا عن دخول سماسرة آثار على مستوى دولي.
وبحسب اليونسكو، فإنّ الحفريات غير القانونية في المواقع الأثرية في سوريا تسببت في "أضرار لا رجعة فيها" لهذه المواقع، بالإضافة إلى تعرّض تدمر وماري وإيبلا، لأعمال نهب وتخريب جسيمة. وعن تقرير اليونسكو، تقول خبيرة الآثار رئيسة شعبة التنقيب في دائرة آثار حمص، تيريز ليون، لرصيف22: "نعلم أنّ تدمر كانت من المواقع التي تضررت كثيراً نتيجة الأحداث، بسبب الاستهداف المباشر والقصف الجوي للمدينة. ولكن هناك العديد من المواقع الأخرى في سوريا تضررت أيضاً، مثل 'المدن المنسية' في إدلب، التي تضرّرت لا بسبب التنقيب العشوائي فحسب، بل أيضاً بسبب الزلزال الذي ضرب سوريا في 6 شباط/ فبراير 2023".
وتشرح ليون، أنّ "سبب التركيز على تدمر هو أنها مُدرجة على قائمة التراث العالمي، أما باقي المواقع، فلا تحظى باهتمام كبير من قبل اليونسكو، ولذلك لا يتم تقدير حجم الضرر فيها بدقّة. ونحن كدوائر آثار، لم نتمكن من إجراء تقييم حقيقي لما حدث بعد حملة التنقيب العشوائي الكبيرة التي طالت جميع المناطق السورية، سواء في المدن أو الأرياف، لأنّ الوضع سيئ للغاية".
أما عن مرحلة ما بعد إسقاط الأسد، فقد نشطت حالات الحفر والتنقيب بشكلٍ واسعٍ وعلني، حتى أصبحت هناك فرق خاصة للتنقيب، ومجموعات مفتوحة ومتاحة للجميع على مواقع التواصل الاجتماعي تقوم بتقديم "المشورة" بشأن تفكيك الشفرات والرموز الموجودة على الحجارة والمخطوطات والخرائط.
وعن ذلك، توضح ليون، أنّ التنقيب العشوائي "مخالفة قانونية يُعاقب عليها القانون السوري، وقد تم التعاون سابقاً مع الجهات الأمنية لتطبيق القانون على المخالفين، خاصةً في ظل تراجع قيمة الليرة السورية، ما استدعى إجراء تعديلات على تقدير الغرامات بما يتناسب مع القيمة الفعلية للعملة المحلية".
وتنبّه ليون، إلى أنّ الأوضاع الأمنية بعد إسقاط الأسد حالت دون تمكّن كوادر الآثار من النزول إلى المواقع وتقدير حجم الأضرار، وهو واقع ينسحب على جميع دوائر الآثار في سوريا، لذلك فإنّ التقييم الحالي يعتمد على المشاهدات السابقة للمواقع المتضررة، والتي غالباً ما تتعرض للحفر العشوائي.
وفي شباط/ فبراير 2025، حذّر "تلفزيون سوريا"، نقلاً عن مصادر لم يسمّها، من أنّ "معظم المحافظات السورية، خاصةً درعا جنوبي البلاد، تشهد عمليات تنقيب مكثفةً عن الآثار، ينفّذها مهرّبون بالتعاون مع عناصر أمنية وعسكرية بعضها يتبع للإدارة السورية الجديدة، وذلك مقابل 20% عن كل عملية تنقيب ناجحة"، مؤكداً أنّ هذه العمليات تتم بأجهزة حديثة وجرّافات وبواسطة الأهالي قبل تهريب الآثار المستخرجة إلى الخارج.
ترجمة الشفرات وصولاً إلى "الكنز"
عبر العديد من الحسابات والمجموعات الخاصة بالحفر والتنقيب على فيسبوك، ينشط علناً الكثير من السوريين الذين يستفسرون عن صور أحجار ودفائن عثروا عليها في أراضيهم وأسفل أبنيتهم، باحثين عن تفسير لما عليها من نقوش ورسوم وإشارات، ويجيبهم بعض من يصنّفون أنفسهم خبراء شعبيين ويقدّمون لهم تفسيرات وترجمات للرموز الموجودة على الأحجار.
بعد جولة مطولة بين هذه المنشورات والردود والتفسيرات المقترحة عليها، تبيّن لنا أنه إذا كان الحجر يأخذ شكل سلحفاة بلا أذرع، فإنّ هذا يُفسّر على أنّ الكنز موجود أسفله بشكل مباشر، أما إذا كانت السلحفاة بأذرع فإنّ هذا يعني أنّ على المُنقِّب أن يتبع اتجاه الأذرع ويبدأ بالحفر في الاتجاه نفسه. أما إذا كانت متحركةً من مكانها، فإنّ الكنز في داخل قوقعتها بشكل مباشر، وعلى الشخص الذي يجد هذا الصخر أن يحطّمه بفأسٍ، أما إذا كانت السلحفاة مقطوعة الرأس فهذا يعني أنه تمّ تغيير مكان الدفن.
كذلك، إذا وُجد على الحجر رسم مثلث، فهذا يعني أنه يدلّ على وجود محراب في مكان الحفر. وإذا رُسمت على الصخر بصمة، فهذا يدلّ على وجود دفين قريب جداً، أو باتجاه معيّن تشير إليه البصمة. والسيف على الصخرة يعني أنّ المُنقِّب سيجد قبراً لشخصية كانت ذات شأن في الماضي، فيما إذا وجد جَمَلاً، فعليه تتبّع اتجاه رقبة الجمل لأنها تُشير إلى الاتجاه الصحيح في الحفر.
وفي حال عثر على حجر عليه عقرب، فهو كالسلحفاة ينطوي على معانٍ عدة، فإذا كان بذيلٍ فعلى المُنقِّب حساب عدد الخطوط الموجودة على الذيل وتحويلها إلى أمتار ويُضاف إليه طول الزُّبانى (قرن العقرب)، أما إذا كان مقطوع الذيل فالهدف تحت الصخرة مُباشرةً.
الرموز لا تنتهي هنا، بل لا يزال هناك العديد غيرها مثل: الثور الأعور، والمربع الجانبي، والثعبان…إلخ. وتعقيباً على التفسيرات المتداولة المزعومة لهذه الرموز، تقول ليون: "لم ألتقِ خلال 12 عاماً من عملي بأي حالة حقيقية تشير فيها 'إشارة' إلى دفين، نتأكد فعلاً من وجوده. هذا موروث شعبي، لا يمتّ إلى العلم بصلة، ولا يُدرّس ضمن اختصاص الآثار إطلاقاً".
"امرأة طاهرة" وبخور وثُلث الكنز للشيخ… عن خرافة "فكّ الرصد" للوصول إلى الآثار والدفائن النفيسة في سوريا، أو كيف دفعت الظروف الاقتصادية المأزومة والانفلات الأمني بعض السوريين إلى التنقيب العشوائي عن الآثار
خرافة "فكّ الرصد"… "امرأة طاهرة" وثلث الكنز للشيخ
لا يقتصر الأمر على تفسير الرموز وترجمة الرسوم على الحجر في رحلة البحث عن كنز أو خبيئة، إذ ينتهج الأهالي في سوريا طرائق موروثة عدة أخرى يظنّون أنها تقرّبهم من الوصول إلى الأثر الذي قد يبدّل حالهم إلى الأحسن. بحسب تجربة إبراهيم، ابن مدينة درعا، مع الحفر والتنقيب، كما يرويها لرصيف22، فإنّ عملية الحفر لا تقتصر على فريق خبير وجهاز كشف غالي الثمن وحتى إشارات وتحليل صحيح لهذه الإشارات، حيث زعم الفريق الذي استعان به للتنقيب أنهُ قد تتوافر جميع هذه المقومات ولا يُعثر على الكنز وذلك بسبب وجود "رصد".
والرصد في المفهوم الشعبي يعني وجود قوى روحية خفيّة تقوم بحراسة الكنوز وتعسّر عملية البحث عنها، وتقف في وجه الوصول إليها، ولأجل فكّ هذا الرصد يطلب رجل دين/ شيخ، ثلث الكنز الذي قد يتم العثور عليه، ومبلغاً مالياً بسيطاً "يلّي بيطلع من الخاطر"، إذا لم يتم العثور على شيء في نهاية عملية الحفر.
وعن ذلك، تُعقّب ليون: "خلال عملي في دائرة الآثار، لم ألتقِ بأيّ حالة قامت بالاستعانة بشيخ ونجح في 'فكّ الرصد'، ومكّن من استخراج دفائن. في الواقع، تمّ فتح الكثير من المدافن الملكية المهمة جداً دون 'فكّ رصد'، مثل مدفن المشرفة الذي اكتشفته البعثة الألمانية بين عامي 2008 و2009، كما تم استخراج كنز مملكة قطنة، الموجود في المدفن الملكي، دون 'فكّ رصد'. لكن كانت هناك كتابة على المسلّات عند التماثيل الجنائزية، مكتوبة عليها لعنات مطلوبة من الآلهة لمن يعبث بهذه المدافن، وهذا ليس رصداً بل صلوات أو لعنات".
بالعودة إلى إبراهيم، يوضح أنه قام بالحفر أسفل منزل العائلة بحثاً عن الكنوز والدفائن. "كان جدّي دائماً يحكي لنا عن وجود ذهب مدفون في بيتنا، لكننا كُنا نخشى الحديث عن الموضوع أو الحفر في ظلّ نظام الأسد، لأنّ ذلك يؤدي إلى عقوبة قانونية. أما بعد إسقاط الأسد، فاتجهت غالبية الناس إلى الحفر، وأصبح الجوّ العام يسمح بهذه الأمور، فقلنا: 'ليش لأ؟ خلّينا نجرب'"، يقول.
ويتابع: "سألنا أناساً، وقالوا علينا باللجوء إلى شيخ ليقوم بـ'فكّ الرصد'، وبالفعل تعرّفنا إلى شيخ. الشيخ، للأمانة، لم يطلب منّا مباشرةً نقوداً، ولكن قال: 'إذا طلع ذهب أو آثار، بدّي ثلث اللي بيطلع. وإذا ما طلع شي، فيلّي بيطلع من خاطركن'. وعندما سألناه إلى ماذا نحتاج لإتمام فكّ الرصد، قال: 'بدّي شخص طاهر، يكون حلال الجسد والنفس'، وكانت وقتها زوجة أخي حامل، فقال إنها مناسبة".
"قرأ آيات قرآنيةً وتلا أدعيةً وتمتم بأشياء لم نفهمها، وقال لها: 'نامي، وحتشوفي حلم يحدد مكان الدفين'. في ذلك الوقت لم نكن نصدّق ما قاله، ولكن المفاجأة أنّ زوجة أخي عندما استيقظت، قالت إنها رأت مكاناً محدداً من المنزل في الحلم. بعدها بدأنا بالحفر في المنطقة التي حددتها زوجة أخي، واستأجرنا حفّارةً، وصرفنا الكثير من الأموال على عملية الحفر ولكننا لم نصل إلى شيء"، يُردف إبراهيم.
كما يؤكد أنّ الشيخ وقتذاك لم يطلب منهم أجراً بشكل مباشر، لكنهم أعطوه نحو 500 ألف ليرة (ما يقارب 50 دولاراً أمريكياً)، كـ"إكرامية"، وقال لهم الشيخ إنه يمكنهم التجربة مرةً أخرى لكن زوجة أخيه شعرت بالخوف ولم تقبل بتكرار المحاولة.
توقّفت محاولات عائلة إبراهيم عند هذا الحدّ، بعدما صرفت أزيد من مليون ليرة (قرابة 100 دولار)، بين إيجار الحفارة عدا عن التخريب الذي لحق بالمنزل، ويستدعي الترميم والإصلاح. مع ذلك يختم: "نحن من منطقة نوى في مدينة درعا، وهذه القصة لم تحصل فقط معنا. لكن هناك الكثير من الناس الذين يقومون بالحفر، ويتحدثون عن دفائن، لكن للصراحة لم نسمع فعلياً بأنّ أحداً قد عثر على شيء".
وفي رحلة تنقيب محمد، ابن مدينة دمشق، التي يحكيها لرصيف22، تمّ الاتفاق مع "جماعة متخصّصة، فريق مكوّن من شخصين يقومان بالحفر، وآخر معه جهاز كشف عن آثار، وشيخ". لم يكن الشاب السوري يؤمن كثيراً بموضوع "فك الرصد"، إلا أنه وافق في النهاية على "العمل كفريق واحد".
يقول محمد: "أكثر ما لفتني في عمل الشيخ، أنه كان يُشعل البخور باستمرار في أثناء عملية البحث، زاعماً أنه يساعد في 'تليين الأرض' (مصطلح شعبي رائج في أوساط المُنقِّبين (الشرعيين وغير الشرعيين)، للدلالة على منطقة في التربة يُعتقد أنّ هناك تغيّراً في خواصّها بسبب وجود دفين أو بنية أثرية تحتها، وتخفيف أثر 'الرصد'. كما كان يقرأ الاستخارة قبل الحفر ويتكهّن بما إذا كانت الأرض صلبةً وسنواجه صعوبةً في الحفر معلّلاً ذلك بوجود 'رصد'".
ويضيف: "أكثر ما كان يُثير استغرابي في عمل الشيخ، أنه كان يأخذ حفنةً من التراب من أرض موقع الحفر، ويقوم بعمل استخارة بوساطتها لمدة يومين أو ثلاثة، زاعماً أنه سيعرف ما إذا كان هناك خير في المكان أو شيء دفين". انتهت قصة محمد أيضاً دون العثور على شيء.
ضحايا التنقيب… أويس وأنقاض منزله
أما أويس، فكان يملك وعائلته عقاراً في منطقة حوش الأشعري، التابعة إدارياً لدُوما، هو الأقرب إلى مزارع سقبا وحمورية. كان العقار يُستخدم مكتباً لوالده وجدّه، ويقع قرب قبر يُقال إنه للصحابي أبي موسى الأشعري، وهو مكان يرتاده الصوفيون وأهل الحضرات.
يقول أويس، لرصيف22: "المبنى قديم، وربما كان يُستخدم كموقع عسكري في أثناء الحصار قبل عام 2015، ما جعله عرضةً للقصف. ومنذ ذلك الحين، تُرك مهجوراً وتضرّر بشكل كبير. وعندما زرته لاحقاً بعد عودتي المؤقتة من الخارج، فوجئت بحالته المزرية؛ البناء مهدوم جزئياً، والأرض محفورة بوضوح، وكان من المستحيل أن تكون هذه الحفرات لأسباب عسكرية أو مشروعة".
من خلال خبرة الناس ومعرفتهم بالمنطقة، تبيّن لأويس أنّ هناك من كان يحفر بحثاً عن طمائر (كنوز مدفونة). هذا النوع من الاعتداءات على الملكية الخاصة يحدث عادةً ليلاً، حيث لا يوجد رقيب أو سكان، بعد أن أصبحت غالبية أراضي الغوطة مهجورةً. منذ بداية الثورة السورية عام 2011، غابت العين عن الأرض، ما سهّل على المعتدين تنفيذ حفرياتهم وسرقاتهم دون خوف.
يؤكد أويس، أنّ الأضرار الجسيمة طالت أساسات مبنى منزل عائلته، موضحاً أنه بُني من اللبن القديم ويتهدّم بسهولة. وقد سرق المعتدون الحديد والخشب من أجزاء البناء، فضلاً عن سرقة الكابلات النحاسية منذ دخول قوات النظام المنطقة في 2018، مستدركاً: "المكان بات مستباحاً بالكامل".
وبينما يعبّر عن أسفه لما آل إليه وضع المنزل، يختم أويس: "هذا المكان لا يمثّل لي مجرّد عقار، بل يحمل ذكريات عائليةً ووجدانيةً عميقة. تربطني به مشاعر قوية، خاصةً بعد وفاة والدي في 2012. اليوم، لا أعلم ما الإجراء القانوني الذي يمكنني اتخاذه. أعيش خارج سوريا ولا أملك الوقت أو الإمكانيات الكافية للتحرّك، لكنني حزين على فقدان هذا المكان".
حملة على الحفر غير الشرعي ونهب الدفائن
وفي حديث إلى رصيف22، يوضح مدير الشؤون القانونية في المديرية العامة للآثار والمتاحف، أيمن سليمان، أنّ حماية التراث الثقافي السوري أصبحت أولويةً في عمل المؤسسات الرسمية، ولا سيّما بعد تصاعد ظاهرة الحفر والتنقيب غير القانونيين في الفترة الأخيرة.
ويضيف سليمان: "حماية الإرث الثقافي مسؤولية جماعية، تقع أولاً على عاتق الدولة بمؤسساتها، وعلى رأسها وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار والمتاحف، بالتعاون مع وزارات الداخلية، والعدل، والتربية، والإعلام، والأوقاف، إلى جانب المواطنين أنفسهم. فالتراث لا يخصّ جهةً واحدةً، بل هو هوية وطنية وذاكرة جماعية، وتدمير أيّ جزء منه يُعدّ اعتداءً مباشراً على هذه الذاكرة".
وبينما يشير إلى تفاقم التنقيب غير الشرعي بفعل استغلال العصابات للظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة، ما جعل مواقع كثيرةً عرضةً للتخريب والنهب، خاصةً في المناطق المهجورة أو الخارجة عن السيطرة لفترات من الزمن، يشدّد سليمان على أنّ "هذه الجريمة يُعاقب عليها القانون السوري بموجب المرسوم التشريعي رقم 222 لعام 1963 وتعديلاته، وتُصنّف جنايةً تصل عقوبتها إلى السجن لمدة 15 سنةً مع غرامات مالية كبيرة".
ينبّه سليمان، أيضاً، إلى أنّ المديرية العامة للآثار والمتاحف تعمل على تنفيذ حزمة من الإجراءات الحكومية الجديدة، من بينها توجيه مذكرات رسمية إلى وزارات الداخلية، والتربية، والإعلام، والأوقاف، تطالب من خلالها بمصادرة أجهزة الكشف عن المعادن، وإغلاق المحال التي تبيعها، وملاحقة المتورطين قضائياً. كما تم التنسيق مع وزارة العدل لتشديد العقوبات بحقّ المتورطين، ومع وزارتَي التربية والإعلام لإطلاق حملات توعية مجتمعية.
ويستطرد بأنّ التنقيب الأثري "عملية علمية دقيقة ينبغي أن تُنفّذ بأيدي خبراء مختصين"، بينما ما يقوم به المُنقِّبون غير الشرعيين "تخريب عشوائي يُفقد الموقع الأثري سياقه التاريخي، ويجعل من المستحيل قراءة طبقات الحضارات المتعاقبة عليه". ويتابع بأنّ التهريب المنظّم للقطع الأثرية يُعدّ جريمةً دوليةً، وسوريا تُعدّ من الدول المنتجة للآثار التي تُهرّب إلى الخارج عبر دول عبور، وتُباع في مزادات دولية في أوروبا وأمريكا.
"ندعو المواطنين وكل الجهات المعنية إلى التعاون الجدّي معنا. لا يمكن مواجهة هذه الظاهرة دون وعي مجتمعي وتكافل مؤسساتي. كل من يشارك في هذا الفعل يساهم في تدمير تراث لن يتكرر، وذاكرة وطنية لا تُقدّر بثمن"، يختم سليمان.
"التنقيب العشوائي يؤدي إلى تدمير الطبقات الأثرية واختلاطها، ما يسبّب خللاً في التسلسل الزمني ويفقد الموقع قيمته العلمية، لأنّ المعلومات التي تُستخرج منه تصبح غير دقيقة. فالهدف من الحفر العشوائي عادةً يكون الحصول على كنوز وتماثيل وقطع قابلة للبيع، بينما في العمل الأثري المنهجي، تهتمّ الفرق بكل تفصيل"
دفن حضارات لا يمكن إعادة ترميمها
إلى ذلك، يتوجّب التساؤل: هل إعادة ترميم الدفائن والآثار التي يتم العثور عليها أو تتضرر بفعل عمليات الحفر والتنقيب العشوائية، ممكنة؟
تجيب عن ذلك خبيرة الآثار ليون، بقولها: "التنقيب العشوائي يؤدي إلى تدمير الطبقات الأثرية واختلاطها، ما يسبّب خللاً في التسلسل الزمني، ويفقد الموقع قيمته العلمية، لأنّ المعلومات التي تُستخرج من الموقع تصبح غير دقيقة. فالهدف من الحفر العشوائي عادةً يكون الحصول على كنوز وتماثيل وقطع قابلة للبيع، بينما في العمل الأثري المنهجي، تهتمّ الفرق بكل تفصيل، بما في ذلك على سبيل المثال الفخار المكسور الذي يُستخدم لتحديد الفترة الزمنية للموقع".
كما تلفت إلى أنّ "من يقومون بالتنقيب العشوائي لا يهتمون بالقطع التي يعدّونها غير ثمينة، بل قد يقومون بتكسيرها أو إتلافها، وقد يؤدي استخدام المعدّات الثقيلة إلى تدمير واسع في الطبقات، وخلطها، ونسف عمارات أثرية أو تماثيل وفخار وزجاج مدفون. كما أنّ العديد من الهياكل العظمية تفقد ترتيبها داخل المدافن، فتُشوّه الأدلة المرتبطة بطقوس الدفن، وهي معلومات ضرورية في العمل الأثري، لكن المُنقِّب العشوائي لا يعنيه ذلك، بل يركّز فقط على القطع التي يعتقد أنها ذات قيمة مادية، بينما يغفل عن أهمية الأدلة المحيطة بالجثة أو طريقة توزيع القطع".
أما عن إمكانية الترميم أو استرجاع المواقع المتضررة، فتوضح ليون، أنّ الأمر يتوقّف على حجم التدمير، فإذا كان جزئياً، يمكن استعادة التأريخ الزمني من الجزء المتبقّي من التلّ أو الموقع، أما إذا كان التدمير شاملاً، فإنّ استرجاع المعلومات يُصبح صعباً للغاية. وفي بعض الحالات، يمكن من خلال دراسة الجانب غير المتضرر من مبنى أو مدفن، إعادة بناء صورة جزئية للموقع، لكن تبقى الخسارة العلمية قائمةً وجزء من المعلومات يُفقد إلى الأبد، على حد قولها.
كما تؤكد ليون، أنّ أعمال التنقيب الأثري تتم وفق منهج علمي دقيق ومنظّم، يتم خلالها النزول طبقةً طبقة، مع التوثيق والرسم والتصوير، بمشاركة مختصّين ومهندسين وجيولوجيين، لضمان استخراج معلومات علمية دقيقة. أما في حال التنقيب العشوائي، فإنّ كل هذا التسلسل العلمي يُدمّر، لأنّ الهدف تجاري بحت ولا علاقة له بالبحث الأثري أو دراسة الحضارات، ولهذا فإنّ الضرر الناتج عن الحفر العشوائي غالباً ما يكون دائماً.
ختاماً، يبدو سعي العديد من السوريين وراء الكنوز التي قد تنتشلهم من واقع مأزوم اقتصادياً في الحاضر، بمثابة ركض في اتجاه وأد تاريخ أسلاف لهم، ودفن معارف لا تُقدّر بثمن حُفظت تحت تراب بلادهم. فهل تتمكن الإدارة السورية الجديدة من وقف هذه الجريمة في حق التاريخ؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ يوم❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 6 أيامWow !