كيف تخسر مصر معاركها الثقافية والإعلامية؟... زاهي حوّاس نموذجاً

كيف تخسر مصر معاركها الثقافية والإعلامية؟... زاهي حوّاس نموذجاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الجمعة 30 مايو 202501:05 م

"يجب تعليم الأطفال كيف يفكرون وليس في ماذا يفكرون"؛ هذه العبارة الشهيرة للكاتبة وباحثة الأنثروبولوجيا، مارغريت ميد، قد تكون أكثر عبارة تصلح لتفسير سبب الجدل الحقيقي المثار أخيراً في السوشال ميديا المصرية، بخصوص ظهور عالم الآثار الشهير ووزير الآثار المصري الأسبق، زاهي حوّاس، للحديث عن الأهرامات مع الكوميدي الأمريكي ومقدّم البودكاست الشهير، چو روغان.

لمن فاتته الأحداث، قدّم بعض مشاهير الإعلام العربي ومنهم عمرو أديب، تغطيات توحي بأنّ لقاء حوّاس، في البودكاست، أبهر الجمهور الغربي، ثم تصاعدت الأحداث بعد ذلك عندما انتشرت عبر حسابات السوشال ميديا المصرية صور تعليقات ساخرة من اللقاء والضيف المصري، ممن حضروا البودكاست من الجمهور الأجنبي. 

روغان نفسه، صرّح لاحقاً، في أثناء استضافته ضيفاً آخر، بأنّ لقاءه مع حواس، ربما يكون الأسوأ في تاريخ البودكاست الذي بدأه عام 2009، وقابل خلال سنواته الـ16 نحو 1،800 ضيف، لكنه قد يكون مفيداً برغم كل شىء، لأنه يُلقي الضوء على شخص "ضيّق الأفق، يعتبر أنه يحتكر المعرفة"، على حدّ وصفه للأثري المصري.

وبينما كانت أسئلة روغان، لحوّاس، في غالبيتها استفساريّةً، وتتركّز حول محورَين أولهما معرفة طريقة بناء الأهرامات ووسيلة نقل أحجارها من قبل المصريين القدماء بشكل مُبسّط للمشاهد العادي، وثانيهما النقاش حول المغزى من بنائها، وهل كانت فعلاً مجرد مقابر فخمة لملوك قدماء في عصر كان فيه الملك بمثابة إله، أو أنّ الغرض الحقيقي من بنائها كان أكبر وأعقد من ذلك؟

الأمر اللافت أكثر من ردود زاهي حوّاس، على روغان، هو دفاع البعض عبر السوشال ميديا المصرية عنه، انطلاقاً من منطق "الوطنية"، وتذرّعاً بأنه "يتحدث باسم مصر"، وتجاهل الأثر السلبي والتعليقات الساخرة للجمهور الأجنبي على حديثه

السؤالان جزء من هيبة الأهرامات وغموضها دون غيرها من آثار العالم، وحتى اليوم لا توجد إجابات حاسمة ومثبتة بشكل علمي قاطع، عن طريقة بناء الأهرامات تفصيلياً، لكن توجد عشرات النظريات والترجيحات. ولأنّ الإجابة الحاسمة غير موجودة، لا تزال الأسئلة، وتالياً النظريات والتفسيرات، تتوالى. بعضها في إطار علمي جادّ ويستند إلى دلائل وشكوك منطقية، وقد تكون الخيط الذي يقود إلى الإجابة الحقيقية مستقبلاً، وبعضها منبعه الإثارة والتسلية والتشويق، وليس وجود قرائن حقيقية، مثل فكرة بناء كائنات فضائية للأهرامات.

بالعودة إلى البودكاست، لم يكن حوّاس، شديد العنف والعصبية في الردّ فحسب، بل كان أيضاً أبعد ما يكون عن استخدام لغة الباحث والعالم التي توقّعها الجمهور الأجنبي. استشهد حوّاس، مثلاً، طوال الوقت بكتبه باعتبارها أدلّةً وإثباتات علميةً لا تقبل النقاش، وعدّ تجاربه وآراءه المنسوخة في هذه المؤلّفات كافيةً وحدها لوجوب اقتناع المشاهد بها تلقائياً، بدلاً من أن يستخدم لغةً علميةً مبسّطةً ومُقنِعة، ناهيك عن تضخيم الذات والتركيز على "الإنجازات" الشخصية، عوضاً عن إبراز الحضارة المصرية العريقة.

لم يتوقّف حوّاس، عند هذه الردود الصادمة للجمهور الغربي، والتي اعتادها الجمهور المصري منه، بل قدّم سلوكيات أغرب. فعلى سبيل المثال، وعد الأثري المصري روغان، خلال التسجيل، بإرسال إيميل يتضمّن صوراً وقرائن مرتبطةً بإجابته عن أحد الأسئلة، لتضمينها في أثناء عرض البودكاست للجمهور، ولم يرسل في النهاية أيّ شيء، وهي خطوة كفيلة بنسف مصداقية إجابته لدى المشاهد أيّاً كانت درجة دقتها العلمية، وبتدمير ما تبقّى من ثقة بحوّاس كضيف وباحث جادّ.

كنموذج بسيط آخر عن ضعف الترابط المنطقي ومنهج الاستدلال لدى حوّاس، تطرّق حديثه إلى سيرة السحر وعلاقة المصريين القدماء به، فسأله روغان عن درجة اقتناعه بوجود السحر، فجاءت إجابته بقناعته بوجوده، وبأنه مذكور في قصص دينية مثل قصة النبي موسى وصراعاته مع خصمه الفرعون، فسأله روغان سؤالاً منطقياً وبسيطاً للغاية: إذا كنت مقتنعاً بوجود السحر كحقيقة بسبب قصة موسى، وبأنه كان موجوداً لدى المصريين القدماء تحديداً، لماذا تستبعد إذاً فكرة استخدام المصريين القدماء أنفسهم للسحر في بناء الأهرامات ونقل أحجارها الضخمة؟ فأجاب حوّاس، بعصبية شديدة ورفض للاحتمال والسؤال، في تناقض واضح بعدما عبّر هو نفسه قبل ثوانٍ معدودة عن قناعة تامّة بوجود السحر، وباستخدام المصريين القدماء له.

"مجتمع الحوّاسيّين"

الأمر اللافت أكثر من ردود حوّاس على روغان، ردود أفعال البعض عبر السوشال ميديا المصرية، وموجات الدعم والدفاع الإعلامية عن حوّاس، ما يدفع إلى التساؤل: هل أصبحنا مجتمعاً من "الحوّاسيّين"؟ ولماذا وكيف يكون هذا الانحياز له برغم ما وقع فيه من سقطات في لقاء كان ينبغي استغلاله بأفضل شكل للترويج للحضارة المصرية القديمة ولآثارها الفريدة القائمة حتى اليوم؟

يمثّل بودكاست روغان وجمهوره الأجنبي، حصاد ثقافة تشجّع على الشك والتساؤل والمراجعة كمداخل ضرورية للوصول إلى الحقيقة، ومُناهضة النموذج السلطوي. النقاش في هذه البيئة حرّ ومتعلّق بالإقناع والحجج والبراهين، وليس بتدرّج السلطة أو بذات المتحدث و"قيمته". وهي غالباً بيئة تتضاءل فيها معادلات "العالِم vs الجاهل، أو المتخصّص vs الهاوي، وبالطبع الأكبر سنّاً vs الأصغر سنّاً". لذا، يكون النقاش فيها غرضه المشاركة والاستفادة المتبادلة وينطوي على الاستماع إلى طرفين أو إلى أطراف عدة في الوقت ذاته، ولا يعتمد منظومة "منتصر/ خاسر" عند الاختلاف في الرأي.

على الجانب الآخر، يمثّل حوّاس حصاد بيئة مختلفة تماماً؛ مجتمع الإجابة النموذجية في كتاب الوزارة، التي يجب أن يحفظها الطالب ويكتبها كما هي في الامتحان لحصد أعلى الدرجات، مجتمع التلقين والطبيعة الهرمية والسلطوية في العلاقات. وبالنسبة لشخص مثله، عاش عقوداً في مصر مع ألقاب تشريفية كـ"باحث، وخبير، وزير"، يسهل فهم كيف ترسّخت الأنا المتضخّمة فيه.

"لم أكن مقتنعاً بنظرية بناء الفضائيين للأهرامات قبل هذا البودكاست، والآن أصبحت مقتنعاً بها"، ربما يوجز هذا التعليق -من بين الكثير من التعليقات السلبية على البودكاست- الأثر الذي تركه زاهي حوّاس لدى الجمهور الأجنبي الذي استمع إلى لقائه مع روغان

فالمعادلة بالنسبة لحوّاس، لدى التعامل مع الإعلاميين والجمهور، هي باختصار: "أنا لست هنا لأناقشك أو أقنعك أو أسمع منك شكوكاً وأطروحات مختلفةً. أنا هنا لأعلّمك وألقّنك".

بسبب هذا الفارق بين البيئتين، تَعامَل حوّاس بعصبية مع كل سؤال استفساري عادي من روغان، وعدّه سؤالاً استنكارياً أو هجومياً، مفترضاً أنّ كل طرح مختلف يذكره روغان بخصوص الأهرامات، إهانة لشخصه ولتاريخه المهني، وليس طرحاً يُقال بغرض النقاش والفهم ودراسة الاحتمالات.

غطاء الوطنية

خلال الجدل المثار حول مقابلة حوّاس، كرّرت منشورات وتعليقات لمصريين نشطين عبر السوشال ميديا، منطق "دعم زاهي حوّاس كمصري في وجه روغان الأجنبي" أو أنه "بغض النظر عن رأينا في/ اختلافنا مع زاهي حواس إلا أنه في النهاية أكثر علماً من روغان"، أو الذهاب أبعد باعتبار أنّ "الهجوم على زاهي حوّاس هو هجوم على مصر وتاريخها ويجب ألا يشارك أيّ مصري فيه".

ربما يظن أصحاب هذه الأفكار أن اصطفاف المصريين لدعم حوّاس، قد يكون كفيلاً أو كافياً لطمس أثر لقائه. 

لكن على العكس، هكذا أفكار لا تؤثر إلا في خلق منظومة تُحصّن وتحمي أصحاب الكفاءات الضعيفة من النقد بذريعة الوطنية والكرامة، وتتجاهل أنّ الوطنية الحقّة هي تقديم ما هو أفضل لصالح الوطن لا لصالح الأفراد.

"لم أكن مقتنعاً بنظرية بناء الفضائيّين للأهرامات قبل هذا البودكاست، والآن أصبحت مقتنعاً بها"، ربما يوجز هذا التعليق المثير للبكاء والضحك، في الوقت نفسه، من بين الكثير من التعليقات السلبية على البودكاست، الأثر الذي تركه حوّاس لدى الجمهور الأجنبي الذي استمع إلى لقائه مع روغان.

على ذكر قضايا مصر الوطنية، يتعرّض التاريخ المصري منذ سنوات وبوضوح، لهجوم وحملات ممنهجة من أتباع المركزية الإفريقية "الأفروسينتريزم"، الساعين إلى الاستحواذ الثقافي على الحضارة المصرية، وتصوير المصريين الحاليين كأحفاد "غُزاة" لهذه البقعة من العالم، لا كـ"أصحاب وصانعي حضارة" وأحفاد لقدماء بُناة الأهرامات.

تَعامَل زاهي حوّاس بعصبية مع كل سؤال استفساري عادي من روغان، وعدّه سؤالاً استنكارياً أو هجومياً، مفترضاً أنّ كل طرح مختلف يذكره مقدّم البودكاست إهانة لشخصه ولتاريخه المهني، وليس طرحاً يُقال بغرض النقاش والفهم ودراسة الاحتمالات

مصير هذه المعركة الثقافية سيحدد الكثير والكثير من وزن مصر السياحي والإستراتيجي، بكل ما قد يترتّب عن ذلك من نتائج اقتصادية واجتماعية مستقبلية أيضاً، وفي مثل هذه المعركة، يكون المصريون أمام أحد احتمالَين: أولهما، الاعتماد على وجوه وكفاءات مصرية قادرة على الاشتباك مع قضايا ومعارك إعلامية من هذا النوع، وثانيهما الاكتفاء بالأشخاص الذين يتصدّرون المشهد على شاكلة زاهي حوّاس، لإدارة هذا الملف إعلامياً في الخارج، ومواجهة هذه الادّعاءات، والحديث باسم مصر. لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الشرح والبحث للتنبّؤ بمصير هذه المعركة الثقافية. في الحالتين، على المصريين تحديد خيارهم فحسب، وانتقاء من يتحدّث باسمهم وباسم بلدهم والدفاع عن تاريخه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image