جغرافيا الإذلال… كيف يُعاد تشكيل الإنسان الغزّي خارج الحق

جغرافيا الإذلال… كيف يُعاد تشكيل الإنسان الغزّي خارج الحق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 28 مايو 202510:15 ص

حين يُطرح أي موضوع له علاقة بحقوق الإنسان في السياق الغزّي، فإنّ ما يستدعيه الذهن الغزّي ليس المنظومة الحقوقية كتصوّر أخلاقي أو قانوني، بل الواقع المجرّد الذي جرّد الإنسان من قدرته على التخيّل أساساً.

الحقوق، كما يتداولها الخطاب العالمي، تفترض وجود إنسان متساوٍ، في كينونته وكرامته وحدوده، لكن هذا الافتراض من البديهي أن ينهار في مكان تُبنى فيه الحياة على التفاوت القسري، ويُعاد فيه تعريف الإنسان بوصفه فائضاً عن النظام العالمي لا جزءاً منه.

الإنسان في غزة لا يعيش نقص الحقوق، بل انعدام شرطها الأخلاقي.... من لم يقف يوماً في طابور خبز على أبواب مخبز يعمل بنظام حلابات البقر للمستفيدين، أو لم يضطر إلى شراء الطحين الملوّث بالرمل والمسروق من شاحنة إغاثة دولية، لا يمكنه أن يفهم معنى أن تتحول الحياة نفسها إلى صراع رمزي على فتات كرامة. ومن جانب آخر، لا شيء يعبّر عن اختلال منظومة الحقوق أكثر من تكيّة يتزاحم فيها آلاف الجوعى ليأخذوا وجبةً بلا مذاق لا تألفها البهائم، كأنهم يثبتون، يوماً بعد يوم، أنهم ما زالوا موجودين بفضل صدفة الإحسان فحسب، لا بفعل استحقاق قانوني.

من لم يقف يوماً في طابور خبز على أبواب مخبز يعمل بنظام حلابات البقر للمستفيدين، أو لم يضطر إلى شراء الطحين الملوّث بالرمل والمسروق من شاحنة إغاثة دولية، لا يمكنه أن يفهم معنى أن تتحول الحياة نفسها إلى صراع رمزي على فتات كرامة.

في سياق كهذا، يصبح الحديث عن الحق ترفاً لا يحتمله الواقع. لا أحد حقّاً يرى في جسده قيمةً مصونةً، واقفاً بذلّ الحاجة حين يدفع 37% من ماله المستحقّ بعرق جبينه لتاجر عمولات كي يسحب له مبلغاً نقدياً من حسابه البنكي، لأنّ البنوك لا تفتح أبوابها، ولأنّ السيولة نفسها أصبحت سلعةً يُتاجَر بها في سوقٍ لا تحكمه قوانين، بل مافيات الطوارئ والحروب. منطق العمولة في ذاته يغدو مرآةً لبُنيةٍ أوسع، حيث كل ما هو إنساني يُعاد تدويره بوصفه فرصة ربح: الاحتياج يُسعّر، الخوف يُدار، والنجاة تُباع بألاف "الشواكل" (جمع شيكل).

ما يُسمّى بـ "الحق" لا يُنتَج اليوم ضمن عقد اجتماعي أو بنية مؤسسية، بل في هوامش اللغة، في الفراغ بين المطالبة والخذلان. السلطة، بأشكالها كلها، لا تعرّف الإنسان بوصفه فاعلاً، بل موضوعاً للحكم... لا تحميه، بل تراقبه. لا تطلق عليه الحقوق، بل تسحبه نحو النظام العقابي، سواء بالقوة أو بالتجويع أو بالصمت العام. يُعاد تشكيل الفرد كمُراقب من قِبل مجتمعه، وككائن مطيع لنظام هشّ، لا بوصفه كائناً حرّاً قادراً على الفعل والاختيار.

الاحتلال لا يمثّل قمعاً خارجياً فحسب اليوم، بل يعمل كآلة فلسفية تطيح بكل إمكانية للحديث عن الحق كمبدأ. المعابر، تنسيقات السفر، وتصاريح العلاج، كلها ليست أدوات سيطرة فحسب، بل منظومات قائمة بذاتها تعيد تشكيل الزمن والمكان والجسد، فلا حاضر مستقرّاً ولا مستقبل متخيّل، المكان يُختزل إلى مناطق عازلة ومناطق شبه إنسانية. الجسد يُختصر في حالته الفيزيائية: هل هو حيّ؟ هل هو متحرك؟

في ظل هذه الاختزالات، تُلغى العلاقة الأخلاقية بين الإنسان والعالم، ويُعاد إنتاجه ككائن ناقص الوجود، بلا صوت، وبلا حضور.

المؤسسات التي تدّعي الدفاع عن الإنسان، تصوغ تقاريرها بلغة تجريدية، تُخضع المأساة للفورمات، وتحوّل الانتهاك إلى مؤشر رقمي قابل للعرض على الشاشات. تتحوّل لغة الحق إلى خطاب إداري، لا فرق فيه بين تقرير طبي وآخر عن التعذيب.

في المقابل، المؤسسات التي تدّعي الدفاع عن الإنسان، تصوغ تقاريرها بلغة تجريدية، تُخضع المأساة للفورمات، وتحوّل الانتهاك إلى مؤشر رقمي قابل للعرض على الشاشات. تتحوّل لغة الحق إلى خطاب إداري، لا فرق فيه بين تقرير طبي وآخر عن التعذيب. هذا المسخ اللغوي يُعيد إنتاج المشكلة، لأنّ اللغة التي لا تصرخ، لا تفضح، ولا تُقاوِم، تتحول إلى أداة إحصاء، لا أداة تحريك.

في ظلّ ذلك، تتآكل قدرة الناس اليوم على تصوّر أنفسهم كأصحاب حق. من يركض بين مراكز توزيع الطحين والمساعدات لا يطالب، بل ينتظر. من يقف ذليلاً على طاولات تجار السيولة لا يصرّ على حقّه في ماله، بل يفاوض السمسار المرابي قدر الإمكان. من يأكل من تكيّة لا يرى الدولة ولا عقداً اجتماعياً، بل يرى "أمّ زينب" من السعودية و"أبا سالم" من قطر عندما يُطلب منه شكر المتبرع على وجبة العدس… من يعيش هذا كله لا يتحدث عن الحق، بل عن الخلاص الفردي المؤقت.

وهكذا، تتحوّل الحقوق إلى محطات إذلال متكررة، تُثبّت في وعي الناس أن وجودهم نفسه مشروط.

المجتمع، بوعيه الجمعي المنهَك، لا يوفّر حمايةً بديلةً، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى بنية ضبط موازية، تُمارس الرقابة الأخلاقية كمهمة وطنية، فيُعاد تعريف الفضيلة بوصفها الامتثال، ويُروَّج للصمت بوصفه شكلاً من أشكال النجاة.

حين تُفقَد القدرة على تصوّر الحقّ كشيء أصيل، يُفقَد المعنى. لا يتعلق الأمر بتأخير العدالة، بل بإلغاء الفكرة من أساسها، فالمسافة بين النص القانوني والتجربة اليومية أصبحت واسعةً إلى درجة أنّ مجرد الحديث عن "حق" يبدو ساخراً أو ساذجاً. الجملة الحقوقية فقدت مصداقيتها حقاً لأنّ الواقع يصرّ يومياً على نفيها.

ما يزيد من تعقيد هذه البنية المختلّة، أنّ المعاناة نفسها لم تعد شأناً خاصاً بمن يعيشها للأسف، بل أصبحت سلعةً رمزيةً تُستثمر سياسياً، حيث تُحوَّل المعاناة إلى أداة لتمرير خطابات الشرعية، وتُستخدم صور الجرحى والبيوت المهدّمة بوصفها إثباتاً على النضال أو على "المظلومية"، لا بوصفها استدعاءً للمحاسبة أو مطلباً للعدالة، وتُصبح الكارثة مادةً خطابيةً لا أخلاقية، ويُعاد إنتاج المأساة عبر استثمارها، لا عبر العمل على إنهائها. 

حين تُفقَد القدرة على تصوّر الحقّ كشيء أصيل، يُفقَد المعنى. لا يتعلق الأمر بتأخير العدالة، بل بإلغاء الفكرة من أساسها، فالمسافة بين النص القانوني والتجربة اليومية أصبحت واسعةً إلى درجة أنّ مجرد الحديث عن "حق" يبدو ساخراً أو ساذجاً.

في هذه الحالة، لا يكون استحضار المعاناة فعلاً أخلاقياً، بل خطوة محسوبة ضمن مسار توازنات القوى. الكاميرا لا تُوجّه إلى من هو في أمسّ الحاجة، بل إلى من يُناسب ظهوره في اللحظة السياسية. تقارير الحقوق تُصبح بيانات منافسة بين مؤسسات، وصور الأجساد تُدرَج في نشرات الأخبار بوصفها دليلاً على الموقف، لا على الجريمة. تُحوَّل المجازر إلى لقطات، والتقارير إلى تراكم أرشيفي لا يؤثّر، بل يبرّر.

المنظومات السياسية اليوم، سواء المحلية أو الدولية، لا تتعامل مع حقوق الإنسان في غزة بوصفها بنيةً ضروريةً للاستقرار أو العدالة، بل كملفّ تجب "إدارته"، ويتم تفصيل هذه الإدارة حسب الحاجة: تُخاطَب الحقوق حين يكون هناك تمويل فحسب، وتُدفن حين تُهدَّد مراكز القوة بطبيعة الحال. بهذا المعنى، تتحوّل حقوق الإنسان إلى وسيلة تأجيل دائم للصدام الحقيقي مع بُنى السيطرة لأجلٍ غير مسمّى.

حتى المؤسسات التي تعمل على الأرض، وهي تُدرك هذا التسييس، تجد نفسها مدفوعةً للتعامل مع الضحايا وفق منطق التوثيق لا الرعاية، منطق الإحصاء لا الاستجابة، منطق "الاستهداف النوعي" لا الشمول. وهكذا، يُعاد إنتاج الانتهاك ضمن منظومة لا تكترث للفرد بقدر ما تكترث للصورة التي يُنتجها.

بهذا المعنى، لا يمكن المطالبة بحقوق الإنسان في غزة دون أن نصطدم بالبنية التي حوّلت المأساة إلى أصل استثماري، وهي بنية الحكم نفسها في غزة والضفة الغربية.

بالمناسبة، لم يعُد التصدي لانتهاك الحقوق مواجهةً مع الفاعل المباشر فحسب وهو الاحتلال، بل مع النظام الذي يُعيد إنتاج الانتهاك بوصفه ضرورةً وحالةً طارئةً وهو نظام الإخوان المسلمين في غزة. فلا معنى لخطاب العدالة حين تكون العدالة نفسها مادة مساومة، ولا معنى للمحاسبة حين تكون أدواتها مشروطةً بموافقة الأطراف المتورطة.

بالمناسبة، لم يعُد التصدي لانتهاك الحقوق مواجهةً مع الفاعل المباشر فحسب وهو الاحتلال، بل مع النظام الذي يُعيد إنتاج الانتهاك بوصفه ضرورةً وحالةً طارئةً وهو نظام الإخوان المسلمين في غزة.

هذا الواقع لا ينتج خواءً أخلاقياً فحسب، بل أزمة وجودية في قدرة الناس على الإيمان بأي قيمة، فحين يُسحَق الجسد، وتُبثّ صورته، ويُموَّل التقرير عنه من خلال قناة "الجزيرة" القطرية ومرتزقتها، ويُطبَع اسمه في البيان، دون أن يتغيّر شيء، تنكسر علاقة الإنسان بالحق كفكرة، وينهار الرابط بين التجربة واللغة، بين المأساة والعقاب، بين الحياة والمعنى.

في ظل هذه الهندسة الشاملة للخذلان، لا يفقد الإنسان شعوره بالحماية فحسب، بل حتى لغته لوصف ما يحدث له، ويَصعُب التمييز بين الجريمة والقدر، بين الظلم والروتين، لأنّ الانتهاك يُعاد تدويره حتى يبدو طبيعياً فيتسلل المفهوم من الوعي، وتبقى التجربة بلا تفسير، كأنّ ما يحدث لا يستحق أن يُقال، أو أنّ اللغة نفسها لم تُخلَق بعد لتسع هذه الحقيقة الاجرامية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image