من بيته في منطقة دوما، وعلى دراجته النارية، نزح منذر العبد الله مع زوجته، أعزلين تماماً. ولما ذهبت عنه روعة ما مر به، ترجّل في سوق الجمعة الكائن في شارع الثورة تحت جسر الرئيس في العاصمة دمشق، ليشتري من باعة الملابس المستعملة المكوّمة فوق بعضها على شكل تلال صغيرة، ما يستر به بدنه وبدن زوجته، فهناك تباع الملابس "بالكيلو"، وليس بالقطعة. والسبب في ذلك أنها في معظمها من المسروقات.
في أثناء بحث منذر إلى جانب أشخاص آخرين في كومة ما، عثر على ما جعله يشهق؛ إنه طقم عربي كان طقم زفافه، مصنوع من الجوخ الإنكليزي الفاخر ومكوّن من بنطلون وسترة رسمية وجلابية ودشداشة. يقول: "قلت للبائع هذه أغراضي، فأجاب أنت تكذب. صعد الدم إلى رأسي ونزعت عني بنطالي وقميصي أمام الجميع لأثبت له أن الطقم على قياسي. لبست البنطلون ثم لبست السترة، وفوجئت في أثناء دسّ يدي في جيبها بوجود صور من الزفاف. غطّيت بإبهامي رأس زوجتي كونها كانت غير محجبة في الصور، ومددتها صوبه ليراني، فاعتذر قائلاً إنه قد اشترى هذه البضاعة بالكيلو، ولن يستطيع أن يمنحني إياها مجاناً، وأضاف: 'اعطيني الي بيطلع من خاطرك'، فأعطيته واستعدت الطقم".
خالد العمر مرّ بتجربة لا تقل ألماً عما حدث لمنذر، فهو قد نزح من حرستا ناجياً بروحه وأرواح أسرته، وقاده القدر إلى الطبالة، حيث تعطلت سيارته. لجأ إلى ورشة ميكانيكي هناك تجاورها ثلاث محال للأدوات المستعملة، وبينما كان ينتظر الميكانيكي لينهي عمله، راح يتجول في محل "المستعمل"، ففوجئ بأثاث بيته كاملاً؛ طقم الكنبات، الدواوين، الستائر، سرير غرفة النوم، باب الدار، وحتى حقيبة العدّة (اسمه مكتوب عليها)، التي كان يُصلح بها ما يتعطل من أثاث بيته وسيارته، فتشاجر مع صاحب المحل.
بينما كان خالد ينتظر الميكانيكي لينهي عمله، راح يتجول في محل "المستعمل"، ففوجئ بأثاث بيته كاملاً؛ طقم الكنبات، الدواوين، الستائر، سرير غرفة النوم، باب الدار، وحتى حقيبة العدّة
يقول: "أخرجت هويتي الشخصية لأثبت له أن الاسم المكتوب على حقيبة العدّة هو اسمي، وعدّدت له محتوياتها، لكنه لم يصدّق، فأخبرته عن الخشبة المكسورة في أسفل الديوانة، وبراغي السرير التي استبدلتها بقطع من الحديد، لكنه أصرّ على تكذيبي فتعاركنا وطلبت الشرطة لكنهم لم يعيدوا إليّ أغراضي، ولما حاولت شراءها كانت قيمتها أكبر من أن يتحملها نازح، فعدت محطّم القلب والجسد".
حتى الألعاب
سوق الجمعة المذكور آنفاً شهد أيضاً قصة نسرين العزو، التي استطاعت تمييز صندوق ألعاب ابنتها ذات الأعوام الثلاثة، وهو الصندوق الذي بكته الصغيرة طويلاً. تقول الأم: "كنا نتشاجر دوماً لأن ابنتي تترك ألعابها على الأرض بعد الانتهاء منها، وبعد تحذيرات كثيرة نفذت تهديدي بحرمانها من الألعاب ووضعت الصندوق فوق الخزانة، وعندما نزحنا من حرستا بقي هناك، وبقي في ذاكرة ابنتي وحديثها الذي يجعلني أجلد ذاتي. أعرفه من بين ألف صندوق، وفيه فيل بلاستيكي برجل مكسورة مثبتة بمسمار، ثقبت ابنتي أذن والدها في أثناء إصلاحه إياها بقصة نسجتها عن كسرها في أثناء محاولة الفيل إخماد حريق نشب في الغابة، وهذا ما جعلني أميّز الصندوق في سوق الجمعة وأدفع مقابله ثمناً أغلى من ثمنه جديداً. أشدّ ما أثار حزني هو تنكّر ابنتي لألعابها التي بهتت بفعل الشمس والغبار ورفضها اللعب بها قائلةً: 'هدول مو تبعاتي، ألعابي كانو أحلى'".
بفعل الحرب السورية، اضطرت الكثير من العوائل إلى هجر بيوتها، وغالبيتهم خرجوا بثيابهم فقط، أما المحظوظون فهم من استطاعوا النجاة بما خفّ وزنه وغلا ثمنه. وبسبب المناورات التي تفضي إلى تسوية المنطقة بالأرض عن بكرة أبيها، وجد بعض المحاربين أن استخلاص بعض الأدوات أو الأثاث قبل أن يصير رماداً فكرة سديدة. تنامت هذه الفكرة وتحولت إلى مهنة، وفي ما بعد استحالت سرقة البيوت وبيع محتوياتها إلى تجارة قلبت أحوال بعض الناس رأساً على عقب، وحولتهم إلى "تجار فوق الريح"، فالبائع مهما بخّس ثمن بضاعته "لتنفق"، رابح.
بعيداً عن التجار، وبتسليط الضوء على السوريين الراغبين في عيش حياة طبيعية خالية من روائح البارود، نلمس تهافت الناس على شراء الأدوات والأثاث المستعمل، برغم يقينهم في قرارة أنفسهم بأنه كان ملكاً لغيرهم وسُلب منهم عنوةً، إلا أن صوتاً داخلياً يسترق النظر إلى الغلاء الفاحش والعقوبات الاقتصادية والأجور المتدنية ويتشدق صاحبه قائلاً: "إذا ما اشتريتهم أنا رح يشتريهم غيري"؛ هكذا يقول حسن إبراهيم، وهو يشتري باب سحاب حديدي لحظيرة حيواناته من محل للأدوات المستعملة في ريف محافظة طرطوس.
ويتابع: "شو ما كان مصدرو، أنا دافع ثمنه وحلال عليّ، مسروق أو منهوب مو مشكلتي هي مشكلة الّي سرقه". أما القاسم المشترك بين جميع الأدوات الموجودة في محال الأشياء المستعملة، فهي أن ثمنها أقل من قيمتها الحقيقية، ويناسب دخل المواطن السوري، الذي يرفض حتى الآن العودة بطواعية إلى حياة رجل الكهف، وينازع متشبثاً بالحياة الطبيعية التي عاشها قبل اندلاع الحرب.
سوق فيس بوك
لأن منصة فيس بوك هي الأكثر شعبيةً في الشارع السوري، فقد انتقل إليها مفهوم "سوق الحرامية". و"سوق الحرامية" لمن لا يعرفه هو سوق عريق في دمشق اختص ببيع الأشياء والأدوات المستعملة المحلية منها أو الأوروبية المسماة "بالة"، وهو سوق اختُلف على سبب تسميته، فيقال في رواية إن اللصوص والنشالين يبيعون مسروقاتهم فيه بأثمان بخسة، ويقال في رواية أخرى إن باعته يطلبون مبالغ باهظةً لا تتناسب مع جودة المبيعات فيُنعتون بالنصابين والحرامية.
فوجئت في أثناء دسّ يدي في جيب البدلة بوجود صور من زفافي. مددتها صوب صاخب المحل ليراني، فاعتذر قائلاً إنه قد اشترى هذه البضاعة بالكيلو، ولن يستطيع أن يمنحني إياها مجاناً
نحن الآن في صدد الحديث عن مجموعات سوق المستعمل التي لا تكاد مدينة سورية تخلو من مجموعة تضم أدواتها المستعملة وتسمى باسمها، لتسهّل على سكانها الحصول على حاجياتهم التي لا يستطيعون أو لا يرغبون في شرائها من السوق الجديدة. في هذه المجموعات تنتقل ثقافة تجارة المستعمل إلى مستوى آخر، مستوى يقرر فيه الأشخاص التخلي عن بعض مقتنياتهم ولو كانت هدايا، مقابل مبالغ متواضعة من المال يشترون بها الطعام والشراب، أو يلجؤون إلى المقايضة؛ غرض مقابل غرض، أو للتسول أحياناً.
في مجموعات سوق المستعمل تقرأ الكثير من المنشورات من قبيل:
"غرفة نوم أطفال للبيع بسعر لقطة، تختين مفرد مع الفرشات وخزانة وطاولة دراسة، السعر بنور الله". "إجتني علبة عطر فكتوريا سيكرت هدية من قرايبتي بالإمارات، أورجينال رجاء لا حدا يبخس بالسعر صبايا". "ملابس صبياني عمر تلات سنوات جينزات قمصان وأحذية نمرة 25 و26 للبيع أو المداكشة على تياب صبياني لعمر الخمس سنين".
"الله يخلي ولادكم يا ماميات ولادتي قربت ولهلا ما اشتريت ولا قطعة ديارة، الله يخليكم الي عندها ديارة مستعملة بسعر رخيص أو صدقة لوجه الله تعلقلي وأنا بحاكيها"... وغالباً ما تكون هذه المنشورات من حسابات مجهولة الهوية أو حسابات جديدة مزيفة.
الأحذية، العطورات، الألبسة الداخلية والخارجية، فساتين المناسبات والسهرات والأعراس، اللانجيري المستعمل والآخر الذي يُعرض للبيع بسبب "فركشة" مشروع الزواج، الإكسسوار، الأثاث، الأدوات الكهربائية، الكتب، الروايات، الكراسات التعليمية، ألعاب الأطفال، المواد الغذائية، الدراجات النارية والسيارات، وكل شيء -حرفياً- قد يخطر ببالك تجده في مجموعات بيع المستعمل.
مع الوقت، تطورت مجموعات بيع المستعمل لتصبح أكثر تخصصاً من حيث المواد المباعة، وأصبحت إدارتها ومراجعة منشوراتها والموافقة عليها عملاً بحد ذاته، فيتقاضى مديروها نسباً لقاء عرض السلع أو على الصفقات التي تتم عبر مجموعاتهم، فيما لا تزال بعض المجموعات عشوائيةً ومجانيةً بشكل كامل.
من الجدير بالذكر أن عمليات شراء الأدوات المستعملة، خاصةً تلك التي تتم عبر شركات الشحن، لا تخلو من الغش، ففي هذه الطريقة لا يستطيع المشتري فتح طرده إلا بعد دفع ثمنه وأجور نقله لشركة الشحن، ليُفاجأ في بعض الأحيان بوجود سلعة غير تلك التي طلبها، أو بجودة أقل من تلك التي تم تصويرها وعرضها على المجموعات.
هذا ما حدث مع مايا بلال(26 عاماً)، التي تقول: "على طول بشتري من التياب المستعملة المعروضة على النت، ومرات كتير بتوفّق وباخد قطع حلوة بسعر لقطة، بس كمان بمرات بيننصب عليي، متل آخر مرة وصّيت فيها على بيجاما من دمشق لطرطوس، وطلعت كلها مثقبة ومهترية من كترة الاستعمال وسوء التخزين، ولما جرّبت إرجع إتواصل مع الصبية يلي باعتني حظرتني من الدردشة وقفلت خطها".
حادثة مثل تلك التي جرت مع مايا وكثيرات غيرها، كافية لتجعل بعض زبائن سوق المستعمل يفضلون الشراء من المجموعات الخاصة بمنطقتهم، حيث يستلمون الأغراض من أصحابها بشكل مباشر في زمان ومكان مُتفق عليهما، فيمتلكون فرصة معاينتها ورفضها في حال كنت مخالفةً للمواصفات المنسوبة إليها.
"شو ما كان مصدرو، أنا دافع ثمنه وحلال عليّ، مسروق أو منهوب مو مشكلتي هي مشكلة الّي سرقه"
ولا بد من التنبيه إلى شيء جديد آخر دخل سوق المستعمل على فيسبوك، وهو "مجموعات وصفحات فيسبوك" عينها، حيث ترى منشورات من نوع "عندي مجموعة فيها 100k عضو سوريين للبيع بأعلى سعر"!
"للبيع بداعي السفر"
تدلّ عبارة "للبيع بداعي السفر"، على رأس المنشورات في مجموعات المستعمل، على أن المواد المعروضة ستكون غالباً بنوعية جيدة، وهذا ما أثبتته منشورات كثيرة حملت العنوان ذاته. والنقطة المشتركة الأخرى بين هذه المنشورات هي كون السلع المعروضة أقل ثمناً من تلك التي يعرضها أشخاص "صامدون"، فالمسافرون إلى غير رجعة في معظم الأحيان مستعجلون، يريدون التخلص من أغراضهم بأي ثمن أو "بقرد ودب"، كما يشار في اللغة الدارجة، على عكس أولئك الصامدين الذين يحاولون كسب أعلى قيمة لمقتنياتهم المباعة، تمكّنهم من تأمين مبلغ معيّن لهم فيه مآرب أخرى.
منشورات البيع بداعي السفر في معظمها تحتوي على عقارات (منازل وأراضٍ زراعية ومحال تجارية)، وهذه الأصول قد تكفي لتأمين تكاليف السفر من حجز الطيران وإقامة وتأشيرة دخول، والتي تتخلى عنها أسر كاملة لأجل أن تؤمن خروج أحد أبنائها من هذا الجحيم الكبير، ليردّ الأخير بدوره هذا الجميل عبر إرسال الحوالات من الخارج واستعادة ما تم بيعه أو شراء بديل منه. وقد تتضمن منشورات البيع بداعي السفر ملابس لا تتسع لها الحقائب أو تتسبب بوزن زائد في المطارات، وأدوات مطبخ وأثاث وأي شيء أقل شأناً أو أثقل من أن يؤخذ في حقيبة الذكريات اللعينة.
لا يمكن إنكار أن عبارة "للبيع بداعي السفر"، أصبحت وسيلةً أخرى للاحتيال، أو اختصاراً لجدال طويل بين البائع والشاري عن سبب البيع والعيوب الموجودة في الأشياء (فلماذا يبيع الإنسان غرضاً سليماً بسعر بخس إذاً؟). إلا أن المؤلم في الأمر هي كلمة "عقبالنا" المتكررة في التعليقات، والتي تحمل في طياتها الكثير من الغصّات ومعاني القهر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.