"فلسطين ليست قضيّتي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"فلسطين ليست قضيتي". ما سبق ليس مجرد عنوان لمقال، إنما تعبير ساخر يردده بعض المثقفين العرب، على أنه إعلان تحرر من إرث ثقيل، أو تمرّد على سردية جماعية فقدت صلاحيتها الأخلاقية. 

في لحظة ما، تحوّلت فلسطين من رمز جامع إلى ملف متروك، ومن قِبلة للنضال إلى مرآة مشروخة لا يرغب كثيرون في النظر فيها.

والسؤال الأهم: هل تراجعت فلسطين لأنها لم تعد قضيةً عادلةً، أم لأنّ الفلسطيني نفسه لم يعد قادراً على أن يكون صوتها؟

من موقعنا كفلسطينيين في الداخل، لا نرى هذا التراجع من شرفة التنظير، بل من قلب التناقض. نرى كيف تفتّت الخطاب الفلسطيني بين سلطتين، وكيف خسر اللاجئ صوته بين حق العودة وحق الحياة، وكيف تحوّلت غزّة إلى غابة صمت، والضفّة إلى سلطة عاجزة، والشتات إلى أصداء لا يسمعها أحد.

لا أحد يُمثّل الكل. ولا خطاب يستطيع الصمود أمام اختبار الأخلاق والسياسة معاً. ولا جهة قادرةً على قول: "أنا فلسطين".

لكننا نرى، أيضاً، أنّ هذا العنوان الساخر؛ "فلسطين ليست قضيتي"، ما كان ليُكتب بهذه الجرأة، لولا أنّ الفلسطيني صدّر للعالم العربي صورته الممزقة، وخطابه المنقسم، وقضيته التي تتنازع عليها الفصائل لا الشعوب.

هذا المقال ليس دفاعاً عن أحد، بل مساءلة مزدوجة موجهة إلى من يقول إنّ فلسطين ليست قضيته، وإلى من جعلها تبدو كذلك.

حالة التفكك… أو الهوية كعبء

ما الذي يفعله الفلسطيني بنفسه، حين يتنازع تمثيله السياسي بين سلطتين، ويتناحر مشروعاه الوطني والإسلامي على حساب دمائه، وتتحوّل غزّة إلى قلعة محاصرة بالدم، والضفة إلى كيان إداري مأزوم، والقدس إلى ميدان مقاومة وحيد، تُترك فيه البيوت للهدم والناس للمواجهة العارية؟

السؤال لا يتعلق بالأداء السياسي أو بفشل القيادة فحسب، بل بتآكل المعنى المشترك للقضية ذاتها. ما تبقّى من "المشروع الوطني" تحوّل إلى جهاز بيروقراطي عاجز مشغول بإدارة أزمة دائمة، وما خرج عن "أوسلو"-سواءً أيّدناه أو عارضناه- عجز عن بناء بديل جامع يُطمئن الفلسطيني أولاً.

حين وقّعت السلطة اتفاق "أوسلو"، وعدت الشعب بدولة مستقلة. لكن الواقع أنها باتت تستأذن الاحتلال لإصلاح شارع في الضفة. ولمّا تسلّمت "حماس" السيطرة على غزة، رفعت شعار تحرير فلسطين. لكنها سرعان ما وجدت نفسها تدير كياناً محاصراً يدفع الثمن وحده. هذا التناقض ولّد حالةً من الإنهاك الوطني وفقدان الثقة.

في كل مكان، يمتلك الفلسطيني خطاباً مختلفاً عن الفلسطيني الآخر. رام الله تخاطِب الأمم المتحدة. غزّة تخاطب العالم من تحت الركام. الشتات يخاطب الحنين. وفي الداخل، نخاطب دولةً لا تعترف بنا إلا كـ"تحدٍّ ديموغرافي". 

يتوزّع الشباب بين ولاءات فصائلية أو خيارات فردية، كالهجرة أو الاغتراب الذاتي، لأنّ أحداً لا يقول لهم بصدق: هذه هي فلسطين، وهكذا نبنيها.

هذه التعددية، التي كان من الممكن أن تكون مصدر ثراء، تحوّلت إلى تمزق إستراتيجي: لا أحد يُمثّل الكل. ولا خطاب يستطيع الصمود أمام اختبار الأخلاق والسياسة معاً. ولا جهة قادرةً على قول: "أنا فلسطين".

حين ينظر العربي إلى هذا المشهد، هل نلومه إن قال، بمرارة أو بسخرية، إنّ فلسطين لم تعد قضيته؟ أو نلوم الفلسطيني الذي تحوّل من صاحب قضية إلى متفرّع عنها؟

الداخل والشتات… بقايا الوعي المتماسك؟

في زحمة الانقسام الفلسطيني، وبين سلطتين تتنازعان على الصلاحيات والشرعية، ظلّ هناك صوت خفيض، لكنه واضح: صوت فلسطينيي الداخل، وصوت الفلسطينيين في الشتات.

في الداخل الفلسطيني، حيث نعيش داخل منظومة الدولة الإسرائيلية، لا نملك ترف الشعارات العالية ولا الشعور الكامل بالانتماء. لكننا نملك ما هو أكثر خطورةً؛ القدرة على رؤية الصراع من دون وساطة المؤسسة أو الضحية، بل من موقع الناجي، المتذكّر، والمراقب الحيّ. 

لكن هذا التعاطف، مع الوقت، لم يعد احتراماً أو تضامناً، بل تحوّل إلى شفقة. والشفقة، برغم ما تحمله من عاطفة، تهدد بتحويل القضية إلى قصة درامية، بطلها محبوب لكنه منزوع الفاعلية

في مدينة عكا مثلاً، ترى شباباً فلسطينيين يقاومون محاولات الطمس، بينما يُخبرهم الواقع أنهم ليسوا إسرائيليين بما فيه الكفاية، ولا فلسطينيين بما يكفي ليُمثَّلوا.

يقاوم فلسطينيو الداخل التهميش اليومي والطمس المنهجي، ونصرخ دون منصّة: "نحن باقون هنا، ولسنا فتاتاً سياسياً في معادلة أحد".

أما في الشتات، ولا سيّما في لبنان وسوريا والأردن، وحتى في أوروبا والأمريكيتين، فتحوّلت النكبة إلى نَفَس يومي لا إلى مجرد ذكرى سنوية. اللاجئ الفلسطيني، الذي حُرم من الوطن ومن الصوت، ظلّ حاملاً لذاكرة لا تعرف التصالح مع النسيان، ولا المساومة مع الخطابات العابرة. في مخيم عين الحلوة، تجد عجوزاً تتحدث عن قريتها كما لو أنها زارتها البارحة، برغم أنها تدرك أنها لن تعود.

وربما يبقى صوتا الداخل والشتات، الأصدق في لحظات الانهيار، لأنهما، ببساطة، لم يُدعَيا يوماً لصناعة القرار، ولا لوّثتهما حسابات السلطة، ولا انسجما مع خطابات "الواقعية السياسية" أو "شرعية القوة". كما لم يحملا فلسطين كجغرافيا فحسب، بل كقصة تُروى، بالشعر والموسيقى والمسرح والسرد والذاكرة.

متى فقد العربي ثقته بالفلسطيني؟

قد يكون عنوان هذا المقال، مجرد صدى متأخر لسؤال أعمق وأكثر إيلاماً: متى فقد العربي ثقته بالفلسطيني؟

ليس القصد هنا توجيه اللوم أو جلد الذات، بل محاولة تتبّع لحظة الانفصال الأخلاقي بين القضية وصاحبها، وبين الرغبة في التحرر وسلوك من يزعم تمثيلها. 

في محطات تاريخية سابقة، كان المثقف العربي يرى في الفلسطيني تجسيداً للكرامة المهدورة والنضال العادل. لكن شيئاً ما تبدّل في الصورة والانطباع.

بدأ الشرخ حين تحوّل الفلسطيني من حامل راية، إلى حارس سلطة، في الضفة والقطاع، ومن رمز للمقاومة، إلى جزء من بنية سلطوية تفتقر إلى التمثيل الأخلاقي والشرعية الشعبية، وحين أصبحت المقاومة بنداً تفاوضياً على طاولات مغلقة، لا وسيلة للكرامة، وحين انقسم الفلسطيني على ذاته، بطريقة جعلت كل شعار يبدو مبتذلاً، وكل خطاب مجوّفاً.

في لحظة ما، قال العربي، ربما في سرّه: "إذا كان الفلسطيني نفسه لا يعرف ماذا يريد، فبأي حق يُطلب منّا أن نحمل قضيته؟".

هذا لا يعني أنّ العربي تخلّى عن تعاطفه مع الفلسطيني بوصفه ضحية. بل ربما ازداد تعاطفاً. لكن هذا التعاطف، مع الوقت، لم يعد احتراماً أو تضامناً، بل تحوّل إلى شفقة. والشفقة، برغم ما تحمله من عاطفة، تهدد بتحويل القضية إلى قصة درامية، بطلها محبوب لكنه منزوع الفاعلية. تماماً كما في الأفلام؛ الجميع يتأثر ببكاء البطل، لكن لا أحد يصدّق أن بإمكانه تغيير النهاية.

وهنا يكمن التحوّل الأخطر؛ حين تتحوّل فلسطين من قضية تحرر إلى قصة حزن، ومن مشروع سياسي إلى رمز للهزيمة، ومن أفق للخلاص إلى مرآة تُذكّر الشعوب بعجزها هي، قبل عجز الفلسطيني.

الأخطر، أن يلبس هذا التبرير، بنسخته المتذاكية، قناعاً ثقافياً؛ يُقنعك بأنّ القضية قديمة، أو رومانسية، أو لا تصلح لهذا العصر. كأنّ المطالبة بالعدالة تحوّلت إلى نزوة عاطفية، بينما الواقعية تقتضي الصمت والتسليم

ومع كل جولة انقسام داخلي، وكل فشل في تشكيل قيادة موحدة، وكل مرة يُنقل فيها صوت الشارع إلى مكاتب الأجهزة الأمنية، تتعمّق الهوة بين القضية ووجدان من نادوا بها يوماً. 

في مثل هذا السياق، لا يبدو التراجع العربي عن الالتزام مجرد تخلٍّ، بل يبدو نتاجاً طبيعياً لفقدان الثقة.

إلا أنّ هذا النتاج، لا يُبرّر التنصل، بل يستوجب إعادة مساءلة مزدوجة: هل ما زال الفلسطيني قادراً على حمل قضيته بكرامة؟ وهل يستطيع العربي أن يرى في فلسطين مرآةً لمأساته هو، لا عبئاً على ضميره؟

متى تتحول السخرية إلى تبرير؟

في البداية، قيلت جملة "فلسطين ليست قضيتي"، على سبيل السخرية، كمزحة ثقيلة أو ردّ فعل على حالة عامة من الإنهاك والتناقض العربيين. ضحك البعض، عبّر آخرون عن استيائهم، وراح مطلِقوها يبرّرونها على أنّها مجرد مبالغة أو صرخة ضد "النفاق باسم فلسطين”. 

لكن السخرية، حين تُعاد ويتم تداولها ويُلقى عليها ثوب العقلانية؛ تفقد براءتها وتتحول إلى موقف، لا بل إلى رخصة للخروج الأخلاقي من التزام لم يعد مريحاً.

المزاح هنا ليس بريئاً، بل نافذة مفتوحة للهروب من مواجهة الذات. وحين تتحول النكتة إلى بيان فكري، نصبح أمام خطاب يُضفي شرعيةً على الانسحاب العاطفي والسياسي والأخلاقي، من واحدة من أكثر قضايا العصر عدالةً.

إن من يردد هذه الجملة، ساخراً أو جادّاً، لا يواجه السياسي الفلسطيني أو قياداته المنقسمة فحسب، بل يهاجم الفلسطيني المجرّد، بوصفه رمزاً مستهلكاً أو عبئاً شعورياً فقد بريقه. ومن يرددها، لا يتخلّى فقط عن الفلسطيني فحسب، بل عن فكرة أنّ صوت الإنسان المظلوم يستحق أن يُسمَع، أياً كانت جنسيته أو ديانته أو جغرافيته.

في زمن "السوشال ميديا"، تضاعف هذا التوجه. تحوّلت السخرية إلى لعبة، وجملة "فلسطين ليست قضيتي" إلى تراند، يكرّره البعض للفت الأنظار أو للحصول على الإعجابات، دون أن يتأملوا في خطورته. 

هذا الخطاب لا يستهدف السلطة الفلسطينية ولا الفصائل المتنازعة، ولا حتى الاحتلال مباشرةً، بل يستهدف جوهر الضحية، في محاولة لتجريدها من آخر ما تملك: شرعية مظلوميتها.

وقد ينسجم هذا التجريد مع لحظة يُمكن وصفها بلحظة تبرير التخلّي، إذ لم يعد التنصّل من فلسطين ناتجاً عن إرهاق أو خيبة فحسب، بل صار مبرراً عقلانياً منظّماً، يُشرعن كل شيء؛ من التطبيع، إلى اللامبالاة، إلى المساومة الأخلاقية على حساب شعب كامل.

والأخطر، أن يلبس هذا التبرير، بنسخته المتذاكية، قناعاً ثقافياً؛ يُقنعك بأنّ القضية قديمة، أو رومانسية، أو لا تصلح لهذا العصر. كأنّ المطالبة بالعدالة تحوّلت إلى نزوة عاطفية، بينما الواقعية تقتضي الصمت والتسليم.

لكن الحقيقة، هي أنّ من يُهين فلسطين، لا يحرّر نفسه، بل يضيف قيداً جديداً على عنقه. ففي النهاية، ليس الفلسطيني وحده من يُدان حين تُهان قضيته، بل الضمير الجمعي الذي قبِل بأن يغض النظر، ثم يُبرر، ويسخر، ويصمت.

كيف نعيد تعريف فلسطين كقضية؟ 

إذا كانت فلسطين لم تعد "قضية العرب المركزية"، كما كانت توصف لعقود، فالسؤال لم يعد: "كيف نعيدها إلى المركز"، بل: كيف نعيد تعريفها من جديد، ونعيد تقديمها للعالم ولأنفسنا كقضية حيّة، تستحق أن تبقى في وجدان الأحرار، لا كرمز مثالي جامد، بل كنداء أخلاقي معاصر لا يمكن تجاهله؟

إعادة التعريف تبدأ منّا نحن، لا من الآخرين. لا من انتظار تعاطف عربي أو عودة وهج إعلامي موسمي، بل من مساءلة الذات الفلسطينية أولاً: لماذا فَقَدَت القضية زخمها؟ كيف تحوّلت إلى خبر عابر؟ من سرق صوت الناس لصالح فصائل وحسابات وخرائط مصالح؟

لكي تستعيد فلسطين حضورها، علينا أن نُعيد صياغتها لا كـ"نقطة تقاطع" في الخطابات القومية والدينية، بل كقضية تحرر إنساني مفتوح، تتحدث بلغة الحرية والكرامة والمساواة، وتخاطب العالم بمنطقه، لا بشعاراته القديمة.

قد لا تكون فلسطين، اليوم، "مركزيةً" في الخطاب العربي، أو "أولويةً" في أجندات العالم. لكنها لا تزال المرآة الأكثر صدقاً لما آل إليه حال الإنسان في هذا الشرق المتعب

ماذا يعني أن نبدأ نحنُ؟

يعني أن نتحرر من الانقسام أولاً، لا بالشعارات، بل بالفعل. أن ننتقل من تكرار نقد الفصائل إلى صناعة بديل من الناس. أن يُبادر الشباب، داخل فلسطين وخارجها، إلى تأسيس حراك جامع، لا يحمل اسم "فتح" ولا "حماس"، بل يحمل اسم الإنسان الذي يقف على الحاجز، أو تحت القصف، أو خلف الجدار، أو في مخيم بعيد لا يُذكر.

يعني أن نعود إلى أنفسنا، لا أن نتراجع أو ننعزل، إنما أن نبدأ من الوحدة الأخلاقية. أن نقول لبعضنا البعض: "نحن لا نملك ترف التناحر". أن يجلس شاب من غزّة مع شابّة من رام الله، مع لاجئ من لبنان، وشاب من الداخل، ويكتبوا روايتهم الخاصة، رواية تُبنى على الاعتراف المتبادل والاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة.

يعني أن نعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني، ورفض استخدامه كأداة تعبئة أو كأيقونة إعلامية. إعادة الاعتبار تعني عدّه كائناً حيّاً ذا صوت وحلم، وذا حق في أن يكون جوهر القضية لا وقودها، لأنّ فلسطين ليست خريطةً فحسب، بل حياة، وذاكرة، ومستقبل، وحكاية عن العدالة التي لم تأتِ بعد.

يعني أن نطرح فلسطين كقضية أخلاقية، لا كمجرد صراع على حدود أو سياسة. أن نقول للعالم: فلسطين ليست صراعاً بين قوميتين، بل بين ظالم ومظلوم. بين احتلال يسرق الأرض والهوية، وشعب يُقاوم كي يبقى. بهذه اللغة، وحدها، تعود فلسطين قضيةً كونيةً، لا موسمية.

وأخيراً، فإنّ إعادة تعريف فلسطين لا تعني تلميعها، إنما تنظيفها من تراكمات الخطاب المهترئ، من البكائيات الفارغة، ومن التوظيف الفصائلي. أن نعيدها كما هي: قضية الحرية الأوضح، والأكثر قسوةً، والأكثر قدرةً على فضح هذا العالم.

"فلسطين ليست قضيّتي"... بل مرآتي ومرآتنا

في نهاية هذا النصّ، لسنا بحاجة إلى مناظرة أمام شعار "فلسطين ليست قضيتي"، وكأنّه مجرد استفزاز عابر أو "تراند" على شبكات التواصل. بل ينبغي التعامل معه كعرض مؤلم لحالة أعمق: تعب جماعي، وانفصال وجداني، وسؤال أخلاقي لا يخص الفلسطيني وحده، بل يمتدّ إلى كل من صدّق يوماً أنّ الحرية لا تتجزأ.

قد لا تكون فلسطين، اليوم، "مركزيةً" في الخطاب العربي، أو "أولويةً" في أجندات العالم. لكنها لا تزال المرآة الأكثر صدقاً لما آل إليه حال الإنسان في هذا الشرق المتعب، مرآة للأنظمة والثورات والمثقفين والجماهير، مرآة لكل من آثر الصمت على مواجهة الظلم.

هي ليست مجرد قضية تنتظر الدعم، بل معيار لفهم الذات: هل ما زال الإنسان قادراً على الانتصار للمظلوم، حتى لو لم يعد الصراع رائجاً، أو لم تعد الضحية على "مزاج المرحلة”؟ هل لا نزال نملك القدرة على تسمية الأشياء بأسمائها؛ احتلال لا نزاع، وحرية لا 

"واقعية سياسية”؟

أولئك الذين تخلّوا عن فلسطين، لم ينسوها، بل لم يعودوا يحتملون النظر في المرآة التي تعكس عجزهم. أما نحن الفلسطينيين، فمسؤوليتنا الأولى ليست استجداء التعاطف، بل استعادة المصداقية؛ أن نُصلح صورتنا في هذه المرآة قبل أن نطلب من الآخرين أن يرونا.

وللعرب، من حولنا: فلسطين ليست مرآتنا وحدنا، بل مرآتكم أيضاً. وإذا ما نظرتم فيها، ورأيتم شيئاً لا يرضيكم، لا تكسروا المرآة، بل حاولوا أن تصلحوا ملامحكم.

فلسطين ليست قضيتي؟ ربما. لكنها ستبقى مرآتي؛ مرآتي الأخلاقية والإنسانية والسياسية. وكلما نظرتُ فيها، رأيت من أكون، ومن لا أريد أن أكون. والسؤال اليوم ليس: هل ما زالت القضية الفلسطينية ملهمةً، إنما: هل لا نزال نملك القدرة على الإلهام، على الصمود، وعلى قول لا؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image