لماذا ينهار أحدهم أمام أول فشل، بينما يقف آخر بعد كل سقطة مثيراً دهشة الجميع إلا نفسه؟ ولماذا يبدو بعض الناس وكأنهم مهيّأون لمواجهة الحياة، مهما قست، أكثر من غيرهم؟ الجواب ليس بسيطاً كما يبدو، إذ يختلط فيه الاجتماعي بالاقتصادي، ويتقاطع مع التربوي والنفسي، ويمتدّ ليشمل ما ورثناه من أجيال سابقة عن معنى الصلابة، وعن قيمة الفشل والنجاح، وهو أيضاً مرتبط بالجغرافيا التي نعيش فيها، والموروث الثقافي الديني الذي يحكمنا، وقد يمتد إلى الاختلاف بين "المادية" ومعنى الاستسلام، و"الروحانية" ومعنى التسليم والرضوخ للقدر.
اقتصادياً، الاعتقاد السائد لدى الغالبية هو أنّ البيئات الفقيرة تُنتج أشخاصاً أصلب عوداً وأكثر قدرةً على التحمّل. يقابله اعتقاد بأنّ الحياة المترفة أو المريحة على أقل تقدير، توفّر مناخاً آمناً لتجريب الحياة والتعلم من الأخطاء.
أما تربوياً، فهناك اعتقاد لا يزال سائداً بأنّ التربية التقليدية القائمة على الانضباط تصنع نجوماً في الحياة قادرين على مواجهتها، بينما لا تزال سبل التربية الحديثة محل تساؤلات، برغم إصرار علم نفس الطفل على أنها هي التي تحفز على التعبير عن الذات وتُعِدُّنا لمواجهة واقع مليء بالتناقضات. فما الأفضل؟
لكن، ليست المسألة في من الأقدر على مواجهة الحياة، فقط، بل في أي بيئة تتاح فيها الفرصة للمواجهة أصلاً. قد يكون ابن الفقير أكثر تمريناً على التحمّل، لكن هذا لا يعني أنه سينجح حتماً في غياب بنية عادلة تسمح له بالوصول. العدالة الاجتماعية لا تساوي الناس في ظروفهم، لكنها تضمن أن لا يتحوّل الفقر إلى حكم مؤبد بالعجز. أما تكافؤ الفرص، فهو الذي يمنح أبناء الطبقات العاملة الحق في الحلم، لا بالحد الأدنى من النجاة، بل بالحد الأعلى من الطموح.
ما الذي لا يقدّمه الثراء؟
توصلت دراسة نُشرت في مجلة "Child Development"، في عام 2018، إلى أن الأطفال الذين نشأوا في بيئات منخفضة الدخل، غالباً ما يطوّرون مهارات "المرونة التكيفية" (adaptive resilience)، أي القدرة على التعايش مع الضغط والتهديد. هذه المهارات لا تُدرّس في المدارس، بل تُكتسب من الحياة نفسها بحسب خبراء التربية وعلماء الاجتماع، وهي تبدأ من اللحظة التي يُجبر فيها الطفل على فهم قيمة المال، والموازنة بين الحاجات، ومساعدة الأسرة، أي أنها تبدأ كلما بدأ الوعي بالمسؤولية.
من هنا يأتي الاعتقاد بأنّ الفقر يربّي أبناء أقوى، فأبناء الفقراء يتعلمون منذ البداية أنهم لا يملكون خيار الفشل الكامل، لأنّ السقوط لديهم لا يعني إعادة المحاولة فحسب، بل قد يعني النهاية. لذا يصبح النجاح فعل نجاة، لا مجرد تحدٍّ جديد. نشاهد ذلك في مسارات كثير من السياسيين والفنانين الذين خرجوا من رحم المعاناة، والذين اكتسبوا "القدرة الحقيقية على التعاطف" وهي ميزة قوية جداً في الحياة بحسب الدراسة السابقة.
يرى البعض أن أبناء الفقراء أكثر صلابة لأنهم يتعلمون النجاة لا النجاح فقط، ويطورون "المرونة التكيفية". لكن هذا الاعتقاد يتجاهل أن غياب الدعم العاطفي قد يحول الفقر إلى تشويه لا إلى بطولة. فالفقر قد يُنتج قادة، لكنه قد يُنتج أيضاً ضحايا غير مرئيين، لا سيما في دول تغيب فيها العدالة الاجتماعية والمساواة في فرص التعلم والعمل
من هؤلاء نقف عند هوغو تشافيز، في فنزويلا، ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا، في البرازيل، وكلاهما خرج من بيئة شديدة الفقر إلى قيادة دولة. والفقر لم يكن مجرد سياق اجتماعي، بل هو الذي شكّل لغتهما وخطابهما للناس، وأعطاهما مشروعيةً شعبية.
لكن يظلّ السؤال معلّقاً على ما إذا كان الأطفال الذين نشأوا في بيئات أسهل من الناحية الاقتصادية -طبقة وسطى عليا فما فوق- غير قادرين على اكتساب هذه المهارات نفسها بقرار الأهل؟
هل يأتي الإبداع حقّاً من رحم المعاناة؟
لعل عالم كرة القدم يُقدّم أمثلة بليغة على إمكانيات النجاح التي تخلق من سيناريوهات فقر مختلفة، فكثير من النجوم خرجوا من بيئات شديدة الفقر، لكنهم لم يظهروا إلا في دول تضمن حداً أدنى من العدالة الاجتماعية. اللاعب السنغالي "ساديو ماني"، مثلاً، الذي نشأ في قرية بلا كهرباء، لم يكن ليُكتشف لولا وجود منظومة كروية فرنسية مفتوحة على إفريقيا. وكذلك "فينيسيوس جونيور"، الطفل الذي كبر في حي فقير في ريو دي جانيرو، لولا برامج التطوير الرياضي البرازيلية الداعمة للمواهب في الأحياء الشعبية، لما عبر إلى ريال مدريد. الفقر لا يكفي، والموهبة وحدها لا تضمن شيئًا. ما يغيّر المصير فعلاً هو وجود فرصة، ووجود شخص جاهز لالتقاطها.
هل يمكن أن نحصل على النتيجة ذاتها في الفنون؟ أمّ كلثوم خرجت من بيئة ريفية محافظة، وكان فقرها سبباً في بداياتها الصوفية المتقشفة، قبل أن تصير سيدة الغناء العربي. على النقيض منها، كثير من الفنانين الذين وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، وأيضاً احتفظوا بتألقهم طويلاً، واستفادوا من تعليمهم النخبوي، حتى حين لم يضطروا إلى القتال على مكان في الحياة مثل يوسف وهبة، ابن الطبقة الأرستقراطية المصرية.
لكن النماذج السابقة، قد تكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، إذ لا يمكن القول إن الموهبة وحدها كافية ليحصل الفقير على فرصته في الحياة، أو إن الاجتهاد يضمن طريق الخروج من البيئة الصعبة، وتحديداً في عالم الفن، فعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأنّ الفقر والمعاناة منبعا الفن الحقيقي، إلا أنّ الدراسات لا تؤكد هذه الفكرة الرومانسية، إذ تعدّ وصول فنان من بيئة فقيرة أقرب إلى طفرة منه إلى نمط -باستثناء الرواية- والحقيقة الصعبة أنّ الواقع عكس ذلك. وقد أظهر بحث حديث أن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للفنانين تؤثر بشكل كبير على فرصهم في النجاح في المجال الفني، لكن بأيّ اتجاه؟
قد يؤدي الثراء إلى عزلة نفسية لدى الأبناء الذين لم يعرفوا الفشل المبكر. وقد يصبح العالم عبئاً حين لا يستجيب، وتتحول الأخطاء الصغيرة إلى انهيارات نفسية كبيرة.
وفقًا للبحث الذي أجرته جامعة جنوب الدنمارك، فإنّ الأفراد من العائلات الثرية أكثر احتمالاً لأن يصبحوا فنانين محترفين مقارنةً بأولئك الذين من خلفيات فقيرة. تشير البيانات إلى أنه مع كل زيادة سنوية قدرها 10،000 دولار في دخل الأسرة -بمعايير دخل الدنمارك-، تزداد احتمالية دخول الفرد إلى مجال الفنون بنسبة 2%.
هذا التفاوت يُعزى إلى القدرة المالية للعائلات الثرية على دعم أبنائها خلال المراحل الأولية من حياتهم المهنية الفنية، والتي غالباً ما تكون غير مستقرّة مالياً. في المقابل، يواجه الفنانون من خلفيات فقيرة تحديات ماليةً كبيرةً، ما قد يعيق تطورهم المهني.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الدراسات أنّ الفنانين من خلفيات ثرية يميلون إلى التواجد في مراكز فنية رئيسية مثل نيويورك ولوس أنجلوس وبرلين ولندن وباريس، حيث تتوافر فرص أكبر للعرض والتواصل. هذا التركيز الجغرافي يعزز من فرص النجاح لأولئك الذين لديهم الموارد للوصول إلى هذه المدن.
من جهة أخرى، يواجه الفنانون من الطبقات العاملة تحديات إضافيةً، مثل نقص التمويل وصعوبة الوصول إلى التعليم الفني المتخصص. وفي تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، تبيّن أنّ نسبةً كبيرةً من القادة في المؤسسات الفنية المموّلة من مجلس الفنون في إنكلترا، قد تلقّوا تعليمهم في مدارس خاصة، ما يبرز الفجوة الطبقية في هذا القطاع.
للتغلب على هذه التحديات، يقترح الخبراء تنفيذ سياسات تهدف إلى تعزيز التنوع الاجتماعي والاقتصادي في الفنون، مثل تقديم منح دراسية للفنانين من خلفيات فقيرة، وتوفير فرص تدريب مدفوعة الأجر، ودعم البرامج التعليمية التي تستهدف المجتمعات المحرومة.
الفقر ليس بطولة والثراء ليس ضماناً
لكنّ الفقر ليس بطولةً بحدّ ذاته. حين يغيب معه الدعم النفسي، أو حين يقترن بالعنف والإهمال، يمكن أن يتحوّل إلى تشويه دائم للذات. في تحليل نشره مركز "هارفارد لتطور الطفل"، تبيّن أنّ الدعم العاطفي من شخص واحد على الأقل في حياة الطفل الفقير، قادر على إحداث فرق نوعي في بناء استقراره النفسي. فوجود الجدّة، أو الخالة أو العمّ أو الجار، أو معلمة تلتفت إلى الطفل وتشيد به، يمكن أن يكون الحائل بين شاب محطّم، وشخص قادر على النهوض من الحطام.
في المقابل، لا يضمن الثراء دائماً "السلامة النفسية" إن صحّ التعبير، بل قد يخلق ما يُشبه العزلة النرجسية. فقد أظهرت دراسة أثارت الجدل لـ"Journal of Youth and Adolescence"، نُشرت في العام 2013، أنّ بعض أبناء العائلات الثرية يعانون من القلق والفراغ الوجودي، بسبب غياب التحديات، وشعورهم بأنّ العالم يجب أن يلبّيهم دائماً: فـ"هؤلاء لم يضطروا إلى تأجيل رغبة، ولم يعرفوا ما معنى أن تتنازل عن شيء لتحصل على شيء آخر. ولذلك، حين تفشل مشاريعهم الأولى، أو ينفصلون عن شركائهم العاطفيين، تبدو الحياة بلا معنى، وتتحول الأخطاء الصغيرة إلى دراما وجودية".
والتربية تعوّض النقص
النشأة لا تقلّ أهميةً. فأسلوب التربية الذي يتلقّاه الطفل، سواء كان تقليدياً قائماً على السلطة، أو حديثاً قائماً على الحوار، يحدد علاقته لاحقاً بالعالم. فالتربية التقليدية، تنتج أطفالاً مطيعين، لكنهم أكثر عرضةً للقلق وانعدام الثقة بالنفس. هؤلاء يتقنون تنفيذ الأوامر، لكنهم يترددون في اتخاذ القرار حين يُتركون وحدهم.
لا الفقر ولا الثراء يحددان مصير الطفل بقدر ما تفعل نوعية التربية. طفل فقير بتنشئة داعمة قد يكون أكثر صلابة من طفل غنيّ مدلل. فالتربية التي توازن بين الحنان والانضباط تعلّم الطفل اتخاذ القرار، ومواجهة الفشل، وبناء احترام الذات بعيداً عن الخوف أو الغطرسة
أما التربية الحديثة، حين تُفهم على نحو ناضج، فتمنح الطفل أدوات المواجهة: النقد، التعبير، الفهم العاطفي، وقيمة الخطأ كجزء من التعلّم. وقد أكدت دراسة منشورة في "Journal of Adolescence"، أنّ الأطفال الذين نشأوا في بيئة داعمة (لكن غير متساهلة)، كانوا أكثر قدرةً على اتخاذ القرار بثقة، وأقل عرضةً للسلوكيات المندفعة.
إنما حين تتحول التربية الحديثة إلى تدليل دائم، دون حدود واضحة، فإنها تخلق كائناً هشّاً، يعتقد أنّ العالم موجود لتلبية رغباته، وأنّ الحب غير مشروط بأي مسؤولية. فالأمر لا يتعلق بالمال وحده، ولا بأسلوب التربية فحسب، بل بالتكامل بينهما: طفل فقير يتلقى تربيةً داعمةً يعني شخصاً شديد الصلابة. وطفل غنيّ يتلقى تربيةً عقلانيةً غير مفرطة في الحماية يعني شخصاً واثقاً بنفسه دون غطرسة.
هذه المعادلات ليست نظريات فحسب، بل نراها كل يوم في الشارع، وفي العمل، وفي الفن، وفي السياسة. نراها حين ينهار ابن عائلة ثرية لأنه رُفض من وظيفة، وحين يتحمّل ابن الحي الفقير إهانةً ليُكمل طريقه. ونراها حين ينسحب مراهق غني من المدرسة لأنّ معلمه لم يمدحه كفاية، بينما يصمت آخر فقير برغم تعرّضه للتمييز، لأنه يعرف أنّ فرصته الوحيدة هي أن يبقى.
وما يحسم الأمر في النهاية، ليس المال، ولا طريقة التربية، بل: هل شعر الطفل بالأمان حين فشل؟ هل وجد من يحترمه لا من يخيفه؟ هل تعلّم أنّ الحياة لا تعني الفوز فحسب، بل المحاولة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Thabet Kakhy -
منذ 3 أيامسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياميا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ أسبوعA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ أسبوعترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!