ما هو هذا الذي يستحق أن نخاطر بحياتنا لأجله؟ سؤال يتبادر إلى ذهن كل واحد منّا، وما الدافع الذي قد يجعل أي شخص يرى حياته أقل مما يحميه؟ في الغالب هو الحب لأن معظمنا قد يفدي أحبته وعائلته بحياته؟ لكنه قد يكون الاحترام أيضاً مشفوعاً بالحب، حين نحمي ما نعتقد أن قيمته تتجاوز قيمتنا.
هذا النوع من الشجاعة ومن التضحية وُجد بين عشاق الكتب من أمناء مكتبات سوريا، ممن تحملوا مسؤوليتهم التاريخية وأمانتهم، فخاطر الكثير منهم بحياتهم لأجل حمايتها، ونجحوا ولو جزئياً في ذلك.
اشتهر العديد من أمناء المكتبات في تاريخ سوريا، ولعب العديد منهم دوراً مهماً في الحياة المعاصرة للبلاد، في تشكيل وتكوين وحفظ المكتبات السورية التي لا يزال بعضها قائماً حتى الآن، في هذا التقرير نستعرض سيرة أشخاص لعبوا دوراً هاماً في الحفاظ على الكتب والمكتبات السورية.
تاريخ المكتبات في سوريا
تٌعد مهنة أمين المكتبة أو الكتبي أو المكتبجي من أقدم المهن التي رافقت ظهور الكتابة والتدوين وتأسيس الدول والممالك القديمة. في العهد السومري والآشوري أُطلق على من يعمل في المكتبة لقب "حافظ الألواح"، أو "سيد الكتب".
يعتبر آشور بانيبال أول ملك يوصي بإنشاء منصب أمين المكتبة لحفظ السجلات والقوانين. أما في عهد الإغريق وفي مكتبة الاسكندرية فاشتهر أمناء مكتبتها بلقب "أوصياء التعليم"، والذين وضعوا أول منهجية لفهرسة المكتبات، ومنذ ذلك الوقت لم تنقطع الأخبار والسير والحكايا عن أمناء المكتبات الذي حفظوا الكتب من التلف والدمار و الفقدان.
مثلما للمدن أعداء فللمكتبات أعداء أيضاً، لكن حماة الكتب الذين يظهرون دائماً في الحروب قد يخاطرون بحياتهم لإنقاذها من النيران والقصف والجهل.
أول شخص حمل لقب أمين المكتبة بشكل حرفي هو راهب مسيحي يدعى "انستازيا"، وكان مشرفاً على الكتب ونسخها في أحد الأديرة في إيطاليا، ومع توسع المكتبات وانتشار الكتب وظهور المكتبات الشخصية والعامة والتجارية، توسع عمل أمين المكتبة، فلم يعد مقتصراً على السجلات الحكومية، وإنما أصبح متواجداً في كل كنيسة أو مؤسسة تعليمية، وكذلك في بلاط الأمراء والملوك.
شهرة العديد من أمناء المكتبات أتت بسبب إضافتهم القيمة لعلم المكتبات وأرشفتها، أو بسبب حمايتهم للكتب من الضياع، وبعضهم اشتهر بسبب صفات شخصية مثل العمى.
في سوريا، اكتُشفت واحدة من أقدم المكتبات في العالم في "تل مرديخ" في محافظة إدلب التي كانت جزءاً من مملكة "إيبلا". وفي سوريا أيضاً، أمناء مكتبات، فنوا حياتهم للحفاظ على هذا التاريخ الذي يرونه كُل يوم أمامهم، ويُدركون أهمّيته وأهمّية أن يصل إلى الجيل الذي يليهم.
محاولة قتل هدفها سرقة المخطوطات
يمكن أن نسمي طاهر الجزائري بالأب الروحي لمكتبات سوريا، ففي مطلع القرن التاسع عشر هدد خطر كبير محتويات المكتبات في دمشق و حلب، نظراً لأن تلك المحتويات كانت مصدر أطماع العديد من تجار وسماسرة المخطوطات والكتب، سواء كانوا من أبناء البلد نفسه أو من الأجانب مثل القناصل و تجار ما وراء البحار.
ويقال إن قنصل بروسيا في سوريا وحده كان متواطئاً في نقل حوالي 3000 مخطوط من دمشق و حلب، وأمام هذه الأطماع وتراخي الدولة والسلطنة العثمانية آنذاك، برزت مجموعة من الأفراد متنوعي الخلفيات، وكان على رأس هذه المجموعة الشيخ طاهر الجزائري، الذي يُعد ومن دون مبالغة الأب الروحي للمكتبات السورية الحديثة.
ولد الشيخ طاهر الجزائري في مدينة دمشق في عام 1852، من عائلة مهاجرة من الجزائر إلى دمشق، درس في مدارسها ومساجدها، وأتقن اللغات الفارسية والتركية والعربية والأمازيغية، ودخل في مهنة التعليم مبكراً في المدرسة الظاهرية السريانية، وبعدها مباشرة استلم منصب المفتش العام للمدارس الابتدائية في ولاية دمشق، وذلك بعد أن ساهم في تأليف العديد من كتب مناهج المدارس الابتدائية في الولاية العثمانية.
نتيجة محاولات الشيخ طاهر الجزائري -مواليد دمشق 1852- حماية المخطوطات والكتب من السرقة تعرض لأكثر من محاولة اغتيال، اضطر بسببها للهرب إلى مصر، ويقال إن قنصل بروسيا في سوريا وحده كان متواطئاً في نقل حوالي 3000 مخطوط من دمشق و حلب في ذلك الوقت
في منصبه، عمل الجزائري على افتتاح العديد من المدارس، منها أول مدرستين للفتيات في دمشق، وبدأت أفكاره السياسية تتبلور، حيث أصبح من دعاة الاستقلالية عن الدولة العثمانية، ومنادياً مبكراً للهوية العربية، وقد ألّف العديد من الكتب في مجالات عدة، ومن مؤلفاته: "الكافي في اللغة"، و"أشهر الأمثال"، بالإضافة إلى مراجعات لكتب مثل مراجعته لكتاب الجاحظ "الحنين إلى الأوطان".
تبقى المكتبة الظاهرية هي الإرث الأكبر للشيخ الجزائري، فقد كان الشخص الرئيسي وراء فكرة تأسيسها، لتضم بين محتوياتها المخطوطات والمؤلفات للعديد من المدارس والمكتبات والمساجد في مدينة دمشق، بهدف حمايتها من الفقدان والسرقة.
نتيجة موقفه هذا، تعرض الشيخ إلى محاولات اغتيال ومضايقات أمنية لم يُعرف بالتحديد من كان وراءها، هل هم تجار وسماسرة الكتب؟ أم أنه كان على عداء مع أحد المقربين من الوالي؟ في كل الأحوال وبغض النظر عن هوية الساعين لقتله، اضطر الجزائري إلى أن يهرب إلى مصر من مدينته التي منحها مكتبتها الوطنية الأولى.
نجح الشيخ في حماية الآلاف من المخطوطات من الفقدان والضياع، ولا يزال أرشيف وخزانة مكتبة الأسد تدين له بالكثير، فحوالي 8000 مخطوط من محتوياتها انتقلت من المكتبة الظاهرية إلى مكتبة الأسد عند افتتاحها.
مكتبة داريا... من الأنقاض إلى القبو
خلال حصار مدينة داريا من قبل قوات النظام السوري بين أعوام 2013 و2016، بدأت موارد الحياة بالتلاشي تدريجياً، وأصبح الحصول على بعض الاحتياجات الأساسية رفاهية لا يحظى بها الكثير من سكان المدينة، في ظل هذه الظروف اختارت مجموعة من الشباب العمل على إنشاء مكتبة تم جمع كتبها من أنقاض البيوت المدمرة نتيجة القصف والمعارك.
الفكرة أتت لأصحابها أثناء تصوير التقارير الصحفية التي تظهر حجم الدمار والعنف الذي تركه الجيش السوري في المدينة.
يقول أحمد معضماني، وهو أحد أمناء مكتبة داريا في مقابلة صحافية مع الصحافية الفرنسية دلفين مينوي: "كان علينا أن نسرع. فقد كانت الطائرات تحوم في الخارج. تحركنا بسرعة، وحفرنا بحثاً عن الكتب، وملأنا صندوق سيارة بيك آب حتى حافته".
بين أعوام 2013 و2016، اختارت مجموعة من الشباب إنشاء مكتبة تم جمع كتبها من أنقاض البيوت نتيجة القصف والمعارك، عرفت لاحقاً باسم "مكتبة داريا" ونالت شهرة كبيرة.
بعد شهر وصل عدد أمناء المكتبة لأربعين متطوعاً، جمعوا خلال شهر واحد حوالى 15 ألف كتاب من تحت الأنقاض، وخوفاً على الكتب من القصف أو معرفة قوات النظام بها وجدت المجموعة قبواً مناسباً يمكن أن يكون مكاناً آمناً يقي الكتب شر القصف والاقتتال.
أطلقت مجموعة الشباب اسم "مكتبة داريا السرية" على القبو الذي احتضن الكتب، وعملت على أرشفة العناوين وتصنيفها ووضع الفهارس للكتب التي ضمتها المكتبة. فأمست في فترة قياسية أحد الأركان الأساسية لهذه المدينة المعزولة، تفتح من الساعة 9.00 صباحاً حتى 9.00 مساءً عدا يوم الجمعة، وقد استقبلت ما معدله 25 قارئاً يومياً، معظمهم من الرجال.
يقول معضماني في المقابلة: "نادراً ما نشاهد النساء والأطفال في داريا، فالخروج مغامرة. وبشكل عام، اكتفوا بقراءة الكتب التي يحضرها الأباء والأزواج إلى منازلهم، بدلاً من المخاطرة تحت البراميل المتفجرة التي تسقط من السماء".
ويقول أبو العز في المقابلة التي نشرت في صحيفة الغارديان البريطانية: "الكتب لا تصنع حدوداً. إنها تطلق سراحنا. القراءة تساعدنا على التفكير بشكل إيجابي، والتخلص من الأفكار السلبية. وهذا أكثر ما نحتاجه الآن".
للأسف لم تكن نهاية المكتبة سعيدة، مثلها مثل نهاية المدينة التي احتضنتها، فبعد التهجير القسري الذي تعرض له سكان المدينة إلى إدلب، حصلت المجموعة على صورة لما تبقى من المكتبة السرية.
التقط الصورة أحد المراسلين الذين سُمح لهم بالوصول إلى داريا، تحت المراقبة المشددة من قبل النظام. تعرفت المجموعة من خلال الصورة على على المساحة المغلقة وممراتها التي تصطف بشكل مثالي ورفوفها الخشبية على طول الجدران. بعض الرفوف نصف فارغة. وألقيت الكتب المتبقية على الأرض، وتركت في الغبار والعتمة. كما تناثرت الأدراج المحطمة على الأرض، واختلطت بأحجام متفرقة. وفي خلفية الصورة، داس جندي يرتدي زياً عسكرياً على الورق الممزق.
الكتب لم تنته في النار كما كان يخشى الأمناء. فبعد الكشف عن المكتبة السرية، نهبها الجنود لبيع الكتب بثمن بخس على رصيف سوق للسلع الرخيصة والمستعملة في دمشق.
أخرجوها من النيران
هذه المرة القصة من حلب، وهي عن أعضاء الجمعية السورية للحفاظ على الآثار والتراث، فكما أن للمكتبات حماتها وأمنائها، فهناك أيضاً أعداء المكتبات وقتلتها، في حلب وفي خضم المعارك التي دارت بين المعارضة المسلحة وقوات النظام في المدينة القديمة، قامت الأخيرة بقصف الجامع الأموي الكبير في المدينة، وتعرضت مرافق الجامع للحريق، وامتدت النيران لتصل إلى محتويات المكتبة الوقفية والتي تعتبر واحدة من أقدم مكتبات مدينة حلب و سوريا.
في عام 2013 سقطت القذائف على الجامع الأموي واحترقت المكتبة الوقفية في حلب، إلا أن مجموعة أعضاء من الجمعية السورية للحفاظ على التراث عملوا على إنقاذ ما أمكن من الكتب والمخطوطات العتيقة، وخاطروا بحياتهم لنقلها إلى أحد مقرات البنوك
كانت "المكتبة الوقفية" في حلب قد أعيد افتتاحها في عام 2006، حيث تم نقل محتوياتها القديمة من مكتبة الأسد بعد أن تم اختيار حلب كعاصمة الثقافة الإسلامية من العام نفسه، وضمت قاعات للأرشفة والدراسة والتصوير والعديد من المرافق.
في الثاني من أيار/ مايو من عام 2013 سقطت القذائف على الجامع الأموي واحترقت المكتبة، عدا قاعة المحاضرات ومستودع المخطوطات والأدوات الفلكية وبعض الوثائق والسندات المكتوبة باللغة العثمانية وقليل من اللوحات القماشية الأثرية. لتأكل النيران أكثر من خمسين ألف مطبوعة، بما فيها تلك الخاصة بالعلماء، إضافة لمخطوطات قديمة و2600 كتاب نادر.
لكن القصف لم يجهز بشكل كامل على محتويات المكتبة، فقد سلم عدد كبير من المخطوطات النادرة من الحريق بعد تجمع عدة أشخاص من خلفيات مختلفة لديهم اهتمام مشترك، هو المكتبة ومدينة حلب وتاريخها، فعملوا على تشكيل الجمعية السورية لحماية التراث، وكانت عملية نقل المخطوطات من المكتبة الوقفية إلى مكان آمن على سلم أولويات عمل الجمعية.
ورغم خطورة الأوضاع الأمنية جرى نقل المخطوطات ومنبر الجامع الأموي وبعض الآثار إلى مقر بنك بيمو البنك السعودي الفرنسي، وبعدها بحوالى عام تم نقل المخطوطات إلى مكان أكثر أمناً في انتظار أن تعود إلى مكانها الأصلي في مدينة حلب القديمة.
بسبب الجهد الذي بذله أعضاء الجمعية تمت حماية أكثر من 10 آلاف مخطوط تراثي، لا تعتبر من إرث مدينة حلب أو سوريا فحسب، بل إرثاً للإنسانية كلها.
مثلما للمدن حماتها، فللمكتبات والكتب حماتها أيضاً، يخاطرون بحياتهم أو مالهم وأملاكهم في سبيل الحفاظ على المكتبات والكتب، ومن دون أن يكون هناك توقع لمكافأة أو مقابل لهذه المخاطرة، فلولا أمناء المكتبات لكانت المكتبة في سوريا وفي العالم خسرت العديد من إرثها وذاكرتها الإنسانية .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...