استخدام الدين كوسيلة للتأقلم النفسي وتبرير العجز العربي في زمن الإبادة 

استخدام الدين كوسيلة للتأقلم النفسي وتبرير العجز العربي في زمن الإبادة 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 31 مايو 202509:00 ص

في أيار/ مايو الجاري، فرضت دول أوروبية عدة عقوبات متأخرةً على إسرائيل، شملت حظر تصدير السلاح وتجميد بعض الاتفاقيات الاقتصادية. وبرغم أنّ هذه العقوبات لم تُنهِ الحرب على غزّة، ولم تُوقف الإبادة، إلا أنّها عكست -بدرجة ما- استجابةً متأخرةً من الحكومات الأوروبية لضغط شعبي متواصل، خرج إلى الشوارع منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وواصل حضوره في عواصم الغرب، محتجّاً على المجازر، ومُطالباً بوقف الدعم الغربي للاحتلال.

في المقابل، لم يشهد العالم العربي ضغطاً شعبياً حقيقياً يُجبر الحكومات العربية على مراجعة تحالفاتها أو مصالحها مع إسرائيل أو حلفائها، وظلّ الحراك في معظمه موسمياً، عاطفياً، وخاضعاً لرقابة مشدّدة، لا يُشكّل تهديداً فعلياً للأنظمة. ومع هذا الغياب الفعّال للشارع العربي، صعد خطاب ديني شعبي يملأ هذا الفراغ، ويحوّل العجز إلى فضيلة، ويستبدل الفعل السياسي بالانتظار الغيبي.

لم يشهد العالم العربي ضغطاً شعبياً حقيقياً يُجبر الحكومات العربية على مراجعة تحالفاتها أو مصالحها مع إسرائيل أو حلفائها، وظلّ الحراك في معظمه موسمياً، عاطفياً، وخاضعاً لرقابة مشدّدة، لا يُشكّل تهديداً فعلياً للأنظمة.

التديّن كملاذ نفسي… من الدعاء إلى التفسير القدري

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة، لم يُستخدم الدين كأداة تعبئة تطالب بوقف المجازر أو تحرّض على الخروج إلى الشوارع، بل أُعيد إنتاجه كوسيلة للتأقلم النفسي وتبرير العجز. وبدلاً من أن يكون الإيمان وقوداً للفعل، تحوّل إلى مهرب، وملاذ روحي يُسكّن الألم ويُغلق أبواب السؤال. انتشرت مقاطع كثيرة على منصات التواصل الاجتماعي تستدعي آيات قرآنيةً، وتربط "قرب زوال إسرائيل" بنبوءات غيبية، في تجاهل شبه تامّ لأيّ فعل ميداني أو سياسي.

من أبرز ما جرى استحضاره، آيات من سورة الإسراء، خصوصاً الآيتَين الرابعة والخامسة، اللتَين فسّرهما بعض الدعاة على أنّ "العباد أولي بأس شديد" هم الفلسطينيون، وأنّ "الفساد الثاني" لبني إسرائيل هو اللحظة الراهنة. هذا التأويل الذي شاع كدليل على قرب نهاية إسرائيل، فرَّغ النصوص من سياقها، وحوّل التاريخ إلى نبوءة مغلقة، تُعفي الفرد من مسؤوليته، وتُطمئنه بأنّ ما سيحدث قد كُتب مسبقاً.

بدلاً من أن يكون الإيمان وقوداً للفعل، تحوّل إلى مهرب، وملاذ روحي يُسكّن الألم ويُغلق أبواب السؤال.

برز في هذا السياق الشيخ بسّام جرار، الذي توقّع زوال إسرائيل عام 2022، استناداً إلى حسابات رقمية من سورة الإسراء. وبرغم أنّ ما توقّعه لم يحدث، ظلّ الخطاب حاضراً، كأنّه "وعد مؤجّل" يهدّئ الخوف بدل أن يحرّك الغضب.

هذا الخطاب بالتحديد يأتي متناسباً مع توجهات السلطة السياسية الحاكمة في كثير من الأنظمة العربية، لأنّه يُريحها ويُسهم في تهدئة الناس، فكلّما ابتعد الناس عن الفعل السياسي ولجأوا إلى الغيبيات، ارتاحت الأنظمة التي لا تريد أحداً يطالب أو يُحاسب أو يتحرّك. 

خطاب "الاستبدال"... جلد الذات بدلاً من مواجهتها

تزامناً مع تأويلات سورة الإسراء، انتشر خطاب ديني آخر يستند إلى ما يُعرف بـ"سنّة الاستبدال"، قام هذا الخطاب على فرضية قرآنية تقول إنّ الله "يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم". وهذا الخطاب وإن بدا في الظاهر كأنّه نقد ذاتي توجّهه الجماهير العربية والإسلامية إلى نفسها، لكنه في عمقه أعاد إنتاج المأزق نفسه؛ التخلّي عن الفعل مقابل الاكتفاء بالدعاء. 

تصاعد ضمن هذا الخطاب صوت يقول: "يا رب، إن لم يكن بنا خير، فاستبدلنا"، وكأنّ المطلوب ليس إصلاح الذات، بل تسليمها.

ظهر -في هذا السياق- أثر خطير آخر لهذا النوع من التديّن الشعبي؛ إذ تحوّل النقد الذاتي من أداة للتغيير إلى حالة من الشعور المستمرّ بالذنب وجلد الذات، أبعدت الغضب عن المسؤولين الحقيقيين، وبدلاً من أن يقوم الناس بتوجيه اللوم إلى من يملكون القرار، أعادوا توجيهه نحو أنفسهم وغاب عنهم أنّ المشكلة الحقيقية ليست فيهم، بل في الذين يتحكّمون بمصيرهم ومصير بلادهم. 

حادثة الوشق وحديث الغيب

حتى ظهور الوشق المصري على الحدود مع إسرائيل، لم تَنظر إليه الجماهير العربية كحادثة طبيعية لافتة، أو مؤشر بيئي يستحقّ التأمل، بل جرى تلقّيه على نطاق واسع كعلامة غيبية تُبشّر بقرب النصر، فسرعان ما أُدرج الحدث ضمن خطاب "العلامات"، كأنّه برهان جديد على أنّ شيئاً ما سيحدث، دون أن يتطلّب الأمر من الجماهير أي جهد أو فعل.

في سياق هذه الحادثة، أصبح الغيب بديلاً من الإرادة، فقد تحوّلت حادثة الوشق من واقعة تدعو إلى التساؤل وإيقاظ الوعي، إلى "إشارة من السماء" أغنت الجماهير العربية عن الحركة، حيثُ لم تقُم باستثمار رمزيتها في تحريك الفعل أو مساءلة اللحظة، بل تمّ استهلاكها في ترسيخ الانتظار.

أصبح الغيب بديلاً من الإرادة، فقد تحوّلت حادثة الوشق المصري من واقعة تدعو إلى التساؤل وإيقاظ الوعي، إلى "إشارة من السماء" أغنت الجماهير العربية عن الحركة، حيثُ لم تقُم باستثمار رمزيتها في تحريك الفعل أو مساءلة اللحظة، بل تمّ استهلاكها في ترسيخ الانتظار.

حين يصبح الغيب بديلاً عن الفعل

لا يفتقر العرب إلى الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، لكنّهم، في ظلّ قمع الأنظمة السياسية التي تحكمهم، فقدوا الثقة بجدوى أفعالهم، وتمّت مصادرة صوتهم إلى الحدّ الذي جعلهم يستبدلونه بالابتهال. وفيما كان الجمهور الغربي يُحرّك قرارات حكوماته، بقي الشارع العربي محكوماً بثنائية الصمت، أو التديّن المُروّض.

هذا التديّن، الذي ينتظر النصر من السماء، ينسجم مع منطق الأنظمة التي تريد شعوباً ساكنةً لا تحتجّ ولا تطالب بحقوقها، بحيث يُمنح الناس شعوراً بالطمأنينة مقابل الابتعاد عن الفعل والتغيير. لكن لا الغيب يتحقّق بالانتظار وحده، ولا التاريخ يتغير ما لم نشارك في تغييره بأنفسنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image