شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
مبرّرات ابن تيمية في الدفاع عن سلطة دون أخرى… كيف نفهمها؟

مبرّرات ابن تيمية في الدفاع عن سلطة دون أخرى… كيف نفهمها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

عاش الفقيه ابن تيمية الحرّاني (المتوفى 728هـ)، في فترة تاريخية حرجة، هي فترة اجتياح المغول الخلافةَ العباسية وإسقاطها، قبل أن يتصدى لهم المماليك ويهزموهم في معركة عين جالوت سنة 658هـ.

اختار العديد من الفقهاء مساندة المماليك، في حين وقف بعضهم في صف المغول. كان ابن تيمية ممن أيّدوا الدولة المملوكية، وظهر ذلك في اشتراكه في العديد من المعارك معهم، كما أتضح أيضاً من خلال خطابه الدعوي المساند لهم. هنا يظهر السؤال المهم: لماذا اختار ابن تيمية التحالف مع المماليك دون المغول؟ كان المغول الإيليخانيون -الذين مثّلوا الثقل العسكري المعادل للثقل المملوكي في المنطقة- قد أسلموا في تلك الفترة، فلمَ يا تُرى آثر "شيخ الإسلام" أن يؤيد سلاطين المماليك الذين ظلموه وحبسوه، بينما أشاح بوجهه عن السلطان المغولي غازان خان الذي رحّب به وأجاب طلبه لمّا قابله في دمشق؟ نحاول في هذا المقال أن نجد إجابةً عن هذا السؤال، وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعض الفتاوى الشهيرة التي نُقلت عن شيخ الإسلام.

شيخ الإسلام من حرّان إلى دمشق

وُلد أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، في مدينة حرّان الواقعة في الجزيرة الفراتية في عام 661هـ. في السابعة من عمره سافر مع أسرته إلى دمشق، بعد أن أغار المغول على حرّان.

كان ابن تيمية ممن أيّدوا الدولة المملوكية، وظهر ذلك في اشتراكه في العديد من المعارك معهم، كما أتضح أيضاً من خلال خطابه الدعوي المساند لهم… لماذا اختار ابن تيمية التحالف مع المماليك دون المغول؟

لمّا كان ابن تيمية ينتمي إلى أسرة حنبلية مشهورة، فقد درس الفقه الحنبلي على يد أبيه، وفي سن مبكرة تصدّى للتدريس والفتوى، واشتهر بين الناس، حتى صار واحداً من بين أشهر علماء الشام في زمانه، وعُرف بلقب "شيخ الإسلام". صنّف ابن تيمية العديد من الكتب المهمة، منها على سبيل المثال، كلّ من "العقيدة الواسطية"، و"منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية"، و"درء تعارض العقل والنقل"، و"الرسالة التدمرية"، و"الفتوى الحموية"، و"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".

تعرّض ابن تيمية للحبس مرات عدة في حياته، في كلّ من دمشق والقاهرة والإسكندرية. وفي 728هـ، توفي في محبسه في قلعة دمشق عن سبعة وستين عاماً، ودُفن بجوار أخيه شرف الدين عبد الله في مقابر الصوفية.

في ميادين الحرب والسياسة

تؤكد المصادر التاريخية على الأدوار المهمة التي لعبها ابن تيمية على مسرح الأحداث السياسية في عصره. شارك شيخ الإسلام في الوقائع الحربية الكبرى في تلك الفترة التاريخية، كما اكتسب خطابه الدعوي الصفة السياسية في الكثير من الأحيان.

على صعيد العمل العسكري، تذكر بعض الأخبار أن ابن تيمية شارك سنة 690هـ، في معركة فتح عكا. يؤكد أبو حفص البزَّار، تلميد ابن تيمية (المتوفى 749هـ) في كتابه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية"، أن شيخه حارب الصليبيين في تلك المعركة، وتحدث عن بطولاته فقال: "يعجز الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره…".

في سنة 699هـ، حشد ابن تيمية أهل دمشق لقتال المغول، وخرج للقاء ملكهم غازان خان بعد أن انتصر على المماليك في معركة وادي الخازندار. تؤكد المصادر التاريخية أن شيخ الإسلام أقنع ملك المغول بإطلاق سراح الأسرى، وأن جهود ابن تيمية ساعدت كثيراً في تأمين دمشق من السلب والنهب والتدمير.

تواصلَ تأييد ابن تيمية للمماليك سنة 700هـ، عندما أصدر فتوى بإباحة قتال أهل جبال كسروان في لبنان. يختلف الباحثون في تحديد دين أهل كسروان ومذهبهم. يرى البعض أنهم كانوا من المسيحيين الموارنة واليعاقبة، ويرى البعض الآخر أنهم كانوا من العلويين أو الدروز أو الشيعة الإمامية الاثني عشرية.

يذكر ابن كثير (المتوفى 774هـ)، في كتابه "البداية والنهاية": "وفي يوم الجمعة العشرين من شوال ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسب فساد دينهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا؛ حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيراً منهم".

تؤكد المصادر التاريخية على الأدوار المهمة التي لعبها ابن تيمية على مسرح الأحداث السياسية في عصره. شارك "شيخ الإسلام" في الوقائع الحربية الكبرى في تلك الفترة التاريخية، كما اكتسب خطابه الدعوي الصفة السياسية في الكثير من الأحيان.

بعد سنتين فحسب، شارك ابن تيمية في معركة شَقحَب. انتصر المماليك على المغول في تلك المعركة وثأروا للهزيمة المدوية التي تلقوها في معركة وادي الخازندار. تذكر المصادر التاريخية أن ابن تيمية حارب في تلك المعركة، وأنه شحذ همم المماليك بخطبه الحماسية. كما أنه بشّر الناس بالنصر، وأفتى لهم بالإفطار في ذاك اليوم -لأن المعركة وقعت في شهر رمضان- حتى يتمكنوا من خوض المعركة بكامل قواهم.

من جهة أخرى، سنجد أن ابن تيمية لم يكن بعيداً عن الأحداث السياسية التي دارت في عصره. تتحدث المصادر أنه زار القاهرة لمقابلة سلاطين المماليك وأمرائهم مرات عدة، وأنه ألحّ عليهم في ضرورة قتال المغول، وكان يسمّي المماليك "الطائفة المنصورة". أيضاً، دعا شيخ الإسلام الناسَ إلى طاعة المماليك لكونهم أولي الأمر وأصحاب السلطة السياسية الشرعية التي ينبغي أن ينقاد لها المسلمون.

دفاع ابن تيمية عن السلطة المملوكية ظهر بشكل واضح في كتابه المسمى "المظالم المشتركة".

يعترف ابن تيمية في هذا الكتاب بأن المماليك كثيراً ما يظلمون الناس عند جمع الضرائب والمكوس والجزية. برغم ذلك طلب ابن تيمية من الرعية أن يدفعوا ما يُطلب منهم، وألا يتهربوا من الدفع، فقال: "المُكرَهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل في ما يُطلب منهم وليس لبعضهم أن يظلم بعضاً في ما يُطلب منهم، بل عليهم التزام العدل في ما يؤخذ منهم بغير حق كما عليهم التزام العدل في ما يؤخذ منهم بحق".

لم يمنع هذا التأييد المماليك من معاقبة ابن تيمية أكثر من مرة. تذكر المصادر التاريخية أن شيخ الإسلام تعرّض للحبس بأمر بعض السلاطين والولاة عندما خالف رأي جمهور العلماء في بعض القضايا، ومنها زيارة قبر النبي، والطلاق بلفظ الثلاث.

لماذا اختار ابن تيمية أن يتحالف مع المماليك ويعادي المغول؟

يجيب الكثير من الباحثين عن هذا السؤال بأن المغول -وإن كانوا قد أسلموا في تلك الفترة- لم يلتزموا فعلياً بالدين الإسلامي. عاث المغول في الأرض فساداً، وانتهكوا حرمات المسلمين، وأراقوا دماءهم. كما أنهم لم يلتزموا بشرع الله، فلم يطبقوا الحدود الواردة في القرآن والسنّة، واستعاضوا عنها بقوانين الياسا/الياسق، وهي القوانين التي وضعها جنكيز خان، مؤسس الإمبراطورية المغولية، سنة 1206هـ.

في هذا السياق، نفهم ما قاله ابن تيمية لمّا سُئل عن قتال المغول المسلمين: "يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنّة رسوله، واتفاق أئمة المسلمين... كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين... فهُم -يقصد المغول- مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان -جنكيز خان- على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنّه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم... ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتّباع غير دين الإسلام أو اتّباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب".

تبدو الإجابة السابقة كافيةً لفهم موقف ابن تيمية المعادي للمغول. ولكن سيظهر عجزها وقصورها إذا عرفنا أن الاعتماد على قوانين الياسا لم يكن أمراً مقصوراً على المغول وحدهم. في الحقيقة كان سلاطين المماليك أنفسهم يعتمدون على الياسا ويلتزمون بما جاء فيه؛ على سبيل المثال، يذكر المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة": "وأصل كلمة اليسق سي يسا، وهو لفظ مركّب من أعجمي وتركيّ، ومعناه: التراتيب الثلاث… وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا، وانتشر ذلك في سائر الممالك حتّى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون 'سي يسا' فثقلت عليهم فقالوا 'سياسة'... ولمّا أن تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري أحبّ أن يسلك في ملكه بالديار المصريّة طريقة چنكزخان هذا وأموره، ففعل ما أمكنه، ورتّب في سلطنته أشياء كثيرةً، لم تكن قبله بديار مصر".

يعني ذلك أن المماليك أيضاً لم يلتزموا بتطبيق الشريعة الإسلامية على الوجه الأمثل، وأنهم تورطوا في العديد من الأفعال المشينة المتعلقة بظلم الرعية والجور على حقوقهم. إذا عرفنا أن سلاطين وأمراء المماليك كانوا، مثلهم مثل المغول، حديثي عهد بالإسلام، وأنهم لم يعتنقوا هذا الدين إلا منذ فترة قصيرة، بعد أن دخلوا في خدمة أسيادهم السابقين من الأيوبيين، حق لنا أن نرفض التفسير السابق. لم يكن ابن تيمية يعادي المغول بسبب سلوكهم الشائن والتهاون في تطبيق الشريعة فحسب. لو كان الأمر كذلك لكان من الواجب أن يرفض شيخ الإسلام السلطة المملوكية أيضاً بدلاً من أن يسمّيهم "الطائفة المنصورة"!

لفهم السبب الحقيقي لمعاداة ابن تيمية للمغول ينبغي الالتفات إلى أمرين مهمين: أولهما جمعي، وهو السياق التاريخي الذي أسلم فيه المغول؛ وثانيهما فردي، وهو منهج ابن تيمية في التعامل مع الآخر المذهبي.

تؤكد المصادر التاريخية أن غازان خان اعتنق الإسلام على يد رجل الدين الشيعي صدر الدين إبراهيم الخراساني الجويني. أثّر الجويني كثيراً في شخصية السلطان المغولي، ودفعه دفعاً لاعتناق المذهب الشيعي الاثني عشري. ظهرت نتائج هذا التحول في الإعلاء من شأن الشيعة في الدولة الإيليخانية، وفي تقريبهم من السلطة السياسية، ومنحهم نفوذاً واسعاً وصلاحيات غير مقيّدة. بعد وفاة غازان خان، تحولت الدولة الإيليخانية بشكل رسمي إلى التشيع الإمامي الاثني عشري في عهد محمد أولجايتو.

على الجهة المقابلة، عُرف ابن تيمية بعدائه الشديد لكل الفرق والمذاهب المخالفة لمنهج أهل السنّة والجماعة، فقد ألّف العشرات من المصنفات في نقض عقائد تلك الفرق.

لفهم السبب الحقيقي لمعاداة ابن تيمية للمغول ينبغي الالتفات إلى أمرين مهمين: أولهما جمعي، وهو السياق التاريخي الذي أسلم فيه المغول، وثانيهما فردي، وهو منهج ابن تيمية في التعامل مع الآخر المذهبي

يذكر ابن أيبك الصفدي في كتابه "أعيان العصر وأعوان النصر": "وضيّع -يقصد ابن تيمية- الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عاند الدين أو ناقضه، ولو تصدّى لشرح البخاري أو تفسير القرآن العظيم، لقلّد أعناق أهل العلوم بدرّ كلامه النظيم".

في هذا السياق يمكن فهم نظرة ابن تيمية إلى الدولة المغولية الإيليخانية. نظر شيخ الإسلام إلى تلك الدولة بوصفها الداعمَ الرئيسَ للمذهب الشيعي، وأنها تمثل التهديد الأعظم للمذهب السنّي القويم الذي يعتنقه غالبية المسلمين. من هنا، كان من الطبيعي أن يحرص ابن تيمية على معاداة المغول، ليس لكونهم من المغول، وليس لأنهم مقصّرون في تطبيق الشريعة الإسلامية، بل عاداهم، في المقام الأول، بسبب اعتناقهم التشيّع. بالتبعية أيّد ابن تيمية سلاطين المماليك باعتبارهم جنود السنّة المدافعين عن الدين والشرع.

من الممكن التأكد من معقولية هذا التفسير إذا ما رجعنا إلى ما كتبه ابن تيمية في فتاواه. يقول شيخ الإسلام منتقداً المغول: "إنهم أظهروا الرفض -التشيّع- ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا عليّاً وأظهروا الدعوة للاثني عشر، الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون… والرافضة تحب التتار ودولتهم، لأنه يحصل لهم بها من العزّ ما لا يحصل بدولة المسلمين".

يتحدث بعدها عن المماليك، ويوضح سبب تأييده لهم، فيقول: "أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما -يقصد المماليك- فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولاً في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه… ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علماً وعملاً وجهاداً عن شرق الأرض وغربها، فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة"


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image