عكست السينما المصرية في الكثير من أفلامها، الأوضاعَ الاجتماعية والأنساق السياسية في فترات مختلفة، وكان الوضع الطبقي في مصر في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، ثابتاً نسبياً على نحو تتربع فيه الأرستقراطية الزراعية وشريحة محددة العدد من البرجوازية الصناعية والتجارية والمالية الكبيرة، على قمة الهرم الاجتماعي، وتقبع الغالبية العظمي من المصريين من العمّال الزراعيين وصغار المزارعين في قاع المجتمع.
وبرغم أن الحواجز الفاصلة بين الطبقات، قبل ثورة تموز/يوليو 1952، كانت قد بدأت بالتفكك والتآكل كما يذكر جلال أمين، في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟"، ناصرت أعمال سينمائية قليلة عملية التغيير والثورة على النظام الطبقي السائد. ولكن بعد نجاح ثورة تموز/يوليو، خاصةً بعد قوانين تموز/يوليو الاشتراكية عام 1961، ظهرت أفلام داعمة للثورة ولتذويب الفوارق بين الطبقات، ثم عندما كفّت الدولة في السبعينيات والثمانينيات يدها عن أصحاب الدخول العليا، وأعادت إلى أجزاء من الأرستقراطية الزراعية والرأسمالية التي ضربها عبد الناصر بعض امتيازاتها برفع الحراسات عنها وإطلاق حريتها في ممارسة الاستغلال الزراعي، وأطلقت حريتها في طرق أبواب جديدة للاستثمار، نجد أن السينما في جانب منها انتقدت تلك التغييرات في موجة أفلام عرّت سمات الانفتاح الاقتصادي، وكشفت الأثر المدمر لتلك التغييرات على الإنسان البسيط وابن الطبقة المتوسطة.
كان الوضع الطبقي في مصر في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، ثابتاً نسبياً على نحو تتربع فيه الأرستقراطية الزراعية وشريحة محددة العدد من البرجوازية الصناعية والتجارية والمالية الكبيرة، على قمة الهرم الاجتماعي، وتقبع الغالبية العظمي من المصريين من العمّال الزراعيين وصغار المزارعين في قاع المجتمع
ولكن من جهة أخرى، أنتجت السينما أفلاماً عادت إلى نمط أفلام الأربعينيات والخمسينيات وأوائل الستينيات، نفسه، في محاولة لتثبيت الحواجز الطبقية وعدّها قدراً من الخطر تغييره، بل من الحرام حتى الاقتراب منه مستندين إلى تفسيرهم النفعي للدين والمتوافق مع مصالح هذه الطبقات.
نرصد هنا بعض الأعمال السينمائية التي ربطت بين الفقر والسعادة وبين الثراء والتعاسة.
"لو كنت غني" (1942)... الفقر حشمة
هذا الفيلم هو أول أفلام المنتج أبو السعود الإبياري، ومن إخراج هنري بركات.
المشهد الأخير فيه يلخص مضمون الفيلم كله، وفيه خطبة عصماء للحلاق بشارة واكيم وهو يخاطب عمال المصنع: "أيام ما كنت حلّاق فقير زيكم كنت عايش سعيد بس ما كنتش مقدر السعادة دي، كانت مبادئ الشرف والإنسانية مالية قلبي وكنت أحنّ على الفقير لأني كنت فاهم حالته، لكن أعمل إيه، أراد ربنا أن ياخد روح الشحات ابن عمي، وبقيت غني عمت عينيا الفلوس ونسّتني الشرف والرحمة والشفقة؛ عرّفتني طريق الهلس والعربدة! وبعدين لفّت بيا الدنيا مرة تانية وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. اسمعوا مني نصيحة: أولاً اتّقوا شرّ الفلوس، وثانياً برضه اتقوا شرّ الفلوس! ثالثاً احمدوا ربنا على نعمة الفقر، لأن الفقر حشمة"!
"المليونير" (1950)... لا يجوز للفقير أن يصبح غنياً ولا للغني أن يفتقر
الفيلم مقتبس من قصة "الأمير والفقير" للكاتب الأمريكي مارك توين، سيناريو وحوار أبو السعود الإبياري.
في نهاية الفيلم يعود كلّ فرد إلى طبقته الاجتماعية، بل يتكفل عاصم الغني بحفل زواج جميز علي (سكّرة) خادمته في قصره، ويدرك الغني والفقير معاً معنى السعادة، فهي ليست في الفلوس ولكن في من يفهمك ويحبك ويكون من نسيجك الاجتماعي نفسه!
"مليون جنيه" (1953)... المال شرّ
في الفيلم، يعثر عمال بناء في بيت قديم على كنز يُقدَّر بمليون جنيه لملك لزمرد آغا، الذي اشترط أن تُقسّم تركته على الورثة، شرط أن تقوم "فلافل"، أقربهم إلى قلبه، بتوزيع التركة عليهم بمعرفتها، ولكن لأنهم لاهون، يبددون الثروة وتتسبب الثروة في أن تترك وفاء خطيبها!
وهكذا تجد فلافل أن الثروة كان لها أثر سلبي على الجميع، فتتبرع بها للجمعيات الخيرية، وهو المبدأ نفسه في الأفلام السابقة، فالمال شرّ لا بد أن نتّقيه، لأنه سيقودنا إلى الفساد والمجون.
"الفانوس السحري" (1960)... يجب الحفاظ على الحواجز بين الرئيس والمرؤوس
في هذا الفيلم، يعثر مصطفى على مصباح سحري يخرج منه المارد ليحقق له رغباته، ثم تصبح أمامه أمنية واحدة. ولغرابة السيناريو لا تكون أمنيته الثراء أو أي شيء آخر جالب للسعادة، بل فقط أن يصفح عنه مديره وينسى الإساءة التي وجهها إليه، فحتى تلك الحواجز بين الرئيس والمرؤوس يحرص السيناريو على بقائها وتثبيتها!
الفانوس السحري فيلم مصري من تأليف أبو السعود الإبياري أيضاً، ومن إخراج فطين عبد الوهاب، وبطولة إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي.
القاسم المشترك بين هذه الأفلام كلها هو كاتب السيناريو والحوار أبو السعود الإبياري الذي يبدو أنه تخصص في تقديم هذه التيمة ببراعة، والمشترك الثاني هو إسماعيل ياسين.
"خاتم سليمان" (1947)... "الحمد لله على الفقر والجدعنة"
تتكرر التيمة نفسها في هذا الفيلم، فالعم بيومي الفقير يجد "خاتم سليمان"، وبواسطة المارد يتحول من فقير إلى غني، ويعيش في قصر كأي "باشا"، ويحاول أن يتقرب من ليلى، الشابة الجميلة، ولكنها تحب "محمود"، وهو شاب وسيم مثلها. وهنا يتغلب الحب على خاتم سليمان، فيكفر بيومي بالخاتم، ونرى كيف أنه كان سعيداً مع الفقر وتعيساً مع الثراء! ويؤكد صديق بيومي الذي عاد معه إلى الفقر عبارة "الحمد لله على الفقر والجدعنة"!.
الفيلم من إخراج حسن رمزي الذي شارك في السيناريو والحوار مع السيد زيادة، والبطولة فيه لزكي رستم وليلي مراد ويحيى شاهين.
"بنت الأكابر" (1953)... استخدام الدين لتبرير الفقر
يعود أبو السعود الإبياري ليعزف على الوتر نفسه لحن السعادة مع الفقر عينه في هذا الفيلم. وهكذا يتم التصريح برسالة الفيلم بكل مباشرة على لسان محامي الباشا الذي ينصح البطل أنور وجدي بأن يطلّق زوجته ليلى، بنت الأكابر، مستنداً إلى الشرع قائلاً: "الواجب على كل إنسان ما يتعداش الدرجة اللي وضعه فيها ربنا، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: 'وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، ولو شاء ربّكَ لَجعلَ الناسَ أمةً واحدة'، فإذا كان ده هو التشريع اللي وضعه ربنا، إزاي إحنا نتعداه ونجعله فوضى، والإنسان البسيط يتزوج واحدة مش من درجته؟! لا لا يا أنور أفندي؛ ده غلط، غلط شنيع، يقلب أوضاع المجتمع! يا أنور أفندي أنا أنصحك بكل بساطة تطلّق ليلي هانم، وبدون ضجة ولا شوشرة ولا إضرار بأي إنسان. عائلة ليلي هانم ناس أكابر وأنت مش قدهم. متهيألي أنت فاهمني".
ولعل هذا الفيلم هو أول فيلم يشرّع لوضع الحدود بين الطبقات على أساس من استلهام التشريع الديني القرآني ووضعه في عمل درامي، برغم أن نهاية الفيلم ربما حملت مفاجأةً؛ فالمحامي نفسه الذي دافع دينياً عن فوارق الطبقات، نراه يكفر بها ويواجه موكّله الباشا بأنه يعيش في زمن انتهى وعصر ولّى، وبأن أفكاره رجعية.
ثم تعاد صياغة المواقف دينياً أيضاً، فيستشهد عم ليلى بأن الرجل الفقير الذي يقف على جبل عرفات يمكن أن يستجيب الله له ولا يستجيب للغني. كما يؤكد سليمان نجيب، عم ليلى، للباشا زكي رستم، أن الله قال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولم يقل أغناكم! ثم يؤكد المحامي بلغة خطابية "أيها الناس أنتم الفقراء والله هو الغني". إذاً نحن جميعاً متساوون وفقراء، ويلعن أخو الباشا سليمان نجيب "الفلوس" قائلاً: "طز في فلوسك يا باشا. الله يلعن أبو الفلوس وأبو اللي اخترع الفلوس واللي بيحب الفلوس".
وهكذا يؤكد المحامي والعم للباشا أن لا فرق بين الناس، فنحن أمام الله متساوون، ومن نتاج هذه المواقف والخطب العصماء نجد الباشا يتحول 180 درجةً، ويطلب ليلى مستعطفاً وراجياً أن تبقى معه في القصر كزوجة لأنور، ويؤكد أنه آمن الآن، فالزمن قد تغير، وأنه كان على خطأ بتمسكه بالعادات القديمة؛ فنحن في عصر لا يعترف باختلاف الطبقات، عصر الحرية، عصر المساواة والديمقراطية؛ فالناس جميعاً عند الله سواء. ولذلك فهو راضٍ عن هذا الزواج كل الرضا.
هذه النهاية المغايرة التي تختلف عن كل نهايات الأفلام سابقة الذكر، توضح تأثيرات حضور ثورة تموز/يوليو وذكاء الكاتب والسيناريست الذي استشفّ ما هو قادم وما سوف يتأكد بعد ذلك بقوانين تموز/ يوليو الاشتراكية، وكأنه استباق فنّي وفهم لإرهاصات ثورة تموز/وليو.
"كابوريا" (1990)... فضح لأخلاقيات الطبقة الثرية
تأتي معالجة فيلم "كابوريا" لثنائية الفقر والغنى والسعادة والتعاسة عام 1990، ليقدّم عصام الشماع سيناريو فاضحاً لأخلاقيات الطبقة الثرية، فقد اختلفت طبقة الأثرياء الصاعدة عن تلك التي كانت تقطن القصور في كل شيء، فبينما تبدو طبقة "الباشوات" والأثرياء قبل ثورة تموز/ يوليو تحمل قيماً محددةً على الرغم من ثرائها، إلا أنها لم تبلغ درجة السخرية والتلهي بالفقراء، كما فعلت سيدة القصر في "كابوريا"، حيث تُحضر "حسن هدهد" للتسلية به في مباريات ملاكمة توضع لها مراهنات، ثم تحاول العبث به ومعه، لإغاظة زوجها المليونير. وهي قيم تجنّبتها طبقة "الباشوات" قبل ثورة تموز/يوليو 1952، بل إن أقصى سخرية من قبل طبقة الباشوات تجاه الفقراء نجدها في فيلم "غزل البنات" (1951)، عندما كان يخطئ الباشا في اسم المدرّس "حمام"، فيناديه تارةً "فراخ" وتارةً باسم طيور أخرى، ولكن لم تصل السخرية إلى حد تحويل الفقراء إلى طعام "للقزقزة" مثل كابوريا.
وتنتهي نهاية فيلم "كابوريا" لخيري بشارة نهايةً تبدو مشابهةً لنهايات أفلام الأربعينيات والخمسينيات، فكل من الفقير والغني يعود إلى عالمه، فقد كان اللقاء مجرد صدفة عابرة، فيدرك حسن هدهد ورفاقه أن الوصول إلى الأولمبية لن يمرّ عبر قصر هذه الطبقة "التافهة الفارغة" التي لا تشعر بأي مشاعر سوى الملل من كل شيء!
"جري الوحوش" (1987)... نظرية متولي الشعراوي
يوضح الفيلم الصراع بين الدين والعلم، وضرورة تقبّل الإنسان لقدره والرضا برزقه، وعلامات السعادة الثلاثة: المال، البنون، والصحة.
الفيلم يتبنى نظرية الشيخ محمد متولي الشعراوي، وهي النظرية التي شرحها المحامي عبد الحكيم (حسين الشربيني) في الفيلم، ومفادها أن الله وزّع الأرزاق على البشر بطريقة لا يعلمها إلا هو، ولكن المؤكد هو أن الله وهب كل إنسان رزقه كاملاً، وقد تم توزيع هذا الرزق بشكل مختلف، إما في المال أو البنين أو الصحة أو العمل أو الزوجة الصالحة! فلدينا رجل سعيد غني جداً ولكنه لم ينجب طوال 20 سنةً من زواجه، ويحب زوجته، فيقوم صديقه الطبيب، بعرض إجراء جراحة، ونقل جزء من الغدة النخامية من متبرع قوي ولديه خصوبة، ويقع الاختيار على المنجد عبد القوي شديد.
أنتجت السينما أفلاماً عادت إلى نمط أفلام الأربعينيات والخمسينيات وأوائل الستينيات، نفسه، في محاولة لتثبيت الحواجز الطبقية وعدّها قدراً من الخطر تغييره، بل من الحرام حتى الاقتراب منه مستندين إلى تفسيرهم النفعي للدين والمتوافق مع مصالح هذه الطبقات
وبعد مساومات وابتزاز، يوافق الأخير على أن يجري الجراحة مقابل مليونَي جنيه، وهي ثروة طائلة وقتها. ولكن تفشل العملية ويحاول عبد القوي أن يجد متبرعاً يعيره جزءاً من الغدة النخامية التي بسببها فقد قدرته الجنسية، بينما أصيب سعيد المتبرع بالشلل. وينتهي الفيلم على طريقة أفلام الأربعينيات والخمسينيات، ويستشهد بالآية القرآنية التي تحذّر من محاولة تغيير الأقدار، فبعد أن أصيب عبد القوي بالجنون وسعيد بالشلل، تكون الآية القرآنية نهايةً للفيلم: "ومن يبدل نعمة الله بعد أن جاءته، فإن الله شديد العقاب". فكأن فقر عبد القوي قدر لا يجب تغييره، تماماً كَعُقم سعيد بك. وتتكرر الحكمة القديمة بأن الفقير كان في نعيم والغني أيضاً، ولكن الجحود هو الكارثي وعدم حمد الله على نعمه.
هنا يثور تساؤل حول نظرية الشعراوي، وحول كل نظرية تريد أن تبرر الفقر وتلغي التوزيع العادل للثروات، كما تلغي دور الدولة في حماية الفقراء والمساواة بين المواطنين.
الأخطر من الفقر هو محاولة تسويقه وتبريره، وإقناع الفقير بأن هذا الوضع المأساوي هو الأفضل له، وهو قدر لا يجب أن يغيّره، بل إن محاولة تغييره ستجرّ عليه ويلات أعظم، حيث يتبادل عاصم الثري وضعه مع شبيهه "جميز" الفقير، هرباً من جريمة قتل تورط فيها. ولكن جميز لا يُقبل على حياة الترف، ولا يستغل كل الفرص المتاحة له، ومنها زوجة عاصم الجميلة، بل يقع في حب الخادمة التي تنتمي إلى طبقته الاجتماعية الحقيقية، فالفقير يجب أن يحب الفقيرة والغني الغنية!
نحن أمام أسرة فقيرة كانت سعيدةً ومتماسكةً وتحولت إلى الثراء، فأحاطت بها الخطايا والتعاسة، والحل يأتي عندما يفيق ربّ الأسرة من النوم ليكتشف أن كل ذلك كان حلماً وكابوساً وهم ما زالوا فقراء جداً وسعداء جداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...