تسامح مع التصوف وتحدّث عن فناء نار الجحيم… الوجه الآخر لابن تيمية

تسامح مع التصوف وتحدّث عن فناء نار الجحيم… الوجه الآخر لابن تيمية

في العقود الأخيرة، ومع صعود تيار الإسلام السياسي، ارتبط اسم الفقيه أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت. 728هـ) بالتطرف والأحكام الفقهية الأكثر تشدداً. في هذا السياق، نسبت الجماعات الإسلامية (الجماعة الإسلامية، والقاعدة، وداعش) العديدَ من الفتاوى المتطرفة لابن تيمية. تنوعت تلك الفتاوى بين الدعوة لقتال غير المسلمين، وتكفير الأنظمة السياسية التي لا تطبق الشريعة الإسلامية، واضطهاد أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية. في هذا المقال، نلقي الضوء على الوجه الآخر لابن تيمية. والذي يُظهر الجانب المتسامح في سيرة الفقيه الحنبلي المُثير للجدل، والذي سماه الكثير من الفقهاء "شيخ الإسلام".

من هو ابن تيمية؟

ولد أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في سنة 661هـ في مدينة حران الواقعة في الجزيرة الفراتية. في السابعة من عمره اضطر إلى السفر بصحبة أسرته إلى دمشق، وذلك بعدما أغارت القوات المغولية على منطقة حران. في دمشق، بدأ ابن تيمية في تلقي العلوم الدينية. فدرس الفقه الحنبلي على يد أبيه. وبعد سنوات معدودة، تصدى للتدريس والفتوى، واشتهر بين الناس، حتى صار واحداً من أشهر علماء دمشق.

عُرف ابن تيمية بدفاعه المستميت عن الأفكار السنية الأرثوذكسية. في هذا السياق، تصدى للعديد من التيارات الدينية والكلامية والفلسفية المخالفة للمنهج السني. من أهم تلك التيارات: الأشاعرة، والمعتزلة، والشيعة، والنصيرية. وقد سجل ابن تيمية أفكاره في مجموعة من الكتب المهمة، ومنها على سبيل المثال "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية"، و"العقيدة الواسطية"، و"درء تعارض العقل والنقل"، و"الرسالة التدمرية"، و"الفتوى الحموية"، و"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".

ارتبط اسم ابن تيمية بالتطرف والأحكام الفقهية الأكثر تشدداً، ونسبت الجماعات الإسلامية العديدَ من الفتاوى المتطرفة له، تنوعت بين الدعوة لقتال غير المسلمين، وتكفير الأنظمة السياسية التي لا تطبق الشريعة الإسلامية

لم يكتف ابن تيمية بالكتابة فقط، بل شارك أيضاً في بعض المعارك المهمة في زمنه، ومنها معركة شقحب ضد القوات المغولية الإيليخانية في سنة 702هـ، والحملة المملوكية على كسروان في سنة 705هـ. في سنة 728هـ، أُسدل الستار على سيرة شيخ الإسلام بعدما توفي في محبسه بقلعة دمشق عن عمر بلغ السابعة والستين عاماً، ودفن بجوار أخيه شرف الدين عبد الله في مقابر الصوفية.

في المسائل العقائدية

ظهرت نزعة التسامح في فكر ابن تيمية في العديد من المسائل الجدلية العقائدية التي ثار حولها النقاش في زمنه. من تلك المسائل مسألتي تكفير المعيّن، والقول بفناء النار.

بشكل عام، شهد عصر ابن تيمية نقاشاً موسعاً حول مسألة تكفير المعين، أي تكفير شخص محدد. وكان السبب في ذلك الخصومة الشديدة التي اندلعت بين العديد من الفرق الإسلامية، بسبب الخلاف حول بعض العقائد والأفكار.

رفض ابن تيمية التساهل في تكفير المعيّن. ورأى أن ذلك قد يتسبب في فتح الباب أمام الفتن التي قد تزعزع المجتمع الإسلامي. في هذا المعنى، انتقد ابن تيمية المتساهلين في تكفير المعين ووصفهم بأنهم "لم يتدبّروا أن التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حقّ المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العموميات لم يكفِّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه". على الجانب الأخر، وضع ابن تيمية مجموعة من القواعد للقول بتكفير جماعة ما. وجعل "العذر بالجهل" أحد الأسباب التي تمنع التكفير، فقال: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة".

يُعدّ القول بفناء النار هو المسألة العقائدية الثانية التي توضح نزعة التسامح في فكر ابن تيمية. رفض الفقيه الشامي ما ذهب إليه جماهير العلماء المسلمين بالقول بأن: النار خالدة، ورأى أنه من غير المنطقي أن يُعذب الإنسان بشكل أبدي لا نهائي، على ذنب فعله لعدد من السنوات في الدنيا. بناء على ذلك، واعتماداً على بعض الآثار المنسوبة لكل من عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري. قال ابن تيمية: "أنه -أي الله- أخبر بما يدل على أنه -يقصد العذاب في النار- ليس بمؤبد في عدة آيات. وقال: النار لم يذكر فيها شيء يدلّ على الدوام. وقال: إن النار قيدها بقوله: 'لابثين فيها أحقابا' وقوله:'خالدين فيها إلا ما شاء الله' وقوله: 'ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك'. فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة، أو معلقة على شرط". وهكذا، انتصر شيخ الإسلام لمعنى العدالة في تلك المسألة، لأنه رأى أن الله أعدل أن يقضي بعقاب لا ينتهي على ذنب وقع لزمن معين.

في المسائل الفقهية

عُرف ابن تيمية بالعديد من الفتاوى الفقهية المخالفة للمذاهب الفقهية الأربعة المعتمدة، والتي راعى فيها شيخ الإسلام تحقيق المصلحة المجتمعية حتى لو خالفت المذاهب الفقهية السابقة له. تُعدّ فتاوى الطلاق من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق.

ظهرت نزعة التسامح في فكر ابن تيمية في العديد من المسائل الجدلية العقائدية التي ثار حولها النقاش في زمنه. من تلك المسائل مسألتي تكفير المعيّن، والقول بفناء النار.

قبل زمن ابن تيمية، كان من المعروف أن الرجل إذا طلق زوجته بالثلاث دفعة واحدة، لفظاً أو إشارة، فإن الطلاق يقع كثلاث طلقات مكتملة، ولا تحل المُطلقة لطليقها بعد ذلك إلا بعد أن تتزوج بشخص أخر ثم تُطلق منه. رفض ابن تيمية هذا الرأي، وذهب إلى أن الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، لفظاً أو إشارة، لا يقع إلا طلقة واحدة.

في السياق نفسه، قال ابن تيمية بعدم وقوع طلاق السكران، لأنه لا يدري ما يقول عندما يذهب عنه عقله حال سكره. كذلك فرق ابن تيمية بين إرادة الطلاق والحلف بالطلاق، فذكر أن الحلف بالطلاق لا يقع إذا كان الحالف لم يقصد وقوعه، وقال بأن الحالف يلزمه عندها كفارة يمين فقط.

تسببت تلك الفتاوى في اشتعال غضب الفقهاء ضد ابن تيمية، حتى صدرت الأوامر بسجنه في سنة 720هـ. برغم ذلك، تمكنت تلك الفتاوى من البقاء على مرّ القرون، وفتحت الباب أمام التغلب على العديد من المشكلات الزوجية التي تقع من وقت إلى آخر.

في العصر الحديث، أخذت العديد من القوانين العربية باجتهاد ابن تيمية في مسائل الطلاق؛ على سبيل المثال نصت المادة الأولى من القانون المصري رقم 25 لسنة 1929، المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985، بأن طلاق السكران لا يقع. كما نصت المادة رقم ثلاثة من القانون نفسه أن طلاق الثلاث دفعة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة.

من ضمن الاجتهادات الفقهية المهمة لابن تيمية، القول بإجازة إخراج زكاة الفطر نقداً إن دعت مصلحة الفقير إلى ذلك، وذلك على العكس من رأي جماهير الفقهاء الذين اشترطوا إخراجها في صورة حبوب. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى معبراً عن الخلاف في المسألة: "وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع: هل يجوز مطلقاً؟ أو لا يجوز مطلقاً؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة، أو المصلحة الراجحة؟ على ثلاثة أقوال. في مذهب أحمد وغيره. وهذا القول أعدل الأقوال"، يعني القول الأخير. وقال في موضع آخر: "وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك، فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز، وعند أبي حنيفة يجوز، وأحمد -رحمه الله- قد منع القيمة في مواضع، وجوزها في مواضع، فمن أصحابه من أقر النص، ومنهم من جعلها على روايتين. والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه... إلى أن قال رحمه الله: 'وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به'".

عُرف ابن تيمية بالعديد من الفتاوى الفقهية المخالفة للمذاهب الفقهية الأربعة المعتمدة، والتي راعى فيها شيخ الإسلام تحقيق المصلحة المجتمعية حتى لو خالفت المذاهب الفقهية السابقة له. تُعدّ فتاوى الطلاق من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق

من الأمور الغريبة التي تستدعي الملاحظة، أن الأغلبية الغالبة من التيارات السلفية المعاصرة، والتي تدعي انتسابها لابن تيمية، ترفض إخراج زكاة الفطر في صورة أموال، وترى حتمية إخراجها في صورة حبوب!

أيضاً، تُعدّ مسألة شهادة المرأة من بين المسائل الفقهية التي تعبر عن نزعة التسامح في فكر ابن تيمية. تعتمد الآراء الفقهية التقليدية على ما جاء في الآية رقم 282 من سورة البقرة في الحكم بأن شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرجل في جميع الأمور المختصة بالأموال والدين. كذلك، اعتمد الفقهاء على بعض الأحاديث والآثار فرفضوا قبول شهادة النساء في جميع الجرائم التي تُطبق فيها الحدود، كما قالوا كذلك بعدم جواز قبول شهادة النساء في عقود الزواج اعتمادًا على حديث "لا نكاح إلا بِوَليّ وشاهدي عدل". رفض ابن تيمية متابعة من سبقه من الفقهاء في القول بتلك الآراء. إذ أجاز قبول شهادة النساء في الحدود والدماء إذا ما اجتمعن في حفلات الزفاف والحمامات لأن تلك الأماكن لا يتواجد فيها الرجال عادةً، وإذا ما وقعت جريمة ما في تلك المواضع لم يكن من شاهد عليها سوى النساء الحاضرات.

موقفه من التصوف

اشتهر ابن تيمية بعدائه لبعض التيارات الصوفية الفلسفية الرائجة في زمنه، ومن ذلك التيار المنسوب للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت 638هـ)، والتيار المعتمد على أفكار الحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ)، وشهاب الدين السهروردي (ت 587هـ). رغم ذلك، تسامح ابن تيمية إلى حد بعيد مع فلسفة التصوف السني الذي كان رائجًا إلى حد بعيد في العديد من مناطق العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري. حتى ذكرت بعض الروايات أن ابن تيمية كان واحداً من الصوفية. على سبيل المثال، نقل جمال الدين يوسف بن عبد الهادي (ت 909هـ) في كتابه "بدء العلقة بلبس الخرقة" عن ابن تيمية قوله: "لبِستُ خرقة التصوف من طرق جماعة من الشيوخ، منهم الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي تعتبر طريقته أعظم الطرق وأشهرها".

من جهة أخرى، اهتم ابن تيمية بكتابة بعض الكتب للدفاع عن التصوف السني. ففي كتابه المسمى "الصوفية والفقراء" تحدث شيخ الإسلام عن قسم كبير من المتصوفة، فقال: "إن طائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة... والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب".

كذلك، أثنى ابن تيمية في كتبه على طائفة من مشايخ الصوفية المشاهير، من أمثال السري السقطي (ت 253هـ) والجُنيد البغدادي (ت 298هـ)، وعُدي بن مسافر (ت 557هـ)، وعبد القادر الجيلاني (ت 561هـ)، حتى أنه -أي ابن تيمية- قد اهتم بشرح رسالة "فتوح الغيب" للجيلاني، وأفرد مساحة للتعليق عليها في مصنفاته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image