شهدت الانتخابات البلدية في لبنان، وبالأخص في بيروت، هزيمةً لـ"قوى التغيير" أو "قوى الاعتراض" على الوضع القائم، وليس في ذلك أي جديد، فجاري العادة هو أن تنهزم هذه القوى كلما شاركت في استحقاق انتخابي عام، إلا في ما ندر، ما يؤشر على قوة النظام الطائفي.
إذاً، لا جديد إذا كان معيار الجِدّة هو الفوز والخسارة. ولكن الاستحقاق الأخير بيّن تراجعاً كبيراً في شعبية "قوى التغيير"، خاصةً في بيروت، حيث نالت لائحة "بيروت مدينتي"، 7،090 صوتاً كمعدّل، أي 6.6% من مجموع المقترعين، بعد أن كانت اللائحة التي حملت الاسم نفسه ونفس ذاته، قد نالت في الانتخابات الماضية، عام 2016، 29،353 صوتاً كمعدّل، أي 30.2% من مجموع المقترعين.
وهذه المرة أيضاً، ظهر نوع من إجماع عابر للطوائف على التصويت ضد لائحة "بيروت مدينتي"، أو الانكفاء عن دعمها، فتراجعت الأرقام التي حصدتها في أوساط كل الطوائف البيروتية، مقارنةً بما حصدته لائحة العام 2016، التي نالت غالبية أصوات المقترعين المسيحيين (باستثناء الأرمن)، والشيعة.
لأسباب كثيرة، ولأنها لا تمتلك نسقاً خطابياً شاملاً يحمل إجابات عن كامل هواجس الناس، لم تنجح "قوى التغيير" في طرح نفسها بشكل جدّي يسمح لها بأن تكون منافسةً لقوى السلطة، واقتصرت مكانتها في السياسة اللبنانية على لعب دور يشبه دور "المطيّبات" في وجبة الطعام.
هلامية "قوى التغيير"
لم تتمتع "قوى التغيير" في لبنان، يوماً، بحيثية تستطيع بزّ حيثيات القوى السياسية التقليدية أو الطائفية. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، وهزيمة التجارب اليسارية والقومية وتضعضع أحزابها وحركاتها، تراجع حضور "قوى التغيير" بشكل كبير، ولم يعد لها شكل واضح.
في تسعينيات القرن الماضي، أدارت مجموعة قوى متنوّعة يغلب عليها الطابع اليساري، معارك حاميةً عدة، انتخابية ونقابية، ولكن السلطة وأحزابها نجحت في جسر هذه الحالات عبر مزيج من "الزعبرة" وضرب العمل النقابي وتعميق وتوسيع العلاقات الزبائنية بينها وبين الناس، وذلك قبل أن تتمكن هذه القوى من تشكيل حالة اعتراضية واضحة المعالم يحمع بينها أكثر من الاجتماع على رفض الوضع القائم.
بطبيعة الحال، وبسبب فسحة الحرية المتاحة في لبنان، لم ينعدم وجود مجموعات وأفراد عابرين للطوائف، ومعترضين على الوضع القائم وعلى "قوى الأمر الواقع"، وهؤلاء تتنوّع خلفياتهم الفكرية والاجتماعية، ولا تربط بينهم إلا مجموعة أفكار ومبادئ عامة تنتمي إلى مناخ عام يقع ضمنه ما أنتجته جمعيات المجتمع المدني الحقوقية خلال عقود من النشاط، وهو مناخ أكثر بقليل من حقوقي وأقلّ من سياسي، إذا كنّا نفهم السياسة على أنها عمل منظّم يسعى إلى تبوؤ السلطة.
ولكن لم تظهر "قوى التغيير" يوماً إلا بمظهر هلامي، ودائماً يعمّ شعور بين داعميها بأن هنالك شيئاً ما ينقصها، من دون أن يتفق هؤلاء على ماهية هذا النقص بالضبط، وذلك في مقابل الأحزاب الطائفية التي تتسم صورتها في ذهن غالبية الناس بصلابة وثبات نابعَين من ثبات حضور الطوائف في الحياة السياسية اللبنانية.
تعرف قوى السلطة شروط "اللعبة" السياسية ونفسية الناس أكثر بكثير من "قوى التغيير". في بيروت، استخدمت ببراعة سجالاً طائفياً حول المناصفة بين المسيحيين والمسلمين لتصدّر تحالفها الذي جمع تناقضات عجيبةً على أنه الضمانة لـ"الوحدة الوطنية" و"العيش المشترك"...
"مطيّبات" سياسية
منذ بداية الألفية الثالثة على أقل تقدير، لم تستطع "قوى التغيير" أن تتجاوز محدوديات معيّنةً، فإذا كان المناخ التوّاق إلى التغيير عابراً للطبقات الاجتماعية والمناطق إلى حدّ بعيد، عبر أقلّيات شعبية تنتشر من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه، إلا أنه يجد أساسه في مجموعات وشخصيات مدينية تنتمي إلى ما تبقّى أو ما تولّد من طبقة متوسطة، وتمتلك "ترف" التفكير في ما يتعدّى الحاجات الأساسية التي تشغل بال غالبية اللبنانيين الساحقة.
ولم تتمكّن هذه القوى من إنتاج مشروع بديل واضح ومُقْنِع يمكن أن يحلّ محل المشروع اللبناني القائم على الحفاظ على توازنات بين المجموعات الطائفية تحفظ للطوائف (وليس بالضرورة للأفراد)، حقوقاً ولو على حساب نهش جسد الدولة الجامعة بسبب المحاصصة، مع ما ينتج عن ذلك من فسحة حريات يخلقها عجز أي طائفة عن الهيمنة بالكامل على البلد وتحويله إلى ديكتاتورية.
لكل هذه الأسباب، وكذلك لأنها لا تمتلك نسقاً خطابياً شاملاً يحمل إجابات عن كامل هواجس الناس التي ترفض الانقياد نحو مجهول، ولو كان المعلوم الذي تقدّمه لها الأحزاب الطائفية لا يرضيها بالكامل، لم تنجح "قوى التغيير" في طرح نفسها بشكل جدّي يسمح لها بأن تكون منافسةً لقوى السلطة، واقتصرت مكانتها في السياسة اللبنانية على لعب دور يشبه دور "المطيّبات" في وجبة الطعام.
فهذه القوى تعوّل عليها، في بعض المحطات، بعض الفئات اللبنانية لتحسين واقع حياتها ولإصلاح بعض الضرر الناجم عن صراعات القوى الطائفية، ولكن لا يُعوَّل عليها لبناء نظام سياسي جديد. وهذه المساحة التي تستطيع "اللعب" فيها، تفترض وجود حدّ أدنى من الحضور الواضح للدولة ومؤسساتها، ففترات الانهيار أو الوقوف على حافته تحتاج إلى أكثر من تحسين و"مطيّبات"، لأنها تحتاج إلى بناء، ويبدو أنّ دور البناء يتركه الوعي الشعبي اللبناني للأحزاب الطائفية.
ولذلك، أظهرت لحظة الانتخابات البلدية الأخيرة تنامياً للطلب على القوات اللبنانية في الجانب المسيحي، وعلى الثنائي الشيعي في الجانب الإسلامي-الشيعي، في بيروت وخارجها، وهما الطرفان الأكثر انخراطاً في الصراع على شكل لبنان وتوجهاته وتموضعه في الفترة المقبلة.
لم تظهر "قوى التغيير" في لبنان يوماً إلا بمظهر هلامي، ودائماً يعمّ شعور بين داعميها بأن هنالك شيئاً ما ينقصها، وذلك في مقابل الأحزاب الطائفية التي تتسم صورتها في ذهن غالبية الناس بصلابة وثبات نابعَين من ثبات حضور الطوائف في الحياة السياسية اللبنانية.
ملعب السلطة وجمهورها
تعرف قوى السلطة شروط "اللعبة" السياسية ونفسية الناس أكثر بكثير من "قوى التغيير". في بيروت، استخدمت ببراعة سجالاً طائفياً حول المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في عضوية المجلس البلدي للعاصمة اللبنانية، لتصدّر تحالفها الذي جمع تناقضات عجيبةً على أنه الضمانة لـ"الوحدة الوطنية" و"العيش المشترك"، مع أنّ تتبّع هذا السجال يوضح أن لا قوى وازنةً ولا شخصيات وازنة اعترضت على المناصفة.
وكان من نتائج ذلك أن نشطت الأحزاب المسيحية الكبرى كافة (القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ والكتائب)، لحشد الأصوات المسيحية للائحة "بيروت بتجمعنا"، فيما نشط "الثنائي الشيعي" لحشد الأصوات الشيعية لها، ما حدّ بشكل كبير من "تسرّب" أصوات المسيحيين والشيعة إلى لائحة "بيروت مدينتي".
والمناصفة في مجلس بيروت البلدي لا تنصّ عليها القوانين، وهي بمثابة نوع من عُرف، مع أنّ المسيحيين لا يشكّلون إلا نحو ثلث الناخبين. وأساس هذا السجال ليس استكثار تخصيص نصف المقاعد للمسيحيين، بل التزاوج بين هذا التخصيص وبين واقع قانوني يحرم المجلس البلدي المنتخَب من صلاحيات تتمتع بها مجالس كل البلديات الأخرى في طول لبنان وعرضه، ويمنحها لمحافظ تعيّنه السلطة السياسية، وينتمي إلى طائفة الروم الأرثوذكس.
وبطبيعة الحال، لم تنخرط "قوى التغيير" في هذا السجال، بل هربت منه كما تهرب من كل السجالات الطائفية، عادّةً أنها بذلك تترفّع عن آفة منتشرة في المجتمع، ومعانِدةً لواقع أنّ الخوض في هذه السجالات ضرورة في بلد لم يحفظ تميّزة النسبي عن محيطه في مجال الحريات إلا التوازنات الطائفية، وأنه ضروري إذا كان هنالك توق إلى إعادة تكوين السلطة في لبنان على أسس جديدة.
من المبكر إعلان وفاة حالة "بيروت مدينتي". ولكن هذه الحالة التي أخذت في بدايتها دفعاً من التظاهرات التي خرجت بعنوان "طلعت ريحتكم"، على خلفية أزمة جمع النفايات في العاصمة عام 2015، والتي زاد زخمها بعد انتفاضة تشرين الأول عام 2019، تراجعت بشكل لافت.
وعلى الأرجح سيستمر هذا التراجع، مدفوعاً بسلوك المسيحيين والشيعة في الانتخابات البلدية الأخيرة، وبسلوك غالبية السنّة التي فضّلت لائحة ثالثة حققت نتائج جيّدةً وتمكنت من خرق اللائحة الفائزة بعضو وحصدت ما معدّله أكثر بقليل من 27،000 صوت (42،053 للّائحة الفائزة)، وذلك إلى حين "شدشدة" هيكل الدولة المترهّل وتوافر فسحة جديدة للعمل السياسي التوّاق إلى "التحسين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ 4 أيامA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ أسبوعترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ أسبوعOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...