هذه ليست

هذه ليست "ازدواجية معايير"... هذا تواطؤ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 26 مايو 202510:37 ص

منذ سنة وسبعة أشهر، والسماء تمضغ نفسها فوق غزّة. العصافير التي كانت تعرف طرقها بين شقوق الهواء، انطفأت. المدينة التي لطالما مشت على عكاز الرمل، تُسلَخ. لا بيت يُقفل بابه لأن لا أبوابَ بقيت. كل شيء صار خيمةً سوداء مُعلَّقةً في فضاء بلا نوافذ.

غزّة هي العالم الذي سقط من الطاولة.

وفي وسط هذا العدم العظيم، ظللنا نسمعُ همساً من وراء الجدران البعيدة: "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها". جملة خفيفة كريشة، لكنها تُهشِّم الرؤوس.

هل هذه هي الازدواجية؟ لا. الكلمة أخفّ من أن تحتمل ما يجري. هذه ليست ازدواجية معايير. هذا تواطؤ. هذا قنص أخلاقي من طراز رفيع. هذا ما يحدث حين تتقافز الآلهة الزائفة على خشبة العالم، وتوزع الموت بالنِّسبةِ والتناسب.

في غزّة، لا ماء، لا طحين، لا ملجأ، ولا حليب للأطفال. في غزّة لا موت نظيفاً.

في المقابل، يقول المتحدث الأوروبي: "نحن قلقون". يقولها وهو يرتشف قهوته المصنوعة من حبوب الكاكاو القادمة من مزارع مات فيها أطفال أفارقة. يقولها وهو يرتبك قليلاً لأنه يخشى أن تبدو نبرته متعاطفةً أكثر من اللازم. يخشى من أن يُساء فهمه، فيبدو إنسانياً أكثر مما ينبغي.

حرب الإبادة هذه لا تشبه شيئاً. ليست غزواً، وليست ردّاً، أو ثأراً،أو عقاباً. هي حفلة تفريغ جماعي. تنظيفٌ جغرافيٌّ من لحمٍ وطفولة. في غزّة، الموت ليس مجازاً. إنه كائنٌ مادّي، يقف على رؤوس أصابع قدميه ويتشمّم الرُضَّع ليتأكد من بقائهم أحياء. فإن كانوا كذلك، ينهَل عليهم بقنبلة ذكية.

حرب الإبادة هذه لا تشبه شيئاً. ليست غزواً، وليست ردّاً، أو ثأراً،أو عقاباً. هي حفلة تفريغ جماعي. تنظيفٌ جغرافيٌّ من لحمٍ وطفولة. في غزّة، الموت ليس مجازاً. إنه كائنٌ مادّي، يقف على رؤوس أصابع قدميه ويتشمّم الرُضَّع ليتأكد من بقائهم أحياء. فإن كانوا كذلك، ينهَل عليهم بقنبلة ذكية.

لكن العالم، ذلك الكفيف المدلَّل، يربّت على كتف القاتل. يقول له: افعل ما عليك. لا تُكثر الصور فحسب.

في مكانٍ ما، على بعد آلاف الكيلومترات من الدمار، هناك محلل سياسي يشرح: "الوضع معقّد". هذه العبارة -حين تُقال عن الإبادة- تكون شريكةً في القتل. تقول إنّ المذبحة وجهة نظر. تقول إنّ من يموت قد يستحق الموت، لأنه لا يستطيع أن يفسّر نجاته بلغة القوة فحسب.

دعونا لا نُجمّل. العالم قاسٍ لا لأنه قاسٍ فحسب، ولكن لأنه منظّم. لأنّ الإبادة حين تأتي على أيدي الحلفاء، تُغسل وتُطلى وتُرسل إلى المجلات الرفيعة بوصفها دفاعاً عن النفس.

غزّة ليست معقّدةً. غزّة بسيطة ككفّ طفل قُطعت. كرصاصةٍ تعرف طريقها جيداً إلى عنق رضيع. كصوت أمٍّ تحت الأنقاض، لا تصرخ لأنّ فمها مليء بالتراب.

في عصرنا هذا، الجوع ليس من علامات المجاعة فحسب. الجوع أصبح سلاحاً، سياسةً، وإعلان نوايا.

حين تُمنع قوافل الطعام، حين يُمنع الدواء، حين تُمنع خيام الإغاثة، وحين يُمنع الوقود عن الحاضنات، فإنك لا تحاصر شعباً… بل تحوّله إلى تجربة مختبرية في كيفية سحق الإنسان دون أن تقتله فوراً.

هذا النوع من التجويع ليس من القرون الوسطى. إنه تكنولوجيا متقدمة. إنه تجويع مدروس وممنهج ومصفوف ضمن جدول أعمال. الغاية ليست إنهاء الحياة، إنّما تحطيمها على مراحل. جعل الناس يموتون بالتقسيط.

لكن العالم، وهو يرى هذا كله، يخرج علينا بمصطلحات منمّقة: "الحاجة إلى توازن"، "ضرورة وقف التصعيد"، و"تفادي الكارثة الإنسانية". وكأنّ الكارثة لم تحدث بعد. وكأنّ موت 60 ألف إنسان ليس كارثةً. وكأنّ دفن العائلات تحت البيوت ليست فاجعةً، إنما مجرد احتمالات.

لكن العالم، وهو يرى هذا كله، يخرج علينا بمصطلحات منمّقة: "الحاجة إلى توازن"، "ضرورة وقف التصعيد"، و"تفادي الكارثة الإنسانية". وكأنّ الكارثة لم تحدث بعد. وكأنّ موت 60 ألف إنسان ليس كارثةً. وكأنّ دفن العائلات تحت البيوت ليست فاجعةً، إنما مجرد احتمالات.

غزّة هي العالم الذي سقط من الطاولة. الفائض الذي لا يحتاجه أحد. الطين الذي تنبذه المدن. ولهذا تُباد، لأنها لا تملك وظيفةً في جملة المصالح الكبرى. حتى الموت في غزّة بلا صفة. لا يمكن تصنيفه. لا هو موت سياسي ولا اقتصادي. 

ازدواجية المعايير ليست خللاً طارئاً. إنها بنية النظام. الغرب لا يكيل بمكيالين، بل صمّم المكيال المزدوج من الأصل. يعرف متى يبكي، ومتى يُبارك. يعرف أنّ الطفولة البيضاء مقدّسة، وأنّ الطفولة السمراء مهدورة.

حين قُتل صحافي في باريس، تكسرت شوارع العالم من الحزن. وحين قُتل مئات الصحافيين في غزّة، قيل إنهم "يعملون في بيئة خطرة". كأنّ الخطر قدرهم، وليس استثناءهم.

وحين اختُطفت رهينة، أُرسلت الأقمار الصناعية لتتتبّعها. وحين فُقدت آلاف العائلات في غزّة تحت الأنقاض، قالوا: "ليست لدينا معلومات كافية".

العالم ليس محايداً. الحياد خرافة. حتى صمته منحاز. حتى قلقه يقتل.

وهكذا، يتواصل كل شيء. النار لا تنطفئ، لأنها مطمئنة. لا أحد يزعجها. القاتل يأخذ راحته، لأنّ المحاكم الدولية مشغولة بأوراق أخرى. أطفال غزّة يُدفنون في الليل، لأنّ النهار مزدحم بالموتى. غزّة تحترق، لكن على الشاشات الأوروبية، الصورة تختلف. هناك مراسل يتحدث من منطقة "صعبة"، ثم يقول إنّ الجيش الإسرائيلي "يواجه تحديات". أيّ تحديات؟ أن تمحو حيّاً كاملاً في أقل من ساعة؟ أن تقصف مشفى ثم تقول إنّ فيه نفقاً؟ أن تقتل عائلةً كاملةً ثم تعتذر بأنّ الخطأ تقني؟

حين قُتل صحافي في باريس، تكسرت شوارع العالم من الحزن. وحين قُتل مئات الصحافيين في غزّة، قيل إنهم "يعملون في بيئة خطرة". كأنّ الخطر قدرهم، وليس استثناءهم.

في غزّة، الموت هو القاعدة. النجاة استثناء. الطفل الذي ينام ليلاً دون أن يصحو على قنبلة، طفل محظوظ. الجسد الذي يُنتَشل كاملاً من تحت الأنقاض، معجزة.

وأخيراً، هذه ليست مقالةً. هذه وثيقة. لعلّها قصيدة من جهةٍ مكسورة، أو صرخة، أو جملة ناقصة.

لكن ما يُقال ليس مهماً. المهم أن يُقرأ. أن يُعاد ترديده في الزوايا المعتمة. أن يصبح شبحاً في رأس كل متواطئ. وأن تظلّ غزّة، برغم كل شيء، حيّةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image