يرى كثيرون أن ابن تيمية كان خصماً عنيداً للتصوف، وعدواً لدوداً للصوفيّة بشكل عام، فيما يرى فريق آخر أنه كان مؤيداً للتصوف ومدافعاً عنه. لكن هذه النمطية المشهورة، هي عكس ما نجده في كتبه، فهو لم يؤيد التصوف تأييداً مطلقاً لا نقاش فيه، كما أنه لم يرفضه كله، بل عارض الفريقين: المادحين والقادحين، واتخذ موقفاً مختلفاً عنهما.
واستخدم ابن تيمية كثيراً في مصنفاته مصطلح: "أصحاء الصوفيّة"، و"السَّالِكُونَ المُرِيدُون"، فهو يرى أن هناك "تصوفاً مشروعاً"، وتالياً لم يحكم على الصوفيّة حكماً واحداً شاملاً لجميع فرقهم، بل تبنّى منهجاً خاصاً في التعامل مع التصوف، ولذلك اختلف تقييمه من اتجاه صوفي إلى آخر.
السلف والخلف... موقف السلفية المعاصرة من الصوفيّة
اليوم، نجد أن أكثر المشنّعين على التيار الصوفي والمنتقدين له، هم من السلفيين المعاصرين الذين يزعمون أنهم ينحازون إلى كتابات السلف ومدرستهم ويرفعون لواءها. لكن المتأمل في رأيهم وموقفهم من التصوف وأهله وأفكاره وطرقهم، يجد أنه اتسم بالعداوة المطلقة جملةً وتفصيلاً، والهجوم على الصوفيّة بشكل عام، من خلال التعميم في الحكم عليها، ومن دون التفريق بين اتجاهات التصوف المختلفة، إذ نفوا وجود حتى تصوف معتدل مقبول، وأحياناً وصل بهم الأمر إلى انتفاء أي أساس أو أصل شرعي للتصوف، وقطع أي صلة تربطه بالبيئة الإسلامية، بالإضافة إلى رمي الصوفية بكل نقيصة، وجعلها في طائفة أهل البدع، وأخطر عدو للإسلام والمسلمين، فضلاً عن تحميلها كل أوزار الضلال والانحراف، حسب ما يعرض أحمد قوشتي، في كتابه "نقد التصوف/ السلفيون والمتصوفة في مصر".
هذا الموقف السلفي المعاصر معارض لموقف العديد من متقدمي أئمة السلفية، الذين كان موقفهم من التصوف ليّناً متسامحاً إذا ما قارنّاه بالمعاصرين، فضلاً عن أنهم لم يصدروا حكماً بالقبول القاطع المطلق، أو حتى المعارضة والرفض، بل عدّوا التصوف ذا اتجاهات وأفكار متعددة، ولهذا سلك الكثيرون منهم مسلك التوسط بين القبول والرفض، وعلى رأسهم الرمز ابن تيمية.
لكن مدرسة السلفية الحديثة أخذت منحى مغايراً، وقرأت ابن تيمية بشكل مجتزأ، ولم تفهم أفكاره في سياقها كما هي، مما انعكس على شخصيته سلباً، خصوصاً أن الكثيرين يبنون رأيهم فيه استناداً إلى تنظيرات أتباعه.
ويمثّل اتجاه العداوة الشديدة تجاه الصوفية سلفيون كثر، لعل أبرزهم: الدكتور محمد جميل غازي الذي يرى أن التصوف بمثابة الوباء القاتل، والداء العضال الذي منيت به الأمة، ثم يعقب في تقديمه لكتاب ابن تيمية، "الصوفية والفقراء"، بقوله: "من الصوفية خرجت الزندقة والهرطقة والسفسطة والمروق والفسوق".
أما الشيخ عبد الرحمن الوكيل، فقد وصل في هجومه على الصوفية إلى أقصى حد يمكن تصوره، فوصفها بأنها "ردغة ضلالات، وحمأة زندقات، وهي في دعواها أنها تمثّل الروحانية، إنما تمثل الحقيقة المادية الصماء... فلتعرف الصوفية أنها شيوعية، وأنها صهيونية، وأنها صليبية، وأنها مجوسية، وأنها برهمية، وأنها بوذية ثانوية"، حسب ما يذكر أحمد قوشتي في كتابه المذكور.
أيضاً، يقول الشيخ صالح الفوزان، إن "الصوفية في الأصل هي الاجتهاد في العبادة. هذا أصلها، ولكنها ازدادت بعد ذلك ووصلت إلى الإلحاد والشرك، ويرى الشيخ عبد الله القصير أن الصوفيّة زنادقة ملاحدة.
ثمة اختلاف كبير في تقييم التجربة الصوفية بين المتقدمين والمتأخرين، ويمكن ملاحظة ذلك بالرجوع إلى مواقف ابن تيمية من التصوف وشيوخه. فحتى نقده للهروي والغزالي، اختلف عن نقده لابن عربي وابن سبعين، وهو ما يدل على أن ابن تيمية لم يتبنَّ نظرةً واحدةً تجاه الصوفية، على عكس النظرة والعداء المستحكم في نفوس العديد من أتباعه اليوم.
ويبدو واضحاً أن ابن تيمية عكف أولاً على مؤلفات الصوفيّة، ليدرسها ويناقشها، ولذلك يقول في كتابه "مجموع الفتاوى": "وقد رأيت منهم ومن كتبهم؛ وسمعت منهم وممن يخبِر عنهم من ذلك ما شاء اللَّه". وعليه خرج من دراسته للصوفيّة بتقييم معيّن لم يخفِ فيه ميلاً نحو اتجاهات معيّنة في التصوف، أما الاتجاه الفلسفي من الصوفيّة، والذي يسميه بـ"صوفية الملاحدة الفلاسفة"، فقد رفضه بشدة، ولم يقبل به.
نشأة التصوف بحسب ابن تيمية
يبدأ الجدل من المصطلح والأصل الذي اشتُقت منه كلمة الصوفية، ففي حين يرى البعض أن التصوف راجع إلى الصفاء الروحي، يرى فريق ثانٍ أن الصوفيّة راجعة إلى أهل الصوفة، وهم من الفقراء المهاجرين الذين كانوا يسكنون صُفّة المسجد في المدينة المنورة.
لكن ابن تيمية بعدما بحث في علّة التسمية وأصلها، أرجع نسبة التصوف إلى الصوف الذي لبسه الزُهّاد قديماً من باب التقشف والتقليل من الدنيا، والتدقيق الشديد في محاسبة النفس. يقول في "مجموع الفتاوى": "في أثناء المائة الثانية، صاروا يعبّرون عن ذلك -أي عن الزهد- بلفظ (الصُّوفِي)؛ لأنَّ لبس الصوف كَثُر في الزُّهَّاد". ويحكي أن بعض المسلمين الأوائل اهتموا بمفهوم الزهد، واستغرقوا في مكنونه، لذلك يرى أن بداية التصوف جاءت من عند الزُهّاد الأوائل، كما أنه يشير إلى أن المتصوفة في البداية لم يوجبوا ارتداء لبس الصوف، لكنهم اشتهروا بارتدائه فأخذوا اسمهم من ذلك.
مدرسة السلفية الحديثة قرأت ابن تيمية بشكل مجتزأ، ولم تفهم أفكاره في سياقها كما هي، مما انعكس على شخصيته سلباً، خصوصاً أن الكثيرين يبنون رأيهم فيه استناداً إلى تنظيرات أتباعه
ثم يتحدث عن أن أول ظهور للتصوف كان في البصرة، فيقول: "أوّل ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأوّل من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وهو من أصحاب الحسن. وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار، ولهذا كان يُقال: فِقهٌ كُوفِيٌّ وعِبادةٌ بَصرية".
ويُعرّف ابن تيمية "الإنسان الصوفي" فيقول عنه: "هو في الحقيقة نوع من الصّدّيقين، فهو الصّدّيق الذي اختصَّ بالزُّهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه"، ويرى أن الصوفي شخص اجتهد في طريقه مثلما اجتهد من سلك طريق العلم والفقه. لكن ليس جميع الصوفيّة يدخلون في هذا التقييم.
أقسام الصوفية عند ابن تيمية
قد يكون تقسيم ابن تيمية للصوفيّة نابعاً من الظرف التاريخي الذي وُجدوا فيه، والذي كان مليئاً بالأحداث الجسام، ويعجّ بالتيارات السياسية العنيفة، بالإضافة إلى أن الفرق الصوفية في عصره كانت تتمتع بنفوذ كبير، واستوطنت بلاط السلطة السياسية. ويقسم ابن تيمية، في "مجموع الفتاوى"، الصوفية إلى أربعة أصناف:
1- صُوفِيَّةُ الحقائق: وهم الزهاد والعباد، ولا يرى أن هناك مشكلةً معهم، لأنهم برأيه اجتهدوا في سلك السبيل الصحيح، ويعقب: "الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله تعالى كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله".
2- صُوفِيَّةُ الأرزاق: وهم الذين وُقِفت عليهم الوقوف، كالخوانك، وأيضاً لا يرى أن هناك مشكلةً معهم ما داموا يؤدّون الفرائض ويجتنبون المحارم ويتأدبون بآداب أهل الطريق.
3- صُوفِيَّةُ الرسم: وهم الذين يهتمون بالمظهر الخارجي، ويتشبهون بالصوفية في الظاهر فقط، لكنهم في حقيقتهم خارجون عن طريقهم. ويلفت ابن تيمية النظر هنا إلى ظاهرة عايشها بنفسه، هي ظاهرة الازدواج بين حقيقة الزُهّاد والصوفية، ويذهب إلى أن بعض المتصوفة حوّلوا التصوف إلى مظاهر كهنوتية واستغلالية، فتستروا بستار الولاية، وجعلوا من طريق الزهد والعرفان أداة غش ومطامع، لذلك عارض هذا الاتجاه بسبب ما عدّه تلبيساً على الناس، كما عارض قول المتصوفة بأنهم من أولياء الله.
4- صوفية الملاحدة الفلاسفة: وهم الذين بنوا أصولهم على قواعد الفلسفة، مثل الحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، والسهروردي، وهذا الاتجاه هو أكثر ما شغل ابن تيمية، ووصل في نقدهم إلى وصفهم بالزندقة والإلحاد.
اختلاف الطوائف من التصوف
يحكي ابن تيمية أن الناس انقسموا في الحكم على الصوفية إلى طائفتين: الأولى نقمت على التصوف وذمّت الصوفيّة، وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنّة، وهؤلاء أكثرهم من أهل الفقه والكلام؛ والثانية طائفة انفصلت عن الفقهاء والمحدثين واتخذت لنفسها طريقاً صوفياً، ثم ادّعى أفرادها أنهم من أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وأن طريقتهم هي أفضل الطرق إلى الله.
ينتقد ابن تيمية موقف الطائفتين، فبرأيه "فيهم (الصوفيّة) السابقُ المقرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المُقتَصِدُ الذي هو من أهل اليمين، وفي كلٍ مِن الصِّنفَين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يُذنِبُ فيتوب أَو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالمٌ لنفسه عاصٍ لربّه".
خرج ابن تيمية من دراسته للصوفيّة بتقييم معيّن لم يخفِ فيه ميلاً نحو اتجاهات معيّنة في التصوف، أما الاتجاه الفلسفي من الصوفيّة، والذي يسميه بـ"صوفية الملاحدة الفلاسفة"، فقد رفضه بشدة، ولم يقبل به
وهذا يبيّن أن ابن تيمية لم يشنّع على عموم الصوفيّة بالإطلاق، وإنما جعل الحكم عليهم بحسب أحوالهم. فمن المعلوم أن الصوفية ليست اتجاهاً واحداً، ولم تظهر دفعةً واحدةً في أمصار الإسلام، وإنما تشعبت وتنوّعت ومرت بأطوار عديدة، لكن اللافت للنظر أن "شيخ الإسلام" انتقد بعض الفقهاء الذين عابوا على الصوفيّة وطريقهم، والعكس أيضاً، فيقول في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم": "وأنت تجد كثيراً من المتفقهة، إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئاً، ولا يعدهم إلا جهالاً ضلالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، وترى كثيراً من المتصوفة، والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئاً، بل يرى المتمسك بها منقطعاً عن الله، وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً"، ويعقّب: "وإنما الصواب أن ما جاء به الكتاب والسنّة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنّة من هذا وهذا: باطل".
وبالرغم من الاختلاف وتباين الآراء حول الصوفية، إلا أن ابن تيمية ركّز على المضمون أكثر من المسميات، وجعل وجه التفرقة، بمدى توافق الطرق الصوفية مع منهجه الخاص الذي وضعه، فمثلاً يقول في "مجموع الفتاوى": "وأعمال القلوب التي يسمّيها بعض الصوفيَّة أحوالاً ومقامات، أو منازل السائرين إلى اللَّه، أَو مقامات العارفين، أو غير ذلك، كلّ ما فيها ممّا فرضه اللَّه ورسوله، فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أَحبّه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحَب".
وفي موضع جوابه عن المنازعة والمقارنة بين الصوفي والفقير، وأيهما أفضل، يقرّ بأنه إذا كان الصّوفيُّ أتقى لله كان أفضل من الفقير، ثم يعقب: "وأولياء اللَّه: هم المؤمنون المتَّقون، سواءٌ سمِّيَ أحدهم فقيراً، أو صوفيّاً، أو فقيهاً، أو عالماً، أو تاجراً، أو جنديّاً، أو صانعاً، أو أميراً، أو حاكماً، أَو غير ذلك".
لكن اللافت هو ثناء ابن تيمية وتقديره لبعض مشايخ الصوفية، إذ وصفهم بالمستقيمين المتّبعين للكتاب والسنّة، مثل: الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وغيرهم. ويعقّب في كتابه "الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق": "والصوفية المتبعون لهم هم صوفية أهل السنّة والحديث". كما أنه يرى أن من سلك مسلك الإمام الجنيد من أهل التصوف والمعرفة اهتدى ونجا وسعد، ولذلك يقول في "مجموع الفتاوى": "وأما أئمّة الصوفيَّة والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأَمثاله، فهؤلاء من أَعظم الناس لزوماً للأَمر والنهي".
التصوف الذي نقم عليه ابن تيمية
أكثر مجادلات ابن تيمية مع التصوف، كانت مع بعض المظاهر لدى الفرق الصوفية، وخاصةً ما يسميه بخوارق العادات، مثل المغالاة في المعجزات، وطلب المدد من الأموات، وتضخم فكرة الكرامات البعيدة عن نطاق الحس والعقل، والتمرغ عند القبر، وتقديس الأضرحة، والدعاء والاستغاثة بغير الله، والمبالغة في تصوير حاجة المريد إلى الشيخ، ولباس الخرقة والمرقعات، وخاتم الأولياء، والاستغراق في الخلوة وفي فكرة الإلهام والفناء، وجعل الجوع والسهر طريقاً لنيل المعارف، وأيضاً جلسات السماع وما يصاحبها من التمايل والرقص والضرب بالدفوف، ثم كلام بعض الفرق الصوفية عن الولاية، ورفع منزلتها فوق منزلة النبوة، إلى حد وصل إلى تفضيل مشايخ الصوفية على النبي، بحسب وصف ابن تيمية.
ويقول: "فكلّ من غلا في حي، أو في رجلٍ صالح... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، فكل هذا شِركٌ وضلال... وجُهّال القدرية، والأحمدية، واليونسية، قد يُفضّلون شيخهم على النبي أو غيره من الأنبياء، وربَّما ادَّعوا في شيخهم نوعاً من الإلهية، وكذلك طائفةٌ من السعدية يفضّلون الولي على النبي".
يرى ابن تيمية أن التصوف الفلسفي ظهر بسبب ترجمة كتب الفرس والروم والهند، وأخذ في التلون والتشكل من كافة الثقافات والاتجاهات، ودخلت إليه مصادر التلقي المسيحية واليهودية، فأنتج تصوفاً لم يعتمد في مصادر تلقّيه على الكتاب والسنّة
أيضاً، عارض ابن تيمية فكرة المسميات الصوفية كالقطب، والولي، ونقيب الأولياء، وغيرها، ويعقب: "أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثيرٍ من النُّسَّاكِ والعامة، مثل: الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأَبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة؛ فهذه أسماءٌ ليست موجودةً في كتاب اللَّه تعالى؛ ولا هي أيضاً مأثورةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيحٍ ولا ضعيف".
رأى ابن تيمية أن هذه المظاهر والممارسات التي ينتقدها صرفت الناس عن اتّباع التصوف الحق. لكنه بالرغم من تبيانه ما في هذه الفرق من خلل وانحراف، بحسب ما يرى، لم يتعامل معهم بمبدأ أنهم شر مطلق، ويحكي أنه جلس مع الكثير من الفرق الصوفية، مثل: الأحمدية، والرفاعية، والبطائحية، وحاول ثنيهم عن المظاهر التي عارضها بشدة.
يقول: "وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بيّنت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حقٍ وباطل، وأحوالهم التي يسمُّونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وَأُدِّبَ منهم جماعةٌ من شيوخهم، وبيّنت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل مُلابسة النار والحيات، وإظهار الدم واللّاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسُّكَّرِ وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيلٍ معروفةٍ وأسبابٍ مصنوعة، وأراد غير مرَّةٍ منهم قومٌ إظهَار ذلك، فلما رأوا مُعارضتي لهم رجَعُوا، ودخلوا على أن أسترهم، فأَجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة".
وأكثر من انتقدهم ابن تيمية هم من سمّاهم الصوفيين الفلاسفة، كابن عربي وابن سبعين والسهروردي، بسبب تبنّي هذا الاتجاه لبعض المسائل مثل القول بوحدة الوجود، والحلول والاتحاد، وأيضاً ما يسميه ابن تيمية بفرقة الحلاجية، أي المنسوبين إلى الحلاج، واليونسية أي المنسوبين إلى يونس القنيي.
ويرى ابن تيمية أن التصوف الفلسفي ظهر بسبب ترجمة كتب الفرس والروم والهند، وأخذ في التلون والتشكل من كافة الثقافات والاتجاهات، ودخلت إليه مصادر التلقي المسيحية واليهودية، فأنتج تصوفاً لم يعتمد في مصادر تلقّيه على الكتاب والسنّة، وإنما بُني على أصول وقواعد الفلسفة وغيرها، وبرأي ابن تيمية، فإن التصوف الفلسفي هو طريق الفرق المخالفة، أو ملاحدة المتصوفة كما يسميهم.
ويقول: "وهؤلاء هم المتفلسفة الذين انتسبوا إلى التصوف، وهم في الحقيقة إنما يصوغون مبادئ ومذاهب فلسفية غريبة عن الإسلام، وسبق وجودها في أديان ومذاهب قديمة يونانية وبرهامية، فصاغوا كل ذلك بعبارات صوفية، فخرجوا بالتصوف إلى مزلق الكفر والإلحاد... وإن ابن عربي وأمثاله وإن ادّعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة وليسوا من صوفية أهل العلم".
بالرغم من موقفه الحاد تجاه التصوف الفلسفي، إلا أنه في مواضع عديدة يبرّئ بعض شيوخ الصوفية مما عدّها انحرافات لدى البعض الآخر. يقول في كتابه "درء تعارض العقل والنقل": "وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب -الحلول والاتحاد- وأبعدهم عنه، وأعظمهم نكيراً عليه وعلى أهله، وللشيوخ المشهورين بالخير، كالفضل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، وأبي عثمان النيسابوري، وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي، ويحيى بن معاذ الرازي، وأمثالهم، من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية ما لا يتّسع هذا الموضع لنشره".
الخلاصة أن موقف ابن تيمية من التصوف ليس كما صوّره أتباعه، وأيضاً ليس كما صوّره خصومه. ويلخص عبد الرحمن بدوي موقف ابن تيمية من التصوف، فيقول في كتابه "تاريخ التصوف الإسلامي": "والخلاصة إذاً أن ابن تيمية لا يهاجم التصوف بما هو تصوف، وإنما يهاجم ما جرى من انحرافات في نظره عن طريق التصوف الصحيح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...